الاثنين، 30 مارس 2015

الحديث الثامن

عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى ) رواه البخاري ومسلم .

الشرح
بعث الله سبحانه وتعالى الرسل الكرام ، وأنزل معهم الكتب العِظام ، لينشروا الدين في أرجاء المعمورة ، فيكون ظاهرا عاليا على سائر الأديان والملل ، كما بيّن سبحانه ذلك في قوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ( البقرة : 193 ) .

وكانت هذه المهمة محور دعوة كل أنبياء الله ، فقاموا جميعا لتحقيق هذه الغاية ، باذلين في ذلك الغالي والنفيس ، والمال والنفس ، داعين إلى الله بالليل والنهار ، والسرّ والعلانية ، فانقسم الناس عند ذلك إلى فريقين : فريق قذف الله في قلبه أنوار الحق ، فانشرح صدره للإسلام ، فوحّد ربّه ، واتّبع شريعته ، وفريق طمس الله بصيرته ، وجعل على قلبه غشاوة ، فأظلم قلبُه ، وأبى أن يقبل دعوة الحق ، ولقد أوضح الله تعالى حقيقة الفريقين في قوله تعالى : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } ( محمد : 3 ) .

إن انقسام الناس إلى مصدّق ومكذّب ، ومؤمن وكافر ، أمر حتمي تجاه كل ما هو جديد ، وتجاه كل دين أو معتقد ، وإذا كان انقسامهم أمرا لازما ؛ فإنه يجب على ذلك الدين أو ذلك المعتقد أن يتعامل مع كلا الفريقين ، وجميع الطائفتين ، وهذا عين ما جاءت به شرائع الله عزوجل ، ومنها الإسلام .

لقد أمرنا الله تعالى في دين الإسلام أن ندعو المعرضين والمكذبين بالحسنى ، وأن نجتهد في ذلك ، بل أن نجادلهم بالتي هي أحسن ، فإن أبوا ، كان لزاما عليهم ألا يمنعوا هذا الخير من أن يصل إلى غيرهم ، ووجب عليهم أن يفسحوا لذلك النور لكي يراه سواهم ، فإن أصروا على مدافعة هذا الخير ، وحجب ذلك النور ، كانوا عقبة وحاجزاً ينبغي إزالته ، ودفع شوكته ، وهذا مما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ) ، فهو صلى الله عليه وسلم مأمور بنشر دين الإسلام ، واستئصال شوكة كل معاند أو معارض ، وتلك هي حقيقة الدين وغايته .

لكن ما سبق لا يدل على أن دين الإسلام دينٌ متعطشٌ للدماء ، وإزهاق أرواح الأبرياء ، بل هو دين رحمةٍ ورأفةٍ ، حيث لم يكره أحدا على الدخول فيه ، بشرط ألا يكون عقبةً أو حاجزاً كما تقدم ، وقد قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي } ( البقرة : 256 ) .

ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا ، الأمور التي تحصل بها عصمة الدم والنفس ، وهي : النطق بالشهادتين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فمن فعل ذلك ، فقد عصم نفسه وماله ، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه العصمة المطلقة ، أو العصمة بالإسلام ، وحقيقتها : أن يدخل المرء في دين الإسلام ، ويمتثل لأوامره ، وينقاد لأحكامه ، فمن فعل ذلك كان مسلما ، له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم .

أما العصمة المقيّدة أو العصمة لغير المسلمين ، فحقيقتها : أن كل كافر غير محارب ، أي : المُستأمن والذميّ والمعاهَد ، فإنه معصوم الدمّ ، بشروط معينة وضّحها العلماء في كتبهم .

وإذا أردنا أن نوضّح حقيقة العصمة بالإسلام فنقول : إن من تلفّظ بالشهادتين ، فإننا نقبل منه ظاهر قوله ، ونكل سريرته إلى الله تعالى ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا أن ننقب عن قلوب الناس ، أونبحث في مكنونات صدروهم ، أسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لا يعني ترك الانقياد للدين أو العمل بأحكامه ، فإن من شروط لا إله إلا الله الانقياد لها ، والعمل بمقتضياتها .

أما إقامة الصلاة ، فهي من أعظم مظاهر الانقياد والعبودية، بل إن تاركها ليست له عصمة ، يشهد لذلك قوله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ( التوبة : 11 ) ، فدل على أنهم إن لم يصلوا فلا أخوة لهم ، ولما أراد خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يضرب عنق ذي الخويصرة - الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للمال - نهاه عن ذلك قائلا : ( لا ؛ لعله أن يكون يصلي ) رواه البخاري و مسلم ، وهذا يقتضي أنه لو كان تاركا للصلاة لما منع خالدا من قتله .

وإيتاء الزكاة المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ويؤتوا الزكاة ) ، هي من مظاهر الانقياد المالية لله تعالى ، ولا يعني ذكرها في الحديث أن مجرد الامتناع عن أدائها كفر مخرج من الملة ، بل في ذلك تفصيل آخر ليس هذا مجال بسطه.

وإذا تحققت هذه الأمور الثلاثة في شخص أو فئة ، حصلت لهم العصمة التامة ، فتصان دماؤهم وأموالهم وأنفسهم ، إلا بسبب حق من حقوق الإسلام ، وذلك بأن يرتكب الإنسان ما يبيح دمه ، كالقتل بغير حق ، والزنى مع الإحصان ، والردة بعد الإسلام.

وبذلك يتبين لنا أن الإسلام دين يدعوا الناس جميعا إلى الالتزام بأحكام الله تعالى ، فإذا أدوا ما عليهم من واجبات ، فقد كفل لهم حقوقهم ، وصان أعراضهم وأموالهم .

(سورة الأنعام) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

            ســورة الأنعام (من اية 1 الى 110)

أسَـاطـير الأوّلـين :

( يَقُولُ الـذينَ كَـفَروا إنْ هَـذا إلاَّ أَسَـاطِـيرُ الأوَّلـينَ )[ الأنعام 25 ] :
وَ قَدْ أَهْمَلَتِ العُلُومُ الشَرْعيَّةُ دِراسَةَ الأُسْطُورَةِ ، لأَنَّ الأَسَاطيرَ تُعْنى بالخُرافَاتِ وَ اللاَّ مَعْقُول وَ حَكايَا الآلِهَـةِ المُتَعَدِّدَةِ ، فاعْتَبَرَهَا عُلَمَاءُ الشَريعَةِ أباطِيْـلاً ، وَ قَدْ سَـاعَدَ هَذا لإهْمَالَ ، البُعْـدُ الزَمَنيُّ مَـا بَيْنَ التُراثِ القديمِ وَ بَيْنَ اليَوْمِ ، حَيْثُ لَمْ يَعُدْ للتُراثِ القَديمِ أيَّ تَأثيرٍ يُذْكَرُ في حَيَاةِ النَاسِ هَذِهِ الأيَّامَ ، وَالسُؤالُ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ بِقُوَّةٍ : هَلْ يَجُوزُ إهْمَالُ دِراسَةِ التُراثِ المِصْريِّ العَريق جِدّاً ، مِنْ أجْلِ فِرْعَوْنٍ طَغى : ( اِذْهَـبْ إلـى فِرْعَـوْنَ إنَّهُ طَـغَـى )[ طه 24 ] وَ غَرِقَ مَعَ جَيْشِهِ في البَحْرِ ، وَ انْتَهى الأَمْرُ ، أمْ أنَّ دِراسَـةَ التَاريخِ القَديمِ دُونَ أسَاطيرِهِ ، هيَ دِراسَةٌ مَبْتُورَةٌ ناقِصَةٌ .
وَ تَخْتَلِفُ الأسْطورَةُ عَنِ التعاليمِ الدينيّةِ ، بِأنَّ الأسَـاطيرَ لاَ تَهْتَمُّ بِإرْشَـادِ البَشَرِ ، مِثْلَمـَا التعاليمُ الدينيّةُ ، وَ الناسُ يَخْتَبرونَ الحياةَ عَلى جانبيْنِ : العِـلْمُ وَ الأُسْطورَةُ ، وَ بِمَـا أنَّ العِلْـمَ يَزْدادُ سَـيْطَرَةً ، فَإنَّ الـوَعْيَ الأُسْـطوريَّ اللاَّعَقْـلانيَّ يَتَراجَعُ ، لأَنَّ الوَعْيَ الأُسْطوريَّ لاَ يَظهَرُ إلاَّ عِنْدَمـَا يَنْهَارُ المجْتَمَعُ العَقْلانيُّ العِلْميُّ .
وَ قَدْ كَانَ سَرْدُ الأَسَـاطيرِ ضَرورَةً حَيَويَّـةً لِلناسِ في الماضي ، لِشَحْـذِ المواهِبِ الروحيَّـةِ التي جَعَلَـتْ الإنسَان يَبْتَكـرُ أَسَاطيرَهُ لِفَهْمِ الكثيرِ مِنَ المعَـاني مِثْلَ : مَعْنى الوِلادَةِ وَ الموْتِ وَ مَا بَعْدَ الموتِ ، وَ مَعنى القَضَـاءُ وَ القَدَرُ وَ الوجُودُ ، وَ الخِصْبُ وَ البُطُولَةُ وَ قيامَـةُ الأمْواتِ وَ الخلودُ ... ، فَلِكلِّ سُـؤالٍ أُسْـطورَةٌ تُجيبُ عليـهِ ، كمَا أنَّ لِكُلِّ مَـزاجٍ أُسْطورَةٌ تُلائمُـهُ ، فبَعيداً عَنِ السُـلوكيّاتِ الدينيّةِ وَ جَدَ الإنْسانُ سُلوكيّاتٍ لاَ مَعْقولَة ٍ وَلاَ مُبَرّرَة إلاَّ عَنْ طَريقِ الأَسَـاطيرِ ، فأبْطالُ الأسَـاطيرِ عِنْدَهُ كانوا يَقومُونَ بأعْمالٍ خَارِقَةٍ ، وَ يُحَقِّقُون كافّةَ الرَغَباتِ وَ الأمَـانيِّ ، وَ يَهْزِمُونَ حتّى الآلِهَـةَ ، مِمّـا يُشِـيرُ إلى انْفِـلاتٍ لِمَكْـبوتاتِ اللاّوَعي الشَـعْبيِّ .
وَ قَدْ أغْنى القُرْآنُ الكَـريمُ العَقْلَ البَشَـريَّ بِمَـواضيعَ تَفوقُ مَـدى التَصَـوُّرِ البَشَـريِّ الذي تَحُـدّهُ قوانينُ الطَبيعَـةِ ، مِثْلَ النَاقَةِ التي خَرَجَتْ مِنَ الصَخْرِ [ ناقَةُ النبي صَـالح ] ، وَ البُراقُ الذي يَسْـتَحيلُ تَصْـنيفَهُ ضِمْنَ أيِّ فَصِيلَةٍ حَيوانيّـةٍ مَـعْروفةٍ ، كُلُّ هَذا كَيْ يَتْرُكَ للفِكْيرِ البشَـريِّ حُـرِيّةَ الانْطِلاقِ وَالتَصَوُّرِ لِمَـا وَراءِ الطَبيعَـةِ وَ قَوانينِهـَا ، بَعْدَ الإيمَـانِ بِهَذِهِ الأحْـداثِ ، وَ نَحْنُ كَمُؤمِنِينَ نَبْحَـثُ عَنِ العَـوامِل المَوْضُـوعيّةِ للحَـدَثِ الدينيِّ مثل [ الإسْـراءِ وَ المِعْـراجِ ] ، وَ نَتركُ اللاَّ مَوْضُوعيَّ فيهِ لِجـانِبِ الإيْمَـانِ ، دُونَ أنْ نكُـونَ قَدِ ارتكبْنـا خَطَـأً في حَـقِّ العِـلْمِ وَ الدينِ مَعَـاً .
وَ الأدْيـَانُ قَدْ جَاءَتْ رَدّاً عَلى الجَهْلِ المَعْـرِفيِّ [ عَصْر الجاهليّةِ ] ، وَ الحديثُ الشَريفُ : [ اللهُمَّ اهْـدِ قَوْمي فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُـونَ ] ، فالأَسَـاطيرُ أوَّلَ مَـا نَشَـأتْ في المَعَـابِدِ ، وَ كانَتْ مُهِمّتهَا تَقْـديمَ تَفْسِـيرٍ للظَـواهِرِ التي عَجِزَ الإنْسَـانُ عَنِ الوُصُـولِ لإجاباتٍ صَـادِقَةٍ عَنْهـَا ، فَجَـاءَتِ الأُسْـطُورَةُ لِتُفَسِّـرَ الحاضِرَ وَ تُعْطي الأمَـلَ في مُسْـتَقْبَلٍ أفْضَـلَ ، وَ قَـدْ قَسَّـمَتِ الأُسْـطُورَةُ العَمَـلَ إلى يَدَويٍّ وَ ذِهْنيٍّ ، وَ لِهَذا كانَتِ الأَسَـاطيرُ جـزْءاً مِنْ بُنْيَـةِ الأَدْيانِ وَ طُقُوسِ العِبَـادَةِ ، لكنَّهـَا لَـمْ تتّخِذْ صِـفَةَ الإلْـزامِ ، مِمّـا جَعَلَهـَا عُرْضَـةً دائِمَـةً للتَغْـييرِ ، وَ كَذا كانَ مَعَ الأدْيانِ وَ الرِسَـالاَتِ السَـماويّةِ التي كانَ الناسُ يُحَـرِّفونَهَا بلْ وَ يَبْتَدِعُونَ كُتُـباً سَـماويّةً مِنْ تأليفِهِـمْ : ( فَـوَيْـلٌ لِـلّـذينَ يَـكْــتُبُـونَ الـكِـتَابَ بأيْـديهِـمْ ثُـمَّ يَقُـولُـونَ هَـذا مِـنْ عِـنْـدِ اللَّـهِ )[ البقرة 79 ] ، وَ بِسَـبَبِ تَداخُلِ الأَسَـاطيرِ مَعَ الأَدْيانِ فَقَدْ بَدَأتِ المُعْتَقَداتُ بِعِبـادَةِ ظَواهِرِ الطبيعَـةِ : ( وَجَدْتُهَـا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدونَ لِلشَمْسِ مِنْ دُونِ اللَّـهِ )[ النمل 24 ] ، لذلك يقول تعالى : ( لاَ تَـسْجُدوا لِلشَمْـسِ وَ لاَ لِلقَـمَـرِ وَ اسْـجُـدوا لِلَّـذي خَـلَـقَـهُـنَّ )[ فصلت 37 ] ، ثُمَّ انتقلت المعتقدات إلى عِبادَةُ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَدَأتْ إنـاثَاً أوَّلاً : ( أَ فَـرَأيْتُمُ الـلاّتَ وَ الـعُـزَّى وَ مَـنَاتَ الـثَـالِـثَـةَ الأُخْـرى)[ النجم 19 ] ، ثُمَّ ذُكُوراً : ( فَراغَ إلـى آلِـهَـتِهِـمْ فَقَـالَ أَلاَ تَأْكُـلُـونَ )[ الصافات 93 ] ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الحُكَّامُ إلى آلِهَةٍ ، فَفِرْعَوْنُ : ( قَـالَ مَـا عَـلِـمْـتُ لَـكُـمْ مِـنْ إلَـهٍ غَـيْـري )[ القصص 38 ] .
كل هـذا و اللـه أعلـم .




(سورة المائدة) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

              ســورة المائدة (من اية 82 الى اخرها)

الخَـمْـرُ وَ المَيْسِـرُ وَالأَنْصَـابُ وَ الأزْلاَمُ :
( إنَّمَـا الـخَـمْـرُ وَالـمَـيْـسِـرُ وَالأَنْصَـابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْـسٌ مِـنْ عَـمَـلِ الـشَـيْطَـانِ فَاجْـتَنِبُوهُ )[ المائدة 90 ] ، الـخَـمْـرُ هو : كُلُّ أنْواعِ المُسْكِراتِ مَهْمَا كَانَتْ أسْمَاؤُهَا وَ أنْواعُهَا ، الـمَـيْـسِـرُ هو : كُلُّ أَنْواعِ القِمَارِ وَ المُراهَـنات ، الأَنْصَـابُ هي : هيَ كُلُّ الأشْكَالِ وَ الهَياكِلِ التي تُعْبَـدُ حَصْراً ، وَ تُقَدَّمُ لِهَـا القَرابينُ : ( وَ مَـا ذُبِحَ عَـلـى الـنُصُـبِ )[ المائدة 3 ] ، حَتَّى أَنَّ مَا يُذْبَحُ عَلى النُصُبِ غَيْرُ قَابِلٍ للتَزْكِيَةِ ، لأَنَّهُ قَدْ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله : ( أُهِـلَّ لِـغَـيْرِ اللّـهِ بِهِ )[ المائدة 3 ] ، ( فِسْـقَـاً أُهِـلَّ لِـغَـيْرِ اللّـهِ بِهِ )[ الأنعـام 145 ] ، الأَزْلاَمُ هي : كُلُّ وَسَائِلِ ضَرْبِ الحَـظِّ .
_ الرِجْـسُ : هُـو اخْتِـلاَطُ الأُمُـورِ ، وَ ضَـياعُ الصَحيحِ مِنْهَا : ( إنَّمَـا يُريدُ اللـّهُ لِـيُذْهِـبَ عَـنْكُـمُ الـرِجْـسَ أَهْـلَ الـبَيْتِ وَ يُطَـهِّـرَكُـمْ تَطْـهِـيراً ) [ الأحزاب 33 ] ، ( فَاجْـتَنِبوا الـرِجْـسَ مِـنَ الأَوْثَانِ )[ الحج 30 ] ، ( فَاعْـرِضُـوا عَـنْهُـمْ إنَّهُـمْ رِجْـسٌ )[ التوبة 95 ] ، ( كَـذَلِـكَ يَجْـعَـلُ اللّـهُ الـرِجْـسَ عَـلـى الـذينَ لاَ يُؤْمِـنُونَ )[ الأنعام 125 ] ، ( وَ أمّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ مَـرَضٌ فَزَادَتْهُـمْ رِجْـسَـاً إلـى رِجْـسِـهِـمْ )[ التوبة 125 ] .
أمَّا الرِجْـزُ : الكَسَلُ وَ العَـذَابُ وَ المُعَاناةُ : ( لَـهُـمْ عَـذَابٌ مِـنْ رِجْـزٍ أَلـيمٍ )[ سبأ 5 ][ الجاثية 11 ] ، ( وَ لَـمّـا وَ قَـعَ عَـلَـيْهِـمُ الـرِجْـزُ )[ الأَعراف 134 ] ، ( فَـأنْزَلْـنَا عَـلـى الـذينَ ظَـلَـمُـوا رِجْـزَاً مِـنَ الـسَـمَـاءِ )[ البقرة 59 ] ، ( و يُذْهِـبَ عَـنْـكُـمْ رِجْـزَ الـشَـيْطَـانِ ) [ الأنفال 11 ] ، فالشَـيْطَانُ إذَاً : لَدَيْهِ الرِجْسُ وَ الرِجْـز ُمَعَاً ، وَ اللّهُ بِكَرَمِهِ يُريدُ أَنْ يُذْهِبَهُمَا مَعَاً عن الناسِ .

( جَـعَـلَ اللّـهُ الـكَـعْـبَةَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] :
تُعْتَبَرُ الكعبَـةُ مَرْكَزاً لِلحـقِّ في الأرضِ : ( جَـعَـلَ اللّـهُ الـكَـعْـبَةَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ قِيامَـاً لِلـنَاسِ )[ المائدة 97 ] ، وَ الاتجاهُ نَحْوَ الكعْبَـةِ في الصَلَواتِ مِنْ كلِّ بِقاعِ الأرضِ ، يَجْعَلُ الكعْبَةَ في المركَـزِ ، وَ المصَلِّينَ مِنْ كُلِّ بِقاعِ الأرْضِ يُشَكِّلونُ حَلَقاتٍ دائِريَّةٍ حَوْلَهَا : ( وَ مِـنْ حَـيْـثُ خَـرَجْـتَ فَـوَلِّ وَجْـهَـكَ شَـطْـرَ الـمَـسْـجِـدِ الحَـرامِ وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُمْ فَوَلّـوا وُ جـوهَـكُـم شَـطْـرَهُ ) [ البقرة 150 ] ، مِـنْ حَـيْـثُ خَـرَجْـتَ : في الصـلاةِ وَغَيْرِ الصَـلاَةِ لِلتَزَوُّدِ بالطَاقَةِ الصَادِرَةِ عَنْهُ .
لِذَلِكَ كانَتِ الكعبَـةُ مَرْكَزَ الحَـقِّ في الأرْضِ ، وَ بِما أنَّها تَتَوَسّـطُ اليابِسـَةَ فَيُمْكِنُ اعتِبارُهَا
مَركَزَ الأرضِ الجغرافيّ ، وَ قَدْ ذُكِرَتْ مَكّةُ في القرآنِ الكريمِ باسمها الصريح بِقَوْلِهِ تعالى : ( وَ هـوَ الـذي كَــفَّ أَيدِيَهُـمْ عَـنْكُمْ وَأَيْدِيَكُـمْ عَـنْهُـمْ بِبَطْـنِ مَـكَّـةَ )[ الفتح 24 ] .
وَ مَكّةُ : اسـمٌ يَخُصّ الحَرَمَ المَكيّ ، وَ يَمتَدُّ حَوالي [ 13 كم ] حَوْل المسجدِ الحَرامِ .
وَ إذا تَأَملْنا قَوْلَهُ تَعالى : ( جَـعَـلَ اللّـهُ الـكَـعْـبَةَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ قِيَامَـاً لِلـنَاسِ )[ المائدة 97 ] ، لَبَـدا لَنـا أنَّ الكَعْبَـةَ هيَ أسَـاسُ المَنَـافِعِ بالنسبَةِ للنَاسِ عامَّـةً ، وَ للمسلمينَ خاصَّـةً وَ للحُجَّاجِ منْهمْ بوَجْهٍ أخَصُّ : ( لِـيَشَـهَـدوا مَـنَافِـعَ لَـهُـمْ )[ الحج 28 ] ، وَ أهَمُّ هذهِ المنافِعِ هيَ الحَنيـنُ للموْطِنِ الأصْليِّ ، فَلَدى جميعِ الكائناتِ الحيّةِ وَ مِنْها الإنسَانُ حَنينٌ عَجيبٌ لِمَوْطِنهَا الأصْليِّ ، فالسَلاحِفُ وَ سَـمَكُ السَلَمونِ وَ الطيورُ المهَـاجرةُ مَثَلاً ، كُلُّهَا تَعودُ لِموطِنِهَا الأصليِّ بَعْدَ طُـولِ هجْرَةٍ ، فَالناسُ في الحَـجِّ وَ العُمْرَةِ يَذْهبونَ إلى حَيْثُ يَشُدُّهُمُ الحنـينُ إلى المَوْطِنِ الأوَّلِ للإنسانيَّةِ إلى مَكَّـةَ : ( أُمَّ الـقُرى )[ الأنعام 92 ][ الشورى 7 ] ، فَمِنْ مَوْقِعِ مكَّةَ انتَشَرَتِ الإنسَانيةُ في الأرضِ ، وَإلى هَذا الموقِعِ تَعودُ بالحَـجِّ يَشُدُّها الحنينُ إلى نُقْطَةِ البَدْءِ هذهِ : ( وَ إذْ جَـعَـلْـنَا الـبَيْتَ مَـثَابَةً لِلّـنَاسِ وَ أَمْـنَاً )[ البقرة 125 ] ، مَـثَابَةً لِلّـنَاسِ : مَرْجِعـاً يرجعـونَ إليْـه .
لِذا يَكْفي إعْلانُ الحَـجِّ فَقَطْ حَتَّى يَتَوافَدَ الناسُ غَيْرَ عابِئـينَ بالمَشَقَّةِ وَ مَخَاطِرِ السَفَرِ وَ بُعْدِ المسَافَةِ : ( وَ أَذِّنْ فـي الـنَاسِ بالـحَـجِّ يَأْتُوكَ رِجَـالاً وَ عَـلـى كُـلِّ ضَـامِـرٍ يَأْتِيْنَ مِـنْ كُـلِّ فَجٍّ عَـمـِيقٍ )[ الحج 27 ] ، رِجَـالاً : مُشَـاةً على أرْجُلِهِمْ مُتَحَمِّلينَ مَشَـاقَّ السـيرِ ، وَ عَـلـى كُـلِّ ضَـامِـرٍ : رُكوباً على الحيواناتِ الضامِـرَةِ مِنْ طولِ السَفَرِ ، يَأْتِيْنَ مِـنْ كُـلِّ فَجٍّ عَـمـِيقٍ : دليلَ بُـعْدِ المسَـافَةِ مِنْ جهَةٍ ، وَ عُمْقِها مِنْ جِهَـةٍ أخْرى ، فَكلِمَةُ [ عميق ] دَليلُ كرويَّـةِ الأرْضِ .
و الكَـعْبَةُ هيَ رَمْـزُ وَحْـدَةِ المسلمينَ ، فَبِدونِهَـا لاَ يَقومُ لَـهُمْ ذِكْرٌ وَ لا شَـأْنٌ وَ لا حَيَـاةٌ ، وَ لَنْ تَنْمـو لَهمْ قـوَّةٌ إذا لَمْ يُعْطـوا هذا البَيْتَ العَـتيقَ قيمَتَهُ الحَقيقيّةُ ، وَ إعطاءَ شَعَـائِرِهِ أبْعادَهـَا الإنسانيـّةَ العامّـةَ : ( وَ مَـنْ يُـعَـظِّـمْ شَـعَـائِـرَ اللّـهِ فَـإنَّـها مِـنْ تَـقْـوى الـقُـلوبِ ) [ الحج 32 ] ، فَكُلُّ إنْسانٍ مُسْلِمٍ في العَـالَمِ ، يَسْتَطيعُ عِبادَةَ اللهِ الواحِدِ و الصلاةِ لَـهُ دونَ الخَوْفِ مِنْ أحَدٍ ، وَ يَتَوَجَّهُ إلَيْها وَ يَقْصدُهـَا المؤمِنونَ مِنْ كُلِّ بِلادِ العَالَمِ ، لِيَجِدوا فيها الأمْنَ وَ السلامَ المفْقودَيْنِ بيْنَ شُعوبِ الأرْضِ : ( أَ وَ لَـمْ يَـرَوْا أنَّا جَـعَـلْـنَا حَـرَمـاً آمِــناً وَ يُـتَـخَــطَّـفُ الـنَاسُ مِـنْ حَـوْلِـهـمْ )[ العنكبوت 67 ] ، ( أَ وَ لَـمْ نُـمَـكِّـنْ لَـهُـمْ حَـرَمـاً آمِـنـاً يُجْـبى إلَـيْهِ ثَمَـراتُ كُـلِّ شَـيْءٍ رِزْقَـاً مِـنْ لَـدُنَّـا )[ القصص 57 ] ، ( وَ مَـنْ دَخَـلَـهُ كَـانَ آمِـناً )[ آل عمران 97 ] ، وَ لِهذا أصْبَحَتْ مَكَّةُ مَرْكَزاً لِلثَقافاتِ العالَميَّةِ المتنوِعَةِ حَيْثُ يَحِجُّ إلَيْها المسلِمونَ مِنْ كلِّ بِلادِ العَالَمِ عَلى اختِلافِ أجْناسِهِمْ فهيَ أهَـمُّ مَرْكَزٍ دِينيٍّ عالَميٍّ .
وَ الكَـعْبَةُ لُغَـةً : هيَ الغُرْفَـةُ المرَبَّـعَةُ ، فَهيَ بِنـاءٌ مُكَـعَّبُ الشَـكْلِ ، ارتِفاعُهَـا 16 متـراً ، وَ طـولُ ضِلْعِهـَا الذي يحـوي البـابَ = 12 متـر ، وَ طولُ ضِلْعِها لذي يّحوي [ الميزابِ و هو مزرابُ السطحِ ] = 10 متر وَ 10 سم ، يَرْتَفِـعُ بابـُها مترَينِ عَن الأرضِ وَ يَتَّجِهُ للشِمالِ الشَرْقيِّ ، وَ تُسَمَّى زَواياهَـا أرْكانٌ ، وَ الركْنُ الذي عَلى يَسَارِ البابِ يَحْتَوي الحَجَـرَ الأسْـوَدَ عَلى ارتفاعِ مترٍ وَ نِصْفٍ ، وَ هيَ بِنـاءٌ مِنَ الحَجَرِ الرَماديِّ ، وَ الزاويةُ الشماليّةُ تُسمّى العراقيّـةُ ، و الغربية تُسَمّى السـوريّةُ ، وَ الجنوبيّـةُ تُسمّى اليمنيّـةُ ، وَ يَقَعُ الحَطيمُ في جِهَتِها الغربيّةِ .
كانَتِ الكعْبَةُ قائِمَةً قَبْلَ إبراهيمَ عليهِ السلام ، لَكِنَّها كانَتْ مُنْدَثِرَةً ، فَأمَرَ اللهُ نَبِيَّـهُ إبراهيمَ بإعادَةِ بِنائِهـا في مَكانِها السابِقِ : ( وَ إذْ بَـوَّأْنَـا لإبـراهـيـمَ مَـكَــانَ الـبَيْـتِ )[ الحج 26 ] ، وَ ذَلِكَ : ( بِـوَادٍ غَـيْـرِ ذي زَرْعٍ )[ إبراهيم 37 ] ، عَلى مُفْتَرَقِ طرُقِ القوافِلِ ، فَبَنى بِمُسَاعَدَةِ ابْنِـهِ إسْماعيل عليهما السلام قَواعِدَهَـا فقطْ : ( وَ إذْ يـرْفَعُ إبراهـيمُ الـقَـواعِـدَ مِـنَ الـبيتِ وَ إسْـمَـاعِـيلَ )[ البقرة 127 ] ، وَ كانتْ بِدونِ سَقْفٍ ، وَ ارتِفاعُهَا حوالي مترين حَتَّـى سَقَفَها [ قُصَيُّ بن كِلاب ] في القرن الثاني قَبْلَ الهجرَة ، وَ رَفَعَ بابَهَا حَوالي مترَين ، وَأخْرَجَ مِنْها حِجْرَ إسْماعيلَ [ الحَطيمُ ] ، وَ قَدْ أعَادَتْ قُرَيْـشُ بِناءَ هَا بَعْدَ أنْ تَصَدَّعَتْ جدْرانُهَا ، بِسَبَبِ سـَيْلٍ جَارفِ أصَابَها مِنْ بَعْـدِ حَريقٍ ، حيثُ شَـارَكَ الرسولُ الكريمُ صلى اللهُ عليهِ وَ سلَّم ببنائِهَا ، وَ وَضَعَ الحجَرَ الأسـوَدَ مَكانَهُ ، وَ كانَ عمرُهُ الشَريفُ وَقْتَ ذاك 35 عَامَاً ، وَ كَانَ آخِرُ بِنَاءٍ للكَعْبَةِ وَ الذي يَطُوفُ حَوْلَهُ المُسْلِمُونَ الآنَ قَدْ تَـمَّ في عَام 1040 هجريّةِ المُوافِقُ عامَ 1630 ميلاديّةٍ

( مَـا جَـعَـلَ اللَّـهُ مِـنْ بَحِـيرَةٍ وَ لاَ سَـائِبَةٍ وَ لاَ وَصِـيْلَـةٍ وَلاَ حَـامٍ )[ المائدة 103 ] :
_ البَحيِـرَةُ : إذا وَلَدَتِ الـدَابَّةُ خَمْسَـةَ أبْطُنٍ ، وَ كَانَ الوَلَدُ الخَامِسُ ذَكَـراً ، ذُبِحَ وَ أكَلَهُ الرِجَالُ وَالنِسَاءُ ، أمَّـا إذا كَانَ الوَلَدُ الخَامِسُ أُنْثى ، بَحَروا - شَقُّوا - أُذُنَهَا وَ يَحْرُمُ أكْلُهَا عَلى النِسَاءِ .
_السَـائِبَةُ : يُنْذَرُ الحَيَوانُ للرَجُلِ إذَا شُـفِيَ مِنَ المَرَضِ أوْ أوْصَلَهُ لِهَدَفِهِ فإنَّ الحَيَوانَ يُتْرَكُ سَـائِبَاً لاَ يُرْكَبُ وَلاَ يُذْبَحُ وَ اَ يُمْنَعُ مِنَ الرَعْي حَيْثُ يَشَـاءُ .
_ الوَصِـيلَةُ : إذا وَلَدَتِ الدَابَّةُ سَـبْعَةُ أبْطُنٍ ، وَكَانَ السَابِعُ ذَكَراً ذَبَحُوهُ ، وَإنْ كَانَتْ أُنْثى تُرِكَتْ ، وَ إنْ كَانَ البَطْنُ السَابِعُ تَوْأمَـاً [ ذَكَراً وَ أُنْثى ] ، قَالُوا : وَصَلَتْ أخَاهَا ، فَلَمْ تُذْبَحْ . _ الحَـامُ : الفَحْـلُ الذَكَرُ ، إذا نَتَـجَ مِنْ صُـلْبِهِ عَشَـرَةُ وِلاَدَاتٍ ، قَالُوا : حَمى ظَهْـرَهُ ، فَلاَ يُذْبَحُ وَ لاَ يُرْكَبُ وَ يُتْرَكُ حُـرّاً .

 كل هذا والله اعلم

الأحد، 29 مارس 2015

(سورة المائدة) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

            ســورة المائدة (من اية 1 الى 81)


أوْفـوا بالعُـقُـودِ :
نُلاَحِظُ عَلى الآيَةِ الأُولى مِنْ سُورَةِ المَائِدَةِ : ( يَا أيُّهَـا الـذينَ آمَـنُوا أَوْفُوا بِالـعُـقُـودِ أُحِـلَّـتْ لَـكُـمْ بَهِـيْمَـةُ الأنْعَـامِ )[ المائدة 1 ] ، العُقُودُ هُنا لَيْسَتْ العُقُودُ التجاريّة ، لأنَّ : [ عَقَدَ ] عُنُقَ الدابّةِ أيْ : لَواهَا وَ هَيَّـأَها لِلْذَبْحِ الحـلالِ ، فأصْبَحَ المَعْنى : يا أيُّهَا الذينَ آمَنوا إذَا ذَبَحْتُمْ على الطريْقَةِ الإسْلاميّةِ [ مِنَ العُنُقِ ] ، سَتَكونُ بَهيمَةُ الأنْعامِ حلالاً عَلَيْكُمْ ، وَ إذا ذَبَحْتُمْ على أيِّ طريقَةٍ أُخْرى كالصَعْقِ الكهْربائِيِّ ، فإنَّ الذبْحَ لَنْ يَكُونَ حلالاً ، وَ لِذَلِكَ نَقُولُ : [ عِقْد المرْأةِ ] لأنَّهُ يُوضَعُ في العُنُقِ ، وَ عَقْدُ الشَيْءِ : وُجُوبُهُ وَ أحْكامُهُ وَ مِنْهُ العَقيـدَةُ ، وَ قَدْ رَكَّزَت الآيَةُ الكريْمَةُ عَلى أنْ يَسِيْلَ الدَمُ مِنَ رَقَبَةِ الدابَّةِ حَصْراً ، وَ لَيْسَ مِنْ أيِّ مَكانٍ آخَرَ مِثْلَ الدابَّةِ التي أكَلَهَا حَيَوانٌ مُفْترِسٌ ، وَ قَدْ تَمَّ إيْضَاحُ تحريم أكل أنواع من الحيوان ماتت بالطرق المختلفة ما عدا الذبح الحلال ، في الآيَةِ الكريمَةِ التالية : ( الـمَـوْقُوذَةُ وَ الـمُـتَرَدِّيَةُ وَ الـنَطِـيحَـةُ وَ مَـا أكَـلَ الـسَـبْعُ إلاّ مَـا ذَكَّـيْتُمْ )[ المائدة 3 ] ، الـمَـوْقُوذَةُ : المضروبة بآلةٍ ثَقيلَة ، الـمُـتَرَدِّيَةُ : سقطت من مكان عالٍ ، الـنَطِـيحَـةُ : ضربها حيوان آخر بِقُرونِـهِ ، مَـا أكَـلَ الـسَـبْعُ : حيوان مفترس ، أيْ لاَ بُدَّ مِنَ التذْكِيَـةِ وَ هي : الذَبْـحُ الحلال ، فالطَعَـامُ الفَاسِـدُ يُفْسِـدُ الجِسْمَ ، وَ يُعْطِيْهِ طَاقَـةَ [ احْـتِراق ] وَ لَيْسَ طَاقَـةَ [ إئْـتِـلاق ] .

( الـهَـدْيَ وَ الـقَـلاَئِـدَ )[ المائدة 97 ] :
الهَـدْيُ : هُوَ الذَبَيحَةُ التي تُهْدى إلى الكَعْبَةِ ، وَ مِثْلُهُ القَلاَئِدُ حَيْثُ تُوضَعُ القِلاَدَةُ للذَبيحَةِ كَإشَارَةٍ : ( يَا أيُّهَـا الـذينَ آمَـنُوا لاَ تَحِـلُّـوا شَـعَـائِرَ اللّـهِ وَلاَ الـشَـهْـرَ الـحَـرامَ وَ لاَ الـهَـدْيَ وَ لاَ الـقَـلاَئِـدَ وَ لاَ آمِّـينَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 2 ] ، ( وَ الـهَـدْيَ وَ الـقَـلاَئِـدَ )[ المائدة 97 ] ( هَـدْيَاً بَالِـغَ الـكَـعْـبَةِ )[ المائدة 95 ] ، ( حَـتّى يَبْـلُـغَ الـهَـدْيُ مَـحِـلَّـهُ )[ البقرة 196 ] ، ( هُـمُ الـذينَ كَـفَروا وَ صَـدُّوكُـمْ عَـنِ الـمَـسْـجِــدِ الـحَــرامِ وَ الـهَـدْيَ مَـعْـكُـوفَاً أَنْ يَبْـلُـغَ مَـحِـلَّـهُ )[ الفتح 25 ] ، مَـعْـكُـوفَاً : ثَابِتَـاً مَكَانَهُ ، أَنْ يَبْـلُـغَ : مَمْنُـوعٌ أنْ يَبْلُغَ ، مَـحِـلَّـهُ : مَكانَ ذَبْحِـهِ ، ( فَإنْ أُحْـصِـرْتُمْ فَمَـا اسْـتَيْسَـرَ مِـنَ الـهَـدْيِ )[ البقرة 196 ] ، أُحْـصِـرْتُمْ : مُنِعْتُمْ مِنَ الحَـجِّ أوِ العُمْـرَةِ لأيِّ سَبَبٍ كَانَ .

( فَاغْسِـلُـوا وُجُـوهَـكُـمْ وَ أيْـدِيَكُـمْ إلـى الـمَـرافِقِ وَامْــسَـحُـوا بِـرُؤوسِـكُـمْ وَأرْجُـلَـكُـمْ ) [ المائدة 6 ] :
عِنْدَمَـا يَدْخُلُ ضَوْءُ النَهَـارِ إلى الغِلاَفِ الجَوّي لـلأرْضِ ، فَإنَّ إحْدى هَذه طَبَقَاتِ الغِلاَفِ وَ هيَ طَبَقَةُ الأيونوسفير تَتَأيَّنُ [ تَتَكَهْرَبُ ] ، وَ تَسْتَقْبِلُ الأجْسَامُ المَوْجُودَةُ عَلى سَطْحِ الأرْضِ [ وَ مِنْ بَيْنِهَا الإنْسَانُ ] هَذِهِ الشحْناتُ الكَهْرُبائِيَّةُ ، وَ تَتَكَهْرَبُ بِهَا فَعْنْدَ لِبْسِ أوْ خَلْعِ كَنْزَةٍ صُوفيَّةٍ مَثَلاً ، نُلاَحِظُ ظُهُورَ شَراراتٍ كَهْرُبائِيَّةِ بِيْنَها وَ بَيْنَ شَـعْرِ الإنْسـانِ ، وَ إذَا شُحِنَ جِسْمٌ بِشُـحْنَةٍ كَهْرُبائِيَّـةٍ ، فَإنَّ الشُحْناتِ تَتَمَرْكَزُ عَلى نِهَايَاتِ الجِسْـمِ ، وَ إذَا تَأمَّلْنَا في الوُضُوءِ نُلاَحِظُ بِبَسَـاطَةٍ أنَّـهُ : عَمَلِيَّةُ إيْصَـالِ المَـاءِ إلى نِهَـايَاتِ جِسْـمِ الإنْسَانِ الخَمْسَـةِ فَقَطْ : ( يَـا أيُّـهَـا الـذينَ آمَـنُـوا إذا قُـمْـتُمْ إلـى الـصَـلاة ِ فَاغْسِـلُـوا وُجُـوهَـكُـمْ وَ أيْـدِيَكُـمْ إلـى الـمَـرافِقِ وَ امْـسَـحُـوا بِـرُؤوسِـكُـمْ وَ أرْجُـلَـكُـمْ إلـى الـكَـعْـبَيْنِ )[ المائدة 6 ] ، أرْجُـلَـكُـمْ : معطوفة على الوجوه ، لِذَلِكَ يَجبُ غَسْـلُ الرِجْلَيْنِ لاَ مَسْحِهِما فقط ، و الخلاصة في الوضوء : الجلدُ يُغسل و الشعر يُمسح .
وَ نُلاَحِظُ أنَّ المَناطِقَ الواقِعَة بَيْنَ كَعْبَيْ الإنْسَانِ وَ رَقَبَتِهِ لَيْسَ لَهَا عَلاَقَـةٌ بالوُضُوءِ ،
وَ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا غُبَارٌ أوْ تَعَرُّقٌ مَثَلاً ، و لذلكَ يُمسَحُ أعلى الـخُفّ و لـيْسَ أسـفلَهُ ، لأنّ أسـفلَهُ يُلامسُ الأرْضَ و لا يحـتـوي شحـنات كهـربائيَة .

( مِـيْثَاقَهُ الـذي وَاثَقَـكُـمْ بِهِ إذْ قُلْـتُمْ : سَـمِـعْـنا وَ أَطَـعْـنا )[ المائدة 7 ] :
العَهْـد هو : وَعْدٌ أكِيْدٌ بِتَنْفيذِ أَمْرٍ مَـا ، و المِيْثَـاق هو : تَعْليْمَاتٌ إلهيّـة يُنَفِّذُهَا المُؤْمِنُ بِسَـعادَة ، و هذا ما نجده في الآيات الكريمة التالية :
( وَ الـمُـوفُونَ بِعَـهْـدِهِـمْ إذَا عَـاهَـدوا )[ البقرة 117 ] ، ( وَ أَوْفُـوا بِالـعَـهْـدِ إنَّ الـعَـهْـدَ كَـانَ مَـسْـؤولاً )[ الإسراء 34 ] ، ( مِنَ الـمُـؤْمِنينَ رِجَـالٌ صَـدَقُوا مَا عَـاهَـدوا اللّهَ عَـلَـيْهِ ) [ الأحزاب 23 ] ، ( وَ مَـنْ أوْفـى بِعَـهْـدِهِ مِـنَ اللّـهِ )[ التوبة 111 ] ، ( وَ الـذينَ هُـمْ لأمَـاناتِهِـمْ وَ عَـهْـدِهِـمْ راعُـون )[ المؤمنون 8 ][ المعارج 32 ] ، ( الـذينَ يُوفُونَ بِعَـهْـدِ اللّـهِ وَ لاَ يَنْقُضُـونَ الـمِـيْثَاقَ )[ الرعد 20 ] ، ( وَ مَـنْ أوْفـى بِمَـا عَـاهَـدَ عَـلَـيْهُ اللّـهَ فَسَـيُؤْتيْهِ أَجْـراً عَـظِـيْمَـاً ) [ الفتح 10 ] ، ( وَ أَوْفُوا بِعَـهْـدِ اللّـهِ إذَا عَـاهَـدْتُمْ )[ النحل 91 ] ، ( وَ بِعَـهْـدِ اللّـهِ أَوْفوا ) [ الانعام 152 ] ، ( وَ مَـا وَجَـدْنا لأكْـثَرِهِـمْ مِـنْ عَـهْـدٍ )[ الأعراف 102 ] ، ( أَوَ كُـلَّـمَـا عَـاهَـدوا عَـهْـداً نَبَذَهُ فَـريْقٌ مِـنْهُـمْ )[ البقرة 100 ] ، ( وَ الـذين يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَ اللّـهِ مِـنْ بَعْـدِ مِـيْثَاقِهِ )[ الرعد 25 ] ، ( قَالَ لاَ يَنالُ عَـهْـدي الـظَـالِـمِـيْن )[ البقرة 124 ] ، ( الـذينَ عَـاهَـدْتَ مِـنْهُـمْ ثُمَّ يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَهُـمْ فـي كُـلِّ مَـرَّةٍ )[ الأنفال 56 ] ، ( وَ كَـانَ عَـهْـدُ اللّـهِ مَـسْـؤولاً )[ الأحزاب 15 ] ، ( وَ لَـقَـدْ عَـهِـدْنا إلـى آدَمَ مِـنْ قَبْلُ فَنَسِـيَ وَ لَـمْ نَجِـدْ لَـهُ عَـزْمَـاً )[ طـه 115 ] ، وَ المُؤْمِنُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللـهِ مِيْثَـاقٌ عَلى السَـمْعِ وَ الطَـاعَةِ بِرِضى وَ دُونَ نِقَاشِ : ( مِـيْثَاقَهُ الـذي وَاثَقَـكُـمْ بِهِ إذْ قُلْـتُمْ : سَـمِـعْـنا وَ أَطَـعْـنا )[ المائدة 7 ] ، وَ يَأْتي العَهْـدُ بَعْدَ الميْثَـاقِ : ( وَ الـذين يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَ اللّـهِ مِـنْ بَعْـدِ مِـيْثَاقِهِ )[ الرعد 25 ] ، ( وَ قَدْ أَخَـذَ مِـيْثَاقَـكُـمْ إنْ كُـنْتُمْ مُـؤْمِـنين )[ الحديد 8 ] ، وَ الميْثـاقُ : سَـمِعْنا وَأطَعْنَـا : ( آمَـنَ الـرِسُـولُ بِمَـا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِـنْ رَبِّهِ وَ الـمُـؤْمِـنُونَ كُـلٌّ آمَـنَ بِاللّـهِ وَ مَـلائِـكَـتِهِ وَ كُـتُبِهِ وَ رُسُـلِـهِ وَ قَالـوا : سَـمِـعْنا وَ أَطَـعْـنَا )[ البقرة 285 ] ، وَ بِدونِ جَدَلٍ أوْ نِقاشٍ أوْ إعْتِراضٍ وَ حتّى التَنْفيذ بِرِضى وَ سَعادَة : ( فَـلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِـنُون حَـتّى يُحَـكِّـمُـوكَ فِيْمَـا شَـجَـرَ بَيْنَهُـمْ ثُمَّ لاَ يَجِـدوا فـي أنْفُسِـهِـمْ حَـرَجٌ مِـمَّـا قَـضَـيْتَ وَ يُسَـلّـمُـوا تَسْـلـيْمَـاً )[ النساء 65 ] ، وَ هَذَا يُظْهِرُ الفَرْقَ بَيْنَ المُـؤْمن وَ المُسْـلِم .

( و كـيْفَ يُـحَـكّـمـونـك و عـندهُم التـوراة فيهـا حُـكْـمُ اللـه )[ المـائدة 43 ] :
القُرْآنُ الكَريمُ يَحْتَوي أيْضَاً على الفُرْقـَانِ ، الذي نَزَلَ مِنْ قَبْلُ عَلى موسى عليه السلام : ( تَبَارَكَ الـذي نَزَّلَ الـفُرْقَانَ عَـلـى عَـبْدِهِ )[ الفرقان 1 ] ، ( وَ أنْزَلَ الـتَوْراةَ وَ الإنْجِـيلَ مِـنْ قَـبْلُ هَـدَىً لِلـناسِ وَ أنْزَلَ الـفُرْقَانَ )[ آل عمران 3 / 4 ] ، ( وَ إذْ آتَيْنَا مُـوسَـى الـكِـتَابَ وَ الـفُرْقَانَ )[ البقرة 53 ] ، ( وَ لَـقَـدْ آتَيْنَا مُـوسَـى وَ هَـارونَ الـفُرْقَانَ )[ الأنبياء 48 ] ، وَ الجِـنّ أيْضَاً عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فَقَطْ بالقُرْآنِ الكَريمِ وَ كِتابِ موسى عليه السلام : ( وَ إِذْ صَـرَفْنَا إلَـيْكَ نَفَراً مِـنَ الـجِـنِّ يَسْـتَمِـعُـونَ الـقُرْآنَ فَلَـمَّـا حَـضَـروهُ قَالـوا أنْصِـتُوا فَلَـمَّـا قُضِـيَ وَلّـوْا إلـى قَـوْمِـهِـمْ مُـنْذِرينَ قَالـوا يَا قَـوْمَـنا إنَّا سَـمِـعْـنا كِـتَاباً أُنْزِلَ مِـنْ بَعْـدِ مُـوسـى )[ الأحقاف 29 / 30 ] .
فَمَا أشْبَهَ كِتابُ مُوسى عليْهِ السَلام بالقُرْآنِ الكَريمِ فَكِلاَ الكِتابَيْنِ فيهِ هُدَىً وَ رَحْمَةً وَ تَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُـوسَـى الـكِـتَابَ تَمَـامَـاً عَـلَـى الـذي أحْـسَـنَ وَ تَفْـصِـيلاً لِـكُـلِّ شَـيْءٍ وَ هُـدَىً وَ رَحْـمَـةً )[ الأنعام 154 ] ، ( وَ كَـتَبْنَا لَـهُ فـي الألْـواحِ مِـنْ كُـلِّ شَـيْءٍ مَـوْعِـظَـةً وَ تَفْـصِـيْلاً لِـكُـلِّ شَـيْءٍ )[ الأعراف 145 ] ، وَ هَذِهِ هيَ صِفَاتُ القُرْآنِ الكَريمِ ، أيْ الهُدى وَ الرَحْمَةُ وَ تَفْصيلُ كُلِّ شَـيْءٍ : ( وَ نَزَّلْـنَا عَـلَـيْكَ الـكِـتَابَ تِبْيَانَاً لِـكُـلِّ شَـيْءٍ وَ هُـدَىً وَ رَحْـمَـةً وَ بُشْـرى لِلـمُـسْـلِـمِـينَ )[ النحل 89 ] ، ( مَـا كَـانَ حَـدِيثَاً يُفْتَرى وَ لَـكِـنْ تَصْـديقَ الـذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِـيلَ كُـلِّ شَـيْءٍ وَ هُـدَىً وَ رَحْـمَـةً لِـقَوْمٍ يُؤْمِـنُونَ )[ يوسف 111 ] .

كل هـذا و اللـه أعـلم .



(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)


ســورة النساء (من اية 124 الى اخرها)

( لا يُحـبّ اللـه الـجـهْـر بالسـوء مـنَ القـول )[ النساء 148 ] :
الكلامُ الفاسِـدُ ، خَاصَّةً [ الخَنـَا ] : أيْ كَلاَمُ العُهْـرِ ، يُفْسِـدُ النَفْسَ ، لِذَلِكَ كَانَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ الذي هُوَ كَلاَمُ اللّهِ ، يُزَوِّدُ النُفُوسَ بِالطَـاقَةِ السَامِيَةِ ، مِثْلَمَا يُزَوِّدُ الطَعَـامُ الصَالِحُ الجِسْمَ بِالطَاقَةِ الحَيَوِيَّةِ ، فَمُتْعَةُ الحَيَـاةِ في لُقْمَةٍ طَيِّبَةِ وَ كَلِمَةٍ طَيِّبَـةٍ ، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لاَ يُخْرِجُكَ [ العُسْرُ وَ اليُسْرُ ] عَنِ الأخْلاقِ ، فالعُسْـرُ وَ اليُسْرُ لَيْسَـا خَيْراً أوْ شَـرَّاً بِحَدِّ ذَاتِهِمَا ، بَلْ قَدْ يَكُونانِ خَيْراً أوْ شَـرَّاً ، وِفْقَـاً لِمَـا يُمْلِيَـانِهِ عَلَيْكَ مِنْ شُـعُورٍ .
وَ الأصَـالَةُ : ضَمِيْرٌ طَاهِرٌ ، وَ فِكْرٌ وامِضٌ ، وَ قَلْبٌ نابِضٌ، وَ قَدَمٌ ثَابِتٌ ، وَ يَدُ مَمْدودَةٌ بِالخَيْرٍ ، فَلاَ يُخْرِجُكَ عَمَلُكَ عَنْ ضَمِيْرُكَ ، وَ الإيْمَـانُ يَحْتاجُ إلى وَعْي ، وَ مُشْكِلَةُ كُلِّ أصْحَـابِ دِيْنٍ ، لاَ يَعُونَ مَا هُمْ مُؤْمِنُونَ بِـهِ ، وَ لَوْ وَعَـوْا لَمَـا تَنازَعُـوا ، وَ كَفَّرَ بَعْضُهُـمْ بَعْضَـاً ، وَ ضَعْفُ النُفُوسِ وَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الدِيْنِ ، هُوَ الذي جَعَلَ مِنْهُ عِلَّـةَ التَفْرِقَـةِ ، فَدَعْ قُـوَّةَ رَأْيِكَ تَفْرِضُ نَفْسَهَا وَ لَيْسَ قُـوَّةَ يَدِكَ ، و [ قوّة المحبة ] أفضل من [ محبة القوة ] .

( وَ الـمُـقِـيمِـينَ الـصَـلاَةَ وَ الـمُـؤْتُونَ الـزَكَـاةَ )[ النساء 162 ] :
نَصَبَ كَلِمَةَ ( المُقيمينَ ) في قَوْلِهِ تَعالى : ( لَـكِـنِ الـراسِـخُـونَ فـي الـعِـلْـمِ مِـنْهُـمْ وَ الـمُـؤْمِـنُونَ يُؤْمِـنُونَ بِمَـا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَ مَـا أُنْزِلَ مِـنْ قَبْلِـكَ و الـمُـقِـيمِـينَ الـصَـلاَةَ وَ الـمُـؤْتُونَ الـزَكَـاةَ )[ النساء 162 ] ، فالسَبَبُ هُوَ أيْضَـاً : أنَّ [ الواو] لَيْسَتْ [ واو العَطْفِ ] بَلْ [ واو المُعْتَرِضَةِ ] ، فَتَمَّ النَصْبُ عَلى المَـدْحِ [ عَلى الاخْتِصَاصِ ] .

( وَ آتَيْنَـا داوودَ زَبُوراً )[ النساء 163 ] :
الـَزبُورِ : هُوَ الكِتَابُ الذي لاَ يَحْتَوي عَلى تَشْريعٍ ، بَلْ عَلى مَعْلومَاتٍ مُجَـرَّدَةٍ ، فأعْمالُ الناسِ مَثَلاً يَجري تَسْجيلُهَا في الزُبُـرِ: ( وَ كُـلُّ شَـيْءٍ فَـعَـلُـوهُ فـي الـزُبُرِ )[ القمر52 ] ، ( أَمْ لَـكُـمْ بَراءَةٌ فـي الـزُبُرِ )[ القمر43 ] ، وَ الكَثيرُ مِنْ كُتُبِ الأوَّلينَ كَانَتْ زُبُـراً : ( وَ إنَّهُ لَـفـي زُبـُرِ الأوَّلـِينَ )[ الشعراء 196 ] ، ( وَإنْ يُكَـذِّبُوكَ فَقَدْ كَـذَّبَ الـذينَ مِـنْ قَبْلِـهِـمْ جَـاءَتْهُـمْ رُسُـلُـهُـمْ بالـبَيِّنَاتِ وِ بِالـزُبُرِ وَ بالـكِتَابِ الـمُـنيرِ)[ فاطر 25 ] ، ( فَإنْ كَـذِّبُوكَ فَقَـدْ كُـذِّبَ رُسُـلٌ مِـنْ قَـبْلِـكَ جَـاءوا بالـبَيِّنَاتِ وِ الـزُبُرِ وَ الـكِـتَابِ الـمُـنيرِ )[ آل عمران 184 ] ، وَ مِن بَيْنِهَا كِتَـابُ داوودَ عليه السلام : ( وَ آتَيْنَـا داوودَ زَبُوراً )[ الإسراء 55 ][ النساء 163 ] ، و في الشـعر نجـد :
لِمَنِ الطَلَلُ أبْصَرْتُهُ فَشَـجَاني .... كَخَطِّ زَبُـورٍ في عَسيْب يَمَـاني
وَ جَلاَ السُيُولِ عَنِ الطُلولِ كَأَنَّها .... زُبُـرٌ تَجِـدُّ مُتُونُهَـا أقْلامُهُ .

كل هذا والله اعلم.




السبت، 28 مارس 2015

ما هو الصراط المستقيم ؟

يعتقد بعض الناس أن الصراط المستقيم سوف يكون يوم القيامة، وهذا اعتقاد خاطئ فالصراط المستقيم في الحياة الدنيا، وليس في الآخرة كما يعتقد معظم الناس في أشياء ليس لها دليل في القرآن، وأن الدليل الموجود في القرآن يتحدث عن الاستقامة في الدنيا لكي ينجينا الله من عذاب النار إن شاء، هذا ما تحدث عنه رب العزة في القرآن إلى الذين آمنوا أن يتبعوا الصراط المستقيم، يقول تعالى:
((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)) سورة فصلت آية 30.

أين استقاموا في الدنيا أم في الآخرة؟!.. مائة في المائة في الدنيا، ولذلك تقول الآية الكريمة بعد استقامتهم في الدنيا:
((تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)) سورة
فصلت آية 30.

أي كنتم من الذين استقاموا في الحياة الدنيا، وكي لا يجادل أحد في هذا الموضوع فعليه أن يقرأ هذه الآيات التي تتحدث عن الصراط المستقيم وما تعني هذه الجملة في القرآن ليعلم أن المقصود بها الاستقامة في الحياة الدنيا، يقول تعالى:
((وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) سورة الأنعام آية 153.

ويقول تعالى ليؤكد على إتباع الصراط المستقيم إلى الرسول:
((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) سورة الزخرف آية 43.

و [ الصـراط المسـتقيم] هـوَ : [ القِـيَـمُ و الأخـلاق ] بينَ النـَاس في هذه الحـياة الدُنيـا لقولـه تعالى : ( قُـلْ إنّـني هـداني ربّـي إلى صِـراطٍ مُـستقيم ، ديْنـاً - قِــيَـمَـاً ) الأنعام 161 ، و تأتي هـذه [ القِـيَمُ = الصـراط المسـتقيم ] من خلال تعاليم القُـرآن الكـريم لقـولـه تعالى : ( فاسْـتْـمْـسِـكْ بالـذي اُوحِـيَ إليْـكَ ، إنّـكَ على - صِـراطٍ مُسْـتقيم -) الزخرف 34 .

أسأل الله الكريم ان يهدينا الى الصراط المستقيم

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

ســورة النساء (من اية 24 الى 124)
(مَـا مَلَكتْ أيمـانكُم)[النساء 24]
يجب التمـييز بين :
إمَـاء : و هُـنّ [ سـبايا الحرْب ] 
أيـامى : و هُـنّ [ غـيـر الـمـتـزوّجـات ] .
مـلْك اليمين : و هُنّ اللواتي [ يعملْن في البيوت مُقابل أجْر ] في العصر الحديث .
.
و قـد طـالب القرآن الكريم بالزواج من [ الإمَـاء = سـبايا الحرب ] زواجـاً شـرعيّاً ، مثل أي فتاة أخرى [ أيّـم = غـير متزوّجة ] في المجتمع ، فقال تعالى : ( و أنكحـوا الأيـامى منكُـم و الصالحين منْ عبـادكم و إمـائكُم )[ النور 32 ] ، و سورة النور هي سورةٌ [ مفروضة ] لقولـه تعالى في بدايتهـا : ( سورةٌ أنزلناهـا و فَرضْناها )[ النور 1 ] .
.
مـلْـك الـيمـين :
ورد ذكـرهُنّ في القرآن الكريم ، في عدّة مواضع هي :
_ ( مَـا مَلَكتْ أيمـانكُم ) 7 مرّات ، في سُوَر النور / النساء / الروم .
_ ( مَـا مَلَـكتْ أيمـانُهُـم ) 4 مرّات ، في سُوَر المؤمنون / الأحزاب / النحل / المعارج . _ _ ( مَـا مَلَكتْ يميـنُك ) 2 مرّة ، في سُورة الأحزاب 50 / 52 .
_ ( مـا ملَكـتْ أيمـانهُنّ ) 2 مرّة ، في سُورتيْ النور 31 و الأحزاب 55 .
فإذا كان مسموحٌ للرجُل إقـامة العلاقات الجنسيّة مع [ ملْك اليمين ] ، فمـاذا سنقول في قولـه تعالى : ( مَـا ملكتْ أيمـانهُنّ ) !!!!!! .
.
الـزواج من [ ملْك اليمـين ] :
إذا أراد الرجُلُ الزواج من اُنثى زواجاً شـرعيّاً [ مهْـر + عقد شرعيّ ] ، فقد وضَع لـه القرآن الكريم احتمـاليْن :
1 _ الزواج من [ مُحصـنة = ابنة عائلة معروفة في البلدة ] ، و إذا كان ذلك يتطلّب تكاليف ماليّة كبيرة [ تأمين السكن و الفرش و تكاليف حفلة الزواج و ارتفاع المهر .. ] ، عند ذلك يُمكنه الزواج من :
2 _ [ مـلْك اليمين = إنسانة تعمل بأجر في بيوت الناس أو بيته ] ، و في هذه الحالة تكون التكاليف المـاليّة أقلّ .
و الدليل على أنّ السبب هو سـببٌ [ مـاليّ ] فقط ، يقول تعالى صراحةً : ( و مَنْ لـم يستطعْ منكُم طَـوْلاً أنْ ينكح المُحصـنات المؤمنات ، فمن مَـا مَلَكت أيمـانكم منْ فتياتكم المؤمنات )[ النساء 25 ] ، إذا : إمّـا الزواج من [ المُحصنة ] ، أو الزواج من [ ملْك اليمين ] ، و ليس الإثنتين معـاً .
و تُتابع الآية الكريمة عن ملْك اليمين : ( فانكحوهُنّ بإذن أهلهنّ ، و آتوهُنّ اُجورهُنّ بالمعروف )[ النساء 25 ] ، أيْ : الزواج بموافقة أهلهـا + المهر الذي تعارف عليه المُجتمع ( بالمعروف ) .
و تُتابع الآية الكريمة : ( مُحصـنات غيْرَ مُسـافحاتٍ و لا مُتّخذات أخدان )[ النساء 25 ] ، أي : تُصبح زوجة مُحصنة ، و ليست [ عشيقة أو صاحبة ] ، لأنّ الله يقول صراحةً : ( و لا تُكـرهوا فتـياتكُم على البغـاء )[ النور 33] .
.
أو :
الله سبحانه يستخدم كلمـة [ أوْ ] ، للدلالة على [ الإختيار ] بين [ المحصنة أو ملْك اليمين ] ، مثال : ( إلاّ على أزواجهم أو مَـا ملَكتْ أيمـانهم )[ المؤمنون 7 / المعارج 3 ] ، ( فواحدة أو مَـا ملَكتْ أيمانكم )[ النساء 3 ]
و قد ذكر القرآن الكريم حرف [ و ] فقط مع الرسول صلى الله عليه و سلّم ، وهذا التخصيص لأنّ الرسول هو [ صاحب الخُلُق العظيم ] ، فقال تعالى : ( يا أيهـا النبيّ إنّا أحْللْنـا لكَ أزواجك اللاّتي آتيْت اُجورهُنّ و مَـا مَلَكتْ يمينُك )[ الأحزاب 50 ] .
لذلك يجب عدَم الاستماع إلى الذين يهمُّم فقط الشهوات : ( و يريد الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً )[ النساء 27 ] ، أيْ : ميلاً عظيماً في فهم الآيات و تسخيرهـا لشهواتهم .
.
( لا تقولـوا : راعـنـا ) :
راعِـنا : هِيَ كَلِمَةٌ خَبيْثَةٌ [ مِنَ الرُعُونَةِ وَ احْتِقارِ المُخَاطَبِ ] تستخدم في الأسْواقِ عِنْدَ البَيْعِ وَ الشِراءِ وَ قَدْ أمَرَ اللّهُ عَدَمَ قَوْلِها : ( يَا أيُّهَـا الـذيْنَ آمَـنُوا لاَ تَقُولُـوا راعِـنَا وَ قُولُـوا انْظُـرْنَا )[ البقرة 104 ] ، لأنَّ هَذِهِ الكلِمة هيَ [ طَعْنٌ في الديْنِ ] : ( وَ مِـنَ الـذيْنَ هَـادوا يُحَـرِّفُونَ الـكَـلِـمَ عَـنْ مَـواضِـعِـهِ وَ يَقُولُـونَ سَـمِـعْـنَا وَ عَـصَـيْنَا وَ اسْـمَـعْ غَـيْرَ مُـسْـمَـعٍ وَ راعِـنَا لَـيّاً بِألْـسِـنَتِهِـمْ وَ طَـعْـنَاً في الـديْنِ )[ النساء 46 ] .
.
( يسـتـنبطـونه مـنـهُـم ) :
عِلْمُ الاسْـتِنْباطِ هُوَ جَوْهَرُ العُلُومِ ، التي تَحْتاجُ لِمَنْ يَجْلوهَا بِفَهْمٍ وَ مَنْطِقٍ ، وَ روحُ الفِقْهِ الذي يَحْتاجُ لِمَنْ يَجْلوهُ بِبَصِيْرةٍ وَ تَبَصُّرٍ، وَ كَلِمَةُ الاسْتِنْباط مِنْ [ نَبَطَ ] أيْ اسْـتَخْرَجَ ، فَنَقُولُ : نَبَطَ المَاءُ إذَا اسْتَخْرَجَهُ ، لِذَلِكَ فإنَّ اسْتِنْباطَ القُرْآنِ الكَريْمِ : ( لَـعَـلِـمَـهُ الـذيْنَ يَسْـتَنْبِطُـونَهُ مِـنْهُـمْ )[ النساء 83 ] ، يَعْني اسْـتِخْراج الأحْكامِ وَ القوانِيْنِ وَ الحقائِق ، مِمّا يَبْدو بَسِـيْطَاً وَهامِشـيّاً أوْ مُتَعارَفاً بَدِيْهِيّاً ، وَ هُوَ سِرُّ فَهْمِ الأحْكامِ ، وَ فَهْمِ [ النَصِّ الرَبّـانيّ ] فَهْمَاً حَقِيْقِيّاً ، لِبَعْثِ الحَياةِ في الفَرْدِ وَ المُجْتَمَعِ .
وَ الاسْـتِنْباطُ عِلْمٌ ذَوْقيٌّ ، وَ الذَوْقُ يَرْفُضُ وَ يَمْنَعُ الشِدَّةَ المُتْلِفة وَ التراخي المُضَيِّعِ ، فالذَوْقُ فَهْمٌ لَيّنٌ وَ سَلِسٌ لِلنَصِّ الشَرْعيّ ، وَ فَهْمٌ جَماليّ بِعُمْقٍ نَقْديّ يَمْنَحُ النَصَّ الشَرْعيّ نِطاقَاً أوْسَع وَ مَدىً أرْحَب ، يَتلاءَمَانِ مَعَ كُلِّ زَمانٍ وَ مَكانٍ ، وَ يَكُونُ الدِيْنُ صَالِحاً لِكُلِّ الناسِ : ( اُدْعُ إلـى سَـبِيْلِ رَبِّكَ بِالـحِـكْـمَـةِ وَ الـمَـوْعِـظَـةِ الـحَـسَـنَةِ )[ النحل 125 ] ، وَ لَيْسَ بالتَخْويْفِ وَ تَحْويْلِ الدِيْنِ إلى [ فَزَّاعَةٍ ] .
.
( لسْـتَ مُـؤمـناً )[ النساء 94 ] :
إذا كان الإنسانُ مُسـالـماً و آمناً في بيته ، فالأمْـرُ الإلـهيّ واضحٌ وُضوحَ الشمس و هوَ : ( لا ينهـاكُمُ الله عَنِ الذينَ لـمْ يُقـاتلوكُمْ في الدينِ و لـمْ يُخْرجوكُمْ منْ دياركُم أنْ تَـبـرّوهُـمْ و تُقسـطوا إلـيْهِـمْ )[ الممتحنة 8 ] ، لذلكَ فإنّ إخراج الناس الآمنين المُسـالمينَ منْ بيوتهِم هوَ [ عصيانٌ ] لهذا الأمْـر الإلهيّ .
_ و الأمـرُ الإلـهيّ الآخـرَ : ( يـا أيّهـا الذينَ آمـنوا ادْخُـلـوا في السِـلْم كـافّةً )[ البقرة 208 ]
_ و الأمْـرُ الإلـهيّ أيْضـاً : ( و لاَ تقـولـوا لِـمَـنْ ألْقى إلـيْكُمُ السَـلامَ : لسْـتَ مُـؤمـناً ) [ النساء 94 ] ، أيْ :لايجوزُ [ تكفير ] الآخـرين إذا كـانوا مُسـالمينَ .
و السَادَةُ النصارى لهُم توصـيةٌ خاصّة منَ الله سُبحانهُ : ( أقْربَهُم مودّةً للذينَ آمـنوا الذينَ قـالوا إنّــا نصــارى )[ المائدة 82] .
_ لذلك لا يجوزُ لا يجوزُ لا يجوزُ ... الاعتداء على أيّ إنسانٍ كانَ ، في مـاله و عرضه و .... ، و المطلوبُ [ فقـط ] صَـدّ العدوان ، و ليْسَ [ الاعتداء ] على الآخرينَ .
.
أمّـا [ الجهـادُ ] في الدين الإسلاميّ ، فهـوَ جهـادٌ [ فكْـريّ ] بالحوار و المنطق ، و ليْسَ بالسيْف ، و الله يقولُهـا صـراحةً و بكلّ وُضوح : ( و جـاهدْهُم بـه جهـاداً كـبيراً )[ الفرقان 52 ] ، أيْ : جـاهدهُم بالقرآن الكريم و الحوار و المنطق ، أمّـا [ الإكـراهُ ] فهوَ مرفُوضٌ مرفوضٌ مرفوضٌ ، لأنّ الله لا يُريدُ ذلك : ( وَ لـوْ شَـاءَ ربّـكَ لآمَـنَ مَنْ في الأرْضِ كلّهُـمْ جمـيعاً )[ يونس 99 ] ، فـالله لا يحتاجُ إلى [ جهـاديين ] ، و تكفي مشـيئته لتحقيق ذلك ، و لكنّ الله يُريْدُ [ الإختلافَ ] بينَ الناس في مُعتقداتهم : ( و لا يزالونَ مُختلفينَ ، و لذلكَ خَلـقَهُم )[ هود 119 ] ، ( و لـوْ شـاءَ الله لجمعـهُم على الهُدى )[ الأنعام 35 ] ،
و بذلك يُوضح الإسلام أنّ أصل العلاقات مع الآخرين هي [ السلْم العادل ] سواء على مستوى الأفراد أمْ على مستوى الشعوب و الدول ، و قد حذّر القرآن الكريم عدم التقيّد بالأوامر التي مرّت في الآيات السابقة ، فقال تعالى : ( فإنْ زللتمْ من بعـد ما جاءكم البيّنات فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم )[ البقرة 209 ] ، أيْ إذا زللتمْ عن هذه التعليمات بعدما أوضحناها لكم ، فإنّ الله ( عزيز ) عنكم و ليس بحاجة لكم .
.
( نُشُـوزاً أوْ إعْـراضَـاً )[ النساء 128 ] :
مِنْ طَبيعَةِ المَرْأةِ النشوز فقط مع عَـدَمَ الإعْراضِ : ( وَ الـلاَتي تَخَافُونَ نُـشُـوزَهُـنَّ )[ النساء 34 ] ، نُـشُـوزَهُـنَّ : تَمَرُّدَهُنَّ فَقَطْ وَ لَمْ يَقُلْ : أوْ إعْراضَهُنَّ ، بَيْنَمَا عِنْدَ الرَجُلِ نَجِدُ النُشُوزَ وَ الإعْرَاضَ : ( وَ إنْ اِمْـرَأةٌ خَـافَـتْ مِـنْ بَعْـلـِهَـا نُشُـوزاً أوْ إعْـراضَـاً )[ النساء 128 ] ، نُشُـوزاً : تَمـرّداً ، إعْـراضَـاً : هُجْرانَاَ بِحيْثُ لاَ يُكلّمها ، فَيَكُونُ [ الشُـحُّ ] و هو : البُخْل حتّى بالعَـواطِفِ وَ الكلامِ إضَافَةً للمَـال مِنَ الرَجُلِ فَقَطْ ، لَذَلِكَ تُتَابِعُ الآيَةُ الكَريمَةُ معَ الرِجال فقط : ( وَ أُحْـضِـرَتِ الأنْفُسُ الـشُـحُّ )[ النساء 128 ] ، و لِذَلِكَ قال تعالى : ( وَ مَـنْ يُوْقَ شُـحَّ نَفْـسِـهِ فَأُولَـئِـكَ هُـمُ الـمُـفْـلِـحُـونَ )[ الحشر 9 ][ التغابن 16 ] ، ( أَشِـحَّـةً عَـلَـيْكُـمْ ... أَشِـحَّـةً عَـلَـى الـخَـيْرِ )[ الأحزاب 19 ] .
.
( مـا يفْعـلُ الله بعـذابكـم إن شـكرتُم و آمنـتم )[ النساء 147 ] :
إنّ اللّـه سُـبحانه و تعالى خـلقـنـا كـيْ نكـونَ [ فقـط ] سُـعـداءَ و فـرحين بكلّ السَـعادة في الدنيـا و الآخـرة ، لذلك جعَلَ هـذا الديْن في غـاية [ اليُسْـر ] ، كمَـا قال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلّم : [ إنّ هـذا الدينَ يُسْـرٌ ] ، و قال تعالى عن هذا الدين أنّـه [ حـنيف = مَـرِنٌ جـداً ] : ( قُـلْ إنّنـي هـداني ربّـي إلى صـراطٍ مُسـتقيم ، ديْـناً قِــيَــمَــاً ، مـلّةَ إبـراهيْـمَ حـنيفـاً )[ الأنعام 161 ] ، فالدينُ هُـوَ [ القِـيَـمُ ] و الأخلاق .
.
كل هـذا و الله أعلـم .


الحديث السابع

عن تميم بن أوس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه البخاري ومسلم .

الشرح
حديثنا الذي نتناوله في هذ المقال حديث عظيم ، ويكفيك دلالة على أهميته أنه يجمع أمر الدين كله في عبارة واحدة ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) ، فجعل الدين هو النصيحة ، كما جعل الحج هو عرفة ، إشارةً إلى عظم مكانها ، وعلو شأنها في ديننا الحنيف .

والنصيحة ليست فقط من الدين ، بل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم قد بعثوا لينذروا قومهم من عذاب الله ، وليدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته ، فهذا نوح عليه السلام يخاطب قومه ، ويبين لهم أهداف دعوته فيقول : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم }( الأعراف : 62 ) ، وعندما أخذت الرجفة قوم صالح عليه السلام ، قال : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ( الأعراف : 79 ) .

ويترسّم النبي صلى الله عليه وسلم خطى من سبقه من إخوانه الأنبياء ، ويسير على منوالهم، فيضرب لنا أروع الأمثلة في النصيحة ، وتنوع أساليبها ، ومراعاتها لأحوال الناس واختلافها ، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد موقفه الحكيم عندما بال الأعرابي في المسجد ، فلم ينهره ، بل انتظره حتى فرغ من حاجته ، يروي أبو هريرة رضي الله عنه تلك الحادثة فيقول : " بال أعرابيٌ في المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوه ، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ، أو سجلا من ماء ؛ فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .

وفي الحديث الذي بين أيدينا ، حدد النبي صلى الله عليه وسلم مواطن النصيحة ، وأول هذه المواطن : النصيحة لله ، وهناك معان كثيرة تندرج تحتها ، ومن أعظمها : الإخلاص لله تبارك وتعالى في الأعمال كلها ، ومن معانيها كذلك : أن يديم العبد ذكر سيده ومولاه في أحواله وشؤونه ، فلا يزال لسانه رطبا من ذكر الله ، ومن النصيحة لله : أن يذبّ عن حياض الدين ، ويدفع شبهات المبطلين ، داعيا إلى الله بكل جوارحه ، ناذرا نفسه لخدمة دين الله ، إلى غير ذلك من المعاني .

وأصل النصيحة : من الإخلاص ، كما يقال : " نصح العسل " أي : خلصه من شوائبه ، وإذا كان كذلك فإن إخلاص كل شيء بحسبه ، فالإخلاص لكتاب الله أن تحسن تلاوته ، كما قال عزوجل : { ورتل القرآن ترتيلا } ( المزمل : 4 ) ، وأن تتدبر ما فيه من المعاني العظيمة ، وتعمل بما فيه ، ثم تعلمه للناس .

ومن معاني النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تصديقه فيما أخبر به من الوحي ، والتسليم له في ذلك ، حتى وإن قصُر فهمنا عن إدراك بعض الحقائق التي جاءت في سنّته المطهّرة ؛ انطلاقا من إيماننا العميق بأن كل ما جاء به إنما هو وحي من عند الله ، ومن معاني النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طاعته فيما أمر به ، واتباعه في هديه وسنته، وهذا هو البرهان الساطع على محبته صلى الله عليه وسلم .

ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ولأئمة المسلمين ) ، والمراد بهم العلماء والأمراء على السواء ، فالعلماء هم أئمة الدين ، والأمراء هم أئمةٌ الدنيا ، فأما النصح للعلماء : فيكون بتلقّي العلم عنهم ، والالتفاف حولهم ، ونشر مناقبهم بين الناس ، حتى تتعلّق قلوب الناس بهم، ومن النصح لهم : عدم تتبع أخطائهم وزلاتهم ، فإن هذا من أعظم البغي والعدوان عليهم، وفيه من تفريق الصف وتشتيت الناس ما لا يخفى على ذي بصيرة .

وأما النصيحة لأئمة المسلمين فتكون بإعانتهم على القيام بما حمّلوا من أعباء الولاية ، وشد أزرهم على الحق ، وطاعتهم في المعروف .

والموطن الرابع من مواطن النصيحة : عامة الناس ، وغاية ذلك أن تحب لهم ما تحب لنفسك، فترشدهم إلى ما يكون لصالحهم في معاشهم ومعادهم ، وتهديهم إلى الحق إذا حادوا عنه ، وتذكّرهم به إذا نسوه ، متمسكا بالحلم معهم والرفق بهم ، وبذلك تتحقق وحدة المسلمين ، فيصبحوا كالجسد الواحد : ( إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .

فهذه هي مواطن النصيحة التي أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا عملنا بها حصل لنا الهدى والرشاد ، والتوفيق والسداد .

الجمعة، 27 مارس 2015

الـوصـول إلى النفـس المـطـمـئـنّـة

لوصــول إلـى [ النفْـسِ المُـطـمئـنّـة ] التي سـترجع إلى ربّهـا عـند المـوت [ راضـيةً مَـرضية و تـدخـل مباشـرةً الجنّـة ] : ( يـا أيّتُهـا النفْـسُ - المُـطْـمـئـنّـةُ - ، إرْجِـعـي إلى ربّـكِ - راضـيَةً مَـرْضـيّةً - فـادخُـلي في عِبـادي و ادْخُـلي جـنّـتي ) الفجر 27 .
للـوصـول إلى [ الإطـمـئْنـان ] في النفْس ، أوضـح القُـرآن الكـريم ثـلاث طُـرُق :
.
1 _ أن تكـون حيـاة الإنسـان على الشـكْل التـالي : [ صَـلاة دون شـرود + ذِكْـر اللـه في جمـيع الحـالات + الصـلاة التـاليـة + + ذِكْـر اللـه في جمـيع الحـالات + الصـلاة التـاليـة + ..... ] ، يقول تعـالى : ( فـإذا قَـضـيْتُـمُ الصـلاة ، فـاذْكُـروا اللـه قِيـامـاً و قُـعُـوداً و على جُـنُـوبِـكُـمْ ، فـإذا - اطــمـأنَـنْـتُـمْ - فـأقيمـوا الصَـلاة ) النسـاء 13 .
.
2 _ دراسـة القُـرآن الكـريم بكـلّ عنـايةٍ و اهتمـام ، و ليْسَ تـلاوةً سـريعة و سطـحية ، يقُـولُ تعـالى : ( ألاَ بـذكْْـر اللـه تطْـمـئنّ القُـلوبُ ) الرعـد 28 ، و لذلكَ فـإنّ منْ أهـمّ النتـائـج الإيجـابيّـة للصـلاة هي فهْـم آيـات القُـرآن التي نتلوهـا في الصَـلاة ، يقولُ تعالى : ( و أقِـمِ الصـلاةَ لـذكْـري ) طـه 44 ، و إلاّ فـإنّ اللـه سـبحانه سـوفَ لـنْ يجعلَ في قلوبنـا متعـةَ القُـرآن ، إذا [ أسْـرفنـا ] في اللهـو و الشـرود في الصـلاة و البُعْد عن دراسة القُرآن بـاهتمـام كـبير ، يقول تعالى : ( أَ فَـنَـضْـربُ عَـنْكُـمُ - الـذِكْـرَ - صَـفحـاً ، أنْ كُـنْتُم قـومـاً مُـسْـرفين ) الزخرف 5 .
.
3 _ [ الإسـتقـامة ] بعْـد الإيمـان : يقول تعالـى : ( إنّ الـذينَ قـالوا ربّنـا اللـه ثُـمّ - اسـتقاموا - تَـتَـنزّلُ عليْهـمُ المـلائِـكَـةُ : ألاّ تخـافوا و لا تحْـزنـوا ) فصلت 30 ، و لذلك قال صلى الله عليه و سلّم إلى الصحابي الجليل : [ قُـلْ : آمنْـتُ باللـه ، ثُـمّ اسْـتقِمْ ] رواه البخاري برقم 26 ، و رواه مُسلم برقم 83 .
و [ الصـراط المسـتقيم] هـوَ : [ القِـيَـمُ و الأخـلاق ] بينَ النـَاس في هذه الحـياة الدُنيـا لقولـه تعالى : ( قُـلْ إنّـني هـداني ربّـي إلى صِـراطٍ مُـستقيم ، ديْنـاً - قِــيَـمَـاً ) الأنعام 161 ، و تأتي هـذه [ القِـيَمُ = الصـراط المسـتقيم ] من خلال تعاليم القُـرآن الكـريم لقـولـه تعالى : ( فاسْـتْـمْـسِـكْ بالـذي اُوحِـيَ إليْـكَ ، إنّـكَ على - صِـراطٍ مُسْـتقيم -) الزخرف 34 .
.
لــذلِكَ : إفْــرحـوا و لا تحـزنـوا ، حسَـبَ الوصـيّة التي اوصى الله تعالى إلى رسوله الكريم صلى الله عليه و سلّم ، أنْ يقـولهـا لكـمْ ، و هيَ : ( قُـلْ : بفضْـلِ اللـه و بـرحمتِـه ، فبـذلكَ - فَـلْـيَـفْـرحُـوا - ) يونس 58 ، فافرحوا و افرحوا و افرحوا .... بفضل الله و برحمته لكم .