‏إظهار الرسائل ذات التسميات الكيالي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الكيالي. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 29 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)


ســورة النساء (من اية 124 الى اخرها)

( لا يُحـبّ اللـه الـجـهْـر بالسـوء مـنَ القـول )[ النساء 148 ] :
الكلامُ الفاسِـدُ ، خَاصَّةً [ الخَنـَا ] : أيْ كَلاَمُ العُهْـرِ ، يُفْسِـدُ النَفْسَ ، لِذَلِكَ كَانَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ الذي هُوَ كَلاَمُ اللّهِ ، يُزَوِّدُ النُفُوسَ بِالطَـاقَةِ السَامِيَةِ ، مِثْلَمَا يُزَوِّدُ الطَعَـامُ الصَالِحُ الجِسْمَ بِالطَاقَةِ الحَيَوِيَّةِ ، فَمُتْعَةُ الحَيَـاةِ في لُقْمَةٍ طَيِّبَةِ وَ كَلِمَةٍ طَيِّبَـةٍ ، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لاَ يُخْرِجُكَ [ العُسْرُ وَ اليُسْرُ ] عَنِ الأخْلاقِ ، فالعُسْـرُ وَ اليُسْرُ لَيْسَـا خَيْراً أوْ شَـرَّاً بِحَدِّ ذَاتِهِمَا ، بَلْ قَدْ يَكُونانِ خَيْراً أوْ شَـرَّاً ، وِفْقَـاً لِمَـا يُمْلِيَـانِهِ عَلَيْكَ مِنْ شُـعُورٍ .
وَ الأصَـالَةُ : ضَمِيْرٌ طَاهِرٌ ، وَ فِكْرٌ وامِضٌ ، وَ قَلْبٌ نابِضٌ، وَ قَدَمٌ ثَابِتٌ ، وَ يَدُ مَمْدودَةٌ بِالخَيْرٍ ، فَلاَ يُخْرِجُكَ عَمَلُكَ عَنْ ضَمِيْرُكَ ، وَ الإيْمَـانُ يَحْتاجُ إلى وَعْي ، وَ مُشْكِلَةُ كُلِّ أصْحَـابِ دِيْنٍ ، لاَ يَعُونَ مَا هُمْ مُؤْمِنُونَ بِـهِ ، وَ لَوْ وَعَـوْا لَمَـا تَنازَعُـوا ، وَ كَفَّرَ بَعْضُهُـمْ بَعْضَـاً ، وَ ضَعْفُ النُفُوسِ وَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الدِيْنِ ، هُوَ الذي جَعَلَ مِنْهُ عِلَّـةَ التَفْرِقَـةِ ، فَدَعْ قُـوَّةَ رَأْيِكَ تَفْرِضُ نَفْسَهَا وَ لَيْسَ قُـوَّةَ يَدِكَ ، و [ قوّة المحبة ] أفضل من [ محبة القوة ] .

( وَ الـمُـقِـيمِـينَ الـصَـلاَةَ وَ الـمُـؤْتُونَ الـزَكَـاةَ )[ النساء 162 ] :
نَصَبَ كَلِمَةَ ( المُقيمينَ ) في قَوْلِهِ تَعالى : ( لَـكِـنِ الـراسِـخُـونَ فـي الـعِـلْـمِ مِـنْهُـمْ وَ الـمُـؤْمِـنُونَ يُؤْمِـنُونَ بِمَـا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَ مَـا أُنْزِلَ مِـنْ قَبْلِـكَ و الـمُـقِـيمِـينَ الـصَـلاَةَ وَ الـمُـؤْتُونَ الـزَكَـاةَ )[ النساء 162 ] ، فالسَبَبُ هُوَ أيْضَـاً : أنَّ [ الواو] لَيْسَتْ [ واو العَطْفِ ] بَلْ [ واو المُعْتَرِضَةِ ] ، فَتَمَّ النَصْبُ عَلى المَـدْحِ [ عَلى الاخْتِصَاصِ ] .

( وَ آتَيْنَـا داوودَ زَبُوراً )[ النساء 163 ] :
الـَزبُورِ : هُوَ الكِتَابُ الذي لاَ يَحْتَوي عَلى تَشْريعٍ ، بَلْ عَلى مَعْلومَاتٍ مُجَـرَّدَةٍ ، فأعْمالُ الناسِ مَثَلاً يَجري تَسْجيلُهَا في الزُبُـرِ: ( وَ كُـلُّ شَـيْءٍ فَـعَـلُـوهُ فـي الـزُبُرِ )[ القمر52 ] ، ( أَمْ لَـكُـمْ بَراءَةٌ فـي الـزُبُرِ )[ القمر43 ] ، وَ الكَثيرُ مِنْ كُتُبِ الأوَّلينَ كَانَتْ زُبُـراً : ( وَ إنَّهُ لَـفـي زُبـُرِ الأوَّلـِينَ )[ الشعراء 196 ] ، ( وَإنْ يُكَـذِّبُوكَ فَقَدْ كَـذَّبَ الـذينَ مِـنْ قَبْلِـهِـمْ جَـاءَتْهُـمْ رُسُـلُـهُـمْ بالـبَيِّنَاتِ وِ بِالـزُبُرِ وَ بالـكِتَابِ الـمُـنيرِ)[ فاطر 25 ] ، ( فَإنْ كَـذِّبُوكَ فَقَـدْ كُـذِّبَ رُسُـلٌ مِـنْ قَـبْلِـكَ جَـاءوا بالـبَيِّنَاتِ وِ الـزُبُرِ وَ الـكِـتَابِ الـمُـنيرِ )[ آل عمران 184 ] ، وَ مِن بَيْنِهَا كِتَـابُ داوودَ عليه السلام : ( وَ آتَيْنَـا داوودَ زَبُوراً )[ الإسراء 55 ][ النساء 163 ] ، و في الشـعر نجـد :
لِمَنِ الطَلَلُ أبْصَرْتُهُ فَشَـجَاني .... كَخَطِّ زَبُـورٍ في عَسيْب يَمَـاني
وَ جَلاَ السُيُولِ عَنِ الطُلولِ كَأَنَّها .... زُبُـرٌ تَجِـدُّ مُتُونُهَـا أقْلامُهُ .

كل هذا والله اعلم.




السبت، 28 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

ســورة النساء (من اية 24 الى 124)
(مَـا مَلَكتْ أيمـانكُم)[النساء 24]
يجب التمـييز بين :
إمَـاء : و هُـنّ [ سـبايا الحرْب ] 
أيـامى : و هُـنّ [ غـيـر الـمـتـزوّجـات ] .
مـلْك اليمين : و هُنّ اللواتي [ يعملْن في البيوت مُقابل أجْر ] في العصر الحديث .
.
و قـد طـالب القرآن الكريم بالزواج من [ الإمَـاء = سـبايا الحرب ] زواجـاً شـرعيّاً ، مثل أي فتاة أخرى [ أيّـم = غـير متزوّجة ] في المجتمع ، فقال تعالى : ( و أنكحـوا الأيـامى منكُـم و الصالحين منْ عبـادكم و إمـائكُم )[ النور 32 ] ، و سورة النور هي سورةٌ [ مفروضة ] لقولـه تعالى في بدايتهـا : ( سورةٌ أنزلناهـا و فَرضْناها )[ النور 1 ] .
.
مـلْـك الـيمـين :
ورد ذكـرهُنّ في القرآن الكريم ، في عدّة مواضع هي :
_ ( مَـا مَلَكتْ أيمـانكُم ) 7 مرّات ، في سُوَر النور / النساء / الروم .
_ ( مَـا مَلَـكتْ أيمـانُهُـم ) 4 مرّات ، في سُوَر المؤمنون / الأحزاب / النحل / المعارج . _ _ ( مَـا مَلَكتْ يميـنُك ) 2 مرّة ، في سُورة الأحزاب 50 / 52 .
_ ( مـا ملَكـتْ أيمـانهُنّ ) 2 مرّة ، في سُورتيْ النور 31 و الأحزاب 55 .
فإذا كان مسموحٌ للرجُل إقـامة العلاقات الجنسيّة مع [ ملْك اليمين ] ، فمـاذا سنقول في قولـه تعالى : ( مَـا ملكتْ أيمـانهُنّ ) !!!!!! .
.
الـزواج من [ ملْك اليمـين ] :
إذا أراد الرجُلُ الزواج من اُنثى زواجاً شـرعيّاً [ مهْـر + عقد شرعيّ ] ، فقد وضَع لـه القرآن الكريم احتمـاليْن :
1 _ الزواج من [ مُحصـنة = ابنة عائلة معروفة في البلدة ] ، و إذا كان ذلك يتطلّب تكاليف ماليّة كبيرة [ تأمين السكن و الفرش و تكاليف حفلة الزواج و ارتفاع المهر .. ] ، عند ذلك يُمكنه الزواج من :
2 _ [ مـلْك اليمين = إنسانة تعمل بأجر في بيوت الناس أو بيته ] ، و في هذه الحالة تكون التكاليف المـاليّة أقلّ .
و الدليل على أنّ السبب هو سـببٌ [ مـاليّ ] فقط ، يقول تعالى صراحةً : ( و مَنْ لـم يستطعْ منكُم طَـوْلاً أنْ ينكح المُحصـنات المؤمنات ، فمن مَـا مَلَكت أيمـانكم منْ فتياتكم المؤمنات )[ النساء 25 ] ، إذا : إمّـا الزواج من [ المُحصنة ] ، أو الزواج من [ ملْك اليمين ] ، و ليس الإثنتين معـاً .
و تُتابع الآية الكريمة عن ملْك اليمين : ( فانكحوهُنّ بإذن أهلهنّ ، و آتوهُنّ اُجورهُنّ بالمعروف )[ النساء 25 ] ، أيْ : الزواج بموافقة أهلهـا + المهر الذي تعارف عليه المُجتمع ( بالمعروف ) .
و تُتابع الآية الكريمة : ( مُحصـنات غيْرَ مُسـافحاتٍ و لا مُتّخذات أخدان )[ النساء 25 ] ، أي : تُصبح زوجة مُحصنة ، و ليست [ عشيقة أو صاحبة ] ، لأنّ الله يقول صراحةً : ( و لا تُكـرهوا فتـياتكُم على البغـاء )[ النور 33] .
.
أو :
الله سبحانه يستخدم كلمـة [ أوْ ] ، للدلالة على [ الإختيار ] بين [ المحصنة أو ملْك اليمين ] ، مثال : ( إلاّ على أزواجهم أو مَـا ملَكتْ أيمـانهم )[ المؤمنون 7 / المعارج 3 ] ، ( فواحدة أو مَـا ملَكتْ أيمانكم )[ النساء 3 ]
و قد ذكر القرآن الكريم حرف [ و ] فقط مع الرسول صلى الله عليه و سلّم ، وهذا التخصيص لأنّ الرسول هو [ صاحب الخُلُق العظيم ] ، فقال تعالى : ( يا أيهـا النبيّ إنّا أحْللْنـا لكَ أزواجك اللاّتي آتيْت اُجورهُنّ و مَـا مَلَكتْ يمينُك )[ الأحزاب 50 ] .
لذلك يجب عدَم الاستماع إلى الذين يهمُّم فقط الشهوات : ( و يريد الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً )[ النساء 27 ] ، أيْ : ميلاً عظيماً في فهم الآيات و تسخيرهـا لشهواتهم .
.
( لا تقولـوا : راعـنـا ) :
راعِـنا : هِيَ كَلِمَةٌ خَبيْثَةٌ [ مِنَ الرُعُونَةِ وَ احْتِقارِ المُخَاطَبِ ] تستخدم في الأسْواقِ عِنْدَ البَيْعِ وَ الشِراءِ وَ قَدْ أمَرَ اللّهُ عَدَمَ قَوْلِها : ( يَا أيُّهَـا الـذيْنَ آمَـنُوا لاَ تَقُولُـوا راعِـنَا وَ قُولُـوا انْظُـرْنَا )[ البقرة 104 ] ، لأنَّ هَذِهِ الكلِمة هيَ [ طَعْنٌ في الديْنِ ] : ( وَ مِـنَ الـذيْنَ هَـادوا يُحَـرِّفُونَ الـكَـلِـمَ عَـنْ مَـواضِـعِـهِ وَ يَقُولُـونَ سَـمِـعْـنَا وَ عَـصَـيْنَا وَ اسْـمَـعْ غَـيْرَ مُـسْـمَـعٍ وَ راعِـنَا لَـيّاً بِألْـسِـنَتِهِـمْ وَ طَـعْـنَاً في الـديْنِ )[ النساء 46 ] .
.
( يسـتـنبطـونه مـنـهُـم ) :
عِلْمُ الاسْـتِنْباطِ هُوَ جَوْهَرُ العُلُومِ ، التي تَحْتاجُ لِمَنْ يَجْلوهَا بِفَهْمٍ وَ مَنْطِقٍ ، وَ روحُ الفِقْهِ الذي يَحْتاجُ لِمَنْ يَجْلوهُ بِبَصِيْرةٍ وَ تَبَصُّرٍ، وَ كَلِمَةُ الاسْتِنْباط مِنْ [ نَبَطَ ] أيْ اسْـتَخْرَجَ ، فَنَقُولُ : نَبَطَ المَاءُ إذَا اسْتَخْرَجَهُ ، لِذَلِكَ فإنَّ اسْتِنْباطَ القُرْآنِ الكَريْمِ : ( لَـعَـلِـمَـهُ الـذيْنَ يَسْـتَنْبِطُـونَهُ مِـنْهُـمْ )[ النساء 83 ] ، يَعْني اسْـتِخْراج الأحْكامِ وَ القوانِيْنِ وَ الحقائِق ، مِمّا يَبْدو بَسِـيْطَاً وَهامِشـيّاً أوْ مُتَعارَفاً بَدِيْهِيّاً ، وَ هُوَ سِرُّ فَهْمِ الأحْكامِ ، وَ فَهْمِ [ النَصِّ الرَبّـانيّ ] فَهْمَاً حَقِيْقِيّاً ، لِبَعْثِ الحَياةِ في الفَرْدِ وَ المُجْتَمَعِ .
وَ الاسْـتِنْباطُ عِلْمٌ ذَوْقيٌّ ، وَ الذَوْقُ يَرْفُضُ وَ يَمْنَعُ الشِدَّةَ المُتْلِفة وَ التراخي المُضَيِّعِ ، فالذَوْقُ فَهْمٌ لَيّنٌ وَ سَلِسٌ لِلنَصِّ الشَرْعيّ ، وَ فَهْمٌ جَماليّ بِعُمْقٍ نَقْديّ يَمْنَحُ النَصَّ الشَرْعيّ نِطاقَاً أوْسَع وَ مَدىً أرْحَب ، يَتلاءَمَانِ مَعَ كُلِّ زَمانٍ وَ مَكانٍ ، وَ يَكُونُ الدِيْنُ صَالِحاً لِكُلِّ الناسِ : ( اُدْعُ إلـى سَـبِيْلِ رَبِّكَ بِالـحِـكْـمَـةِ وَ الـمَـوْعِـظَـةِ الـحَـسَـنَةِ )[ النحل 125 ] ، وَ لَيْسَ بالتَخْويْفِ وَ تَحْويْلِ الدِيْنِ إلى [ فَزَّاعَةٍ ] .
.
( لسْـتَ مُـؤمـناً )[ النساء 94 ] :
إذا كان الإنسانُ مُسـالـماً و آمناً في بيته ، فالأمْـرُ الإلـهيّ واضحٌ وُضوحَ الشمس و هوَ : ( لا ينهـاكُمُ الله عَنِ الذينَ لـمْ يُقـاتلوكُمْ في الدينِ و لـمْ يُخْرجوكُمْ منْ دياركُم أنْ تَـبـرّوهُـمْ و تُقسـطوا إلـيْهِـمْ )[ الممتحنة 8 ] ، لذلكَ فإنّ إخراج الناس الآمنين المُسـالمينَ منْ بيوتهِم هوَ [ عصيانٌ ] لهذا الأمْـر الإلهيّ .
_ و الأمـرُ الإلـهيّ الآخـرَ : ( يـا أيّهـا الذينَ آمـنوا ادْخُـلـوا في السِـلْم كـافّةً )[ البقرة 208 ]
_ و الأمْـرُ الإلـهيّ أيْضـاً : ( و لاَ تقـولـوا لِـمَـنْ ألْقى إلـيْكُمُ السَـلامَ : لسْـتَ مُـؤمـناً ) [ النساء 94 ] ، أيْ :لايجوزُ [ تكفير ] الآخـرين إذا كـانوا مُسـالمينَ .
و السَادَةُ النصارى لهُم توصـيةٌ خاصّة منَ الله سُبحانهُ : ( أقْربَهُم مودّةً للذينَ آمـنوا الذينَ قـالوا إنّــا نصــارى )[ المائدة 82] .
_ لذلك لا يجوزُ لا يجوزُ لا يجوزُ ... الاعتداء على أيّ إنسانٍ كانَ ، في مـاله و عرضه و .... ، و المطلوبُ [ فقـط ] صَـدّ العدوان ، و ليْسَ [ الاعتداء ] على الآخرينَ .
.
أمّـا [ الجهـادُ ] في الدين الإسلاميّ ، فهـوَ جهـادٌ [ فكْـريّ ] بالحوار و المنطق ، و ليْسَ بالسيْف ، و الله يقولُهـا صـراحةً و بكلّ وُضوح : ( و جـاهدْهُم بـه جهـاداً كـبيراً )[ الفرقان 52 ] ، أيْ : جـاهدهُم بالقرآن الكريم و الحوار و المنطق ، أمّـا [ الإكـراهُ ] فهوَ مرفُوضٌ مرفوضٌ مرفوضٌ ، لأنّ الله لا يُريدُ ذلك : ( وَ لـوْ شَـاءَ ربّـكَ لآمَـنَ مَنْ في الأرْضِ كلّهُـمْ جمـيعاً )[ يونس 99 ] ، فـالله لا يحتاجُ إلى [ جهـاديين ] ، و تكفي مشـيئته لتحقيق ذلك ، و لكنّ الله يُريْدُ [ الإختلافَ ] بينَ الناس في مُعتقداتهم : ( و لا يزالونَ مُختلفينَ ، و لذلكَ خَلـقَهُم )[ هود 119 ] ، ( و لـوْ شـاءَ الله لجمعـهُم على الهُدى )[ الأنعام 35 ] ،
و بذلك يُوضح الإسلام أنّ أصل العلاقات مع الآخرين هي [ السلْم العادل ] سواء على مستوى الأفراد أمْ على مستوى الشعوب و الدول ، و قد حذّر القرآن الكريم عدم التقيّد بالأوامر التي مرّت في الآيات السابقة ، فقال تعالى : ( فإنْ زللتمْ من بعـد ما جاءكم البيّنات فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم )[ البقرة 209 ] ، أيْ إذا زللتمْ عن هذه التعليمات بعدما أوضحناها لكم ، فإنّ الله ( عزيز ) عنكم و ليس بحاجة لكم .
.
( نُشُـوزاً أوْ إعْـراضَـاً )[ النساء 128 ] :
مِنْ طَبيعَةِ المَرْأةِ النشوز فقط مع عَـدَمَ الإعْراضِ : ( وَ الـلاَتي تَخَافُونَ نُـشُـوزَهُـنَّ )[ النساء 34 ] ، نُـشُـوزَهُـنَّ : تَمَرُّدَهُنَّ فَقَطْ وَ لَمْ يَقُلْ : أوْ إعْراضَهُنَّ ، بَيْنَمَا عِنْدَ الرَجُلِ نَجِدُ النُشُوزَ وَ الإعْرَاضَ : ( وَ إنْ اِمْـرَأةٌ خَـافَـتْ مِـنْ بَعْـلـِهَـا نُشُـوزاً أوْ إعْـراضَـاً )[ النساء 128 ] ، نُشُـوزاً : تَمـرّداً ، إعْـراضَـاً : هُجْرانَاَ بِحيْثُ لاَ يُكلّمها ، فَيَكُونُ [ الشُـحُّ ] و هو : البُخْل حتّى بالعَـواطِفِ وَ الكلامِ إضَافَةً للمَـال مِنَ الرَجُلِ فَقَطْ ، لَذَلِكَ تُتَابِعُ الآيَةُ الكَريمَةُ معَ الرِجال فقط : ( وَ أُحْـضِـرَتِ الأنْفُسُ الـشُـحُّ )[ النساء 128 ] ، و لِذَلِكَ قال تعالى : ( وَ مَـنْ يُوْقَ شُـحَّ نَفْـسِـهِ فَأُولَـئِـكَ هُـمُ الـمُـفْـلِـحُـونَ )[ الحشر 9 ][ التغابن 16 ] ، ( أَشِـحَّـةً عَـلَـيْكُـمْ ... أَشِـحَّـةً عَـلَـى الـخَـيْرِ )[ الأحزاب 19 ] .
.
( مـا يفْعـلُ الله بعـذابكـم إن شـكرتُم و آمنـتم )[ النساء 147 ] :
إنّ اللّـه سُـبحانه و تعالى خـلقـنـا كـيْ نكـونَ [ فقـط ] سُـعـداءَ و فـرحين بكلّ السَـعادة في الدنيـا و الآخـرة ، لذلك جعَلَ هـذا الديْن في غـاية [ اليُسْـر ] ، كمَـا قال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلّم : [ إنّ هـذا الدينَ يُسْـرٌ ] ، و قال تعالى عن هذا الدين أنّـه [ حـنيف = مَـرِنٌ جـداً ] : ( قُـلْ إنّنـي هـداني ربّـي إلى صـراطٍ مُسـتقيم ، ديْـناً قِــيَــمَــاً ، مـلّةَ إبـراهيْـمَ حـنيفـاً )[ الأنعام 161 ] ، فالدينُ هُـوَ [ القِـيَـمُ ] و الأخلاق .
.
كل هـذا و الله أعلـم .


الجمعة، 27 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة النساء (من اية 1 الى 24)


( خـلَـقَـكُـم مـن نفـس واحـدة )[ النساء 1 ] :
مِنْ بَعْدِ تكْوينِ آدَمَ مِنَ الطينِ ، خُلِقَتْ زَوْجَتُهُ حَـوّاءَ مِن [ نفسه ] لِيَتَزَوّجَهَـا : ( خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ نَفْـسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَـلَـقَ مِنْهَـا زَوْجَهَـا )[ النساء1 ] ، إذاً لا يوجد [ أوادم ] قبل آدم ، ثُمّ وَ بَعْدَ فَتْرَةٍ غَيْرِ مَعْروفَةٍ أمِرَ اللهُ سبحانَهُ الملائِكَةَ بِتَحيّةِ آدَمَ [ السجودَ لآدَمَ ] ، فَنَفّذَ جميعُ الملائِكَةِ الأَمْرَ ، مَـا عَدا إبليسَ الجنّيَ ، الذي كانَ قَدْ حَشَرَ نَفْسَهُ بينَ الملائِكَةِ ، مُحاوِلاً عِبادَةَ اللهِ مِثْلَهُمْ : ( وَ إذْ قُلْـنَا لِلـمَـلائـِكَـةِ اسْجُـدوا لآدَمَ فَسَـجَـدوا إلاَّ إبْلـيسَ كـانَ مِـنَ الجِـنِّ )[ الكهف 50 ] .
ثُمَّ أسْكَنَ اللهُ سُبْحانَهُ آدَمَ وَ زَوجَتَـهُ في الجَنّـةِ الأرْضيّةِ ، وَ أمَرَهُما عَدَمَ الأكْلِ مِنْ إحْدى الأشْجَارِ : ( وَ قُلْـنَا يا آدَمُ اسْـكُـنْ أنْتَ وَ زَوْجُـكَ الـجَـنَّةَ وَ كُـلاَ حَـيْثُ شِـئْـتُمَـا مِـنْهَـا رَغَـداً وَ لاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الـشَـجَـرِة َ فَتَكُـونَا مِـنَ الـظَـالِـمِـينَ )[ البقرة 35 ]
فَتَدَخّلَ إبْليسُ ، وَ غَرَّرَ بِهِمَا بَعْدَ أنْ أقْسَمَ كاذِباً : ( وَ قَاسَـمَـهُـمَـا إنّي لَـكُـمَـا مِـنَ الـنَاصِـحـينَ فَدَلاّ هُـمَـا بِغُـرُورٍ )[ الأعراف 21 ] ، غَرّرَ بِهِما ، فَلَمْ يخْطُرْ بِبالِ آدَمَ أنّ أحداً يُقْسِمُ باللهِ كَذِباً ، فأكَلاَ مِنَ الشَجَرَةِ : ( فَلَـمَّـا ذاقَا الـشَجَـرَةَ بَدَتْ لَهُـمَا سَـوْآتُهُـمَـا ) [ الأعراف 22 ] ، فَحَقّقَ إبْليسُ الشَيْطانُ بِذَلِكَ ، وَ كانَ الخُروجُ مِنَ الجَنّةِ الأَرْضيّةِ التي كانَتْ تُؤَمِّنُ لآدَمَ حاجيّاتِهِ الأَسَاسيّةِ ، فَبَـدَأَ كِفاحَهُ وَ شَقاءَهُ مِنْ أَجْلِ العَيْشِ : ( فـَقُـلْـنَا يَا آدَمُ إنَّ هَـذا عَـدوٌّ لَـكَ وَ لـزَوْجِـكَ فَـلاَ يُخْـرِجَـنَّكُـمـَا مِـنَ الـجَـنَّةِ فَـتَشْـقى )[ طه 117 ] ، وَ كانَ ذَلِك سَبَباً لِدَبِّ النِزاعَاتِ بَيْنَ البَشَـرِ : ( بَعْـضُـكُـمْ لِـبَعْـضٍ عَـدُوٌّ ) [ البقرة 36 ] .
كُلُّ هَذا و الله أعلم .


(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

            ســورة ال عمران(من اية 104 الى اخرها)


يـأمرون بـالـمعـروف : 
( و لـتـكنْ مـنكم أمّـةٌ يـدعونَ إلى الخير و يأمـرون بالمعـروف و ينهون عن المنكـر ، و أولائك هُـم المفلحون )[ آل عمران 104 ] ، وَ ( الأمْـرُ بالمَعْروفِ وَالنَهْيُ عَنِ المُنْـكرِ ) ، هوَ مِنَ الخَصَائِصِ الهامّة لهذه الأمّة ، فَلَمْ تَكنْ هذِهِ الأمَّةُ خَيْرَ الأُمَمِ إلاَّ حينَما أَمَرَتْ بالمَعْروفِ وَ نَهَتْ عَنِ المُنْكرِ : ( كُـنْتُمْ خَـيْرَ أُمَّـةٍ أُخْـرِجَـتْ لِلـناسِ تَأْمُـرونَ بِالـمَـعْـروفِ وَ تَنهَـوْنَ عَـنِ الـمُـنْكَـرِ )[ آل عمران 110 ] .
( وَ أْمُـرْ بِالـعُـرْفِ )[ الأعراف 199 ] ، وَ العُـرْفُ وَ المعْروفُ : هوَ مَا تَعَـارَفَ عليْهِ المجْتَمَعُ شَرْطَ أنْ لا يَتَعَارَضَ مَعَ نَصٍّ شَرْعيٍّ فَيَكونُ عُرْفـاً باطِـلاً ، أيْ هوَ : كلُّ أمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ [ عُرْفاً أوْ شَرْعاً أو عَقْلاً أوْ طَبْعاً ] ، وَ هوَ عَـامٌّ لِكلِّ المجتَمَع ، وَ خاصٌّ لِفِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ التجَّارِ مَثَلاً ، فـالعَادَةُ مُحَكِّمَـةُ ، وَ المعْروفُ عَكْسُ المنْكَرِ [ الشَيْءُ غيْرُ المألوفِ ، وَ ما لا يَقْيَلُهُ عَقْلٌ أو منْطِقٌ أوْ طَبعٌ ] ، وَ لا يُنْكَرُ تَغَيَّرُ الأحْكام بِتَغَيّر الزمَـانِ ، عنْ حُذَيْفَةُ بن اليَمانِ رضيَ الله عنه عَنِ النبيّ صلى الله عليه و سلم قالَ : [ وَ الذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَـأْمُرَنَّ بالمعروف وَ لَتَنْهونَ عن المنْكَرِ أوْ لَيوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكمْ عِقاباً منه ثُمَّ تَدْعونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لكمْ ][ رواه الترمذي ] .
.
مـعـركـة بـدْر :
( و لقـد نصَركُم الله ببـدْرٍ و أنـتُم أذِلّةٌ )[ آل عمران 123 ] .
أخْرَجَ الله المُؤمِنينَ للقِتَالِ : ( كَـمَـا أخْـرَجَـكَ رَبُّـكَ مِـنْ بَيْتِـكَ بِالـحَـقِّ وَ إنَّ فَـريقاً مِـنَ الـمُــؤمِـنينَ لَـكَــارِهُـونَ )[ الأنفال 5 ] ، وَ نَظَّمَ صُفوفهُمْ عَسْكَرياً : ( تُبَـوِّىُ الـمُـؤمِـنينَ مَـقَـاعِـدَ للـقِـتَالِ )[ آل عمران 121 ] ، بَعْدَ أنْ شَاوَرَ أصْحَابَ الاخْتِصَاصِ في مَوْقِعِ التَمَرْكُزِ ، فَكَانَ رَأْيُهُمْ أنْ يَتَمَرْكَزُوا في العُدْوَةِ الدُنْيَا [ الأقْرَبُ إلى المدينَةِ ] ، وَ قَدْ أيَّدَ القُرْآنُ هَذَا الرَأْيَ للحَبّاب بن المُنْذِرِ كَوْنَهُ صَائِبَاً : ( إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الـدُنْيَا وَهُـمْ بالعُـدْوَةِ الـقُـصْوى ) [ الأنفال 42 ] ، وَ في لَيْلَةِ المَعْرَكَةِ سيْطَرَ عليْهِمُ النَوْمُ العَمِيقُ مِنْ أجْلِ الرِاحَةِ الجسْميَّةِ و النَفسيَّةِ : ( إذْ يُغَـشِّـيْـكُـمُ الـنُعَـاسَ أمَـنَةً مِـنْهُ )[ الأنفال 11 ] .
وَ فـي المَنـَامِ هَيّـأَ اللهُ رُؤيَا خَاصّة لِرَسُولِهِ الكريم [ رَفْعُ الرُوحِ المَعْنَويَّةِ للقَائِدِ العَسْـكريِّ ] : ( إذْ يُـرِيْـكَـهُـمُ اللَّـهُ فـي مَـنَامـكَ قَـلـيلاً وَ لَـوْ أراكَـهُـمْ كَـثيراً لَـفَـشِـلْـتُمْ وَ لَـتَنَازَعْـتُـمْ فـي الأمْـرِ وَ لَـكِـنَّ اللَّـهَ سَـلَـمَ )[ الأنفال 43 ] ، وَ في الصَباحِ تَمَّ الاسْتيقاظُ بِنَشَاطٍ بَعْدَ الرَشِّ بالمِيـاهِ : ( وَ يُنَـزِّلُ عـلَـيْكُـمْ مِـنَ الـسَـمَـاءِ مَـاءً لَـيُطَـهِّـرَكُـمْ بِهِ وَ يُذْهِـبَ عَـنْـكُـمْ رِجْــزَ الـشَـيْطانِ وَ لِـيَـرْبِطَ عَـلـى قُـلُـوبِكُـمْ )[ الأنفال 11 ] ، وَ كانَ رشُّ الأرْضِ بالمَاءِ ضَرورياً لأنَّ غَالبيّة الجيشِ المُسْـلِمِ كانَوا مُشَـاةً : ( وَ يُـثَـبـِّتَ بِهِ الأقْدامَ )[ الأنفال 11 ] .
وَ قَبْلَ بِدايَةِ المَعْرَكَةِ قَلَبَ اللهُ حَالةَ الرُؤيـَا في عَيْنَيْ رَسُولِهِ وَ المُؤمِنينَ لِرَفْعِ الرُوحِ المَعْنَويّةِ الضَروريّةِ للنَصْرِ : ( و َإذْ يُـريـكُـمُـوهُـمْ إذ ِالـتَقَـيْـتُـمْ فـي أَعْـيُـنِكُـمْ قَـلـيلاً وَ يُقَـلِّـلُـكُـمْ فـي أَعْـيُـنِهِـمْ لِـيَقْـضِـيَ اللَّـهُ أمْـراً كَــانَ مَـفْـعُـولاً )[ الأنفال 44 ] ، بَعْدَ أنْ كَانَتْ الرُؤيـَا تُشيرُ عكْسَ ذَلِكَ بِسَـبَبِ الخَـوْفِ المُسَيـْطِرِ : ( يَرَوْنَهُـمْ مِـثْـلَـيْهِـمْ رَأْيَ الـعَـيْنِ ) [ آل عمران 13 ] .
وَ كانَ نُزُولُ المَلائِكَةِ ، مِنْ أجْلِ رَفعِ الحَالَةِ المَعْنويّةِ أوّلاً : ( وَ مَـا جَـعَـلَـهُ اللَّـهُ إلاَّ بُشْـرى وَ لِـتَطْـمَـئِنَّ بِهِ قُـلُـوبُـكُـمْ )[ الأنفال 10 ] ، فالمُلاحَظُ أنَّهُ كُلّمَا تَشَكّلَ مَجْموعَةٌ قِتاليـةٌ مُؤمِنَةٌ عَدَدُهَـا [ 100 ] مُـسْلِمٍ ، يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ [ 1000 ] مَلَكٍ ، كَتَغْطِيَةٍ جَوّيَةٍ لِحِمايَتِهِمْ ، فَلَمّا كَانَ عَدَدُ المُسْلِمينَ [ 314 ] مُقَاتِلاً ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ المَلائِكَةِ ثلاثَةُ آلافٍ ، حَيْثُ بَقِيَ [ 14 ] مُسْلِمَـاً [ خَارِجَ التَغْطِيَـةِ ] ، هُمْ الذينَ كَانوا الشُـهَداءَ الأرْبَعَةَ عَشَـرَ فَقَطْ ، وَ بِما أنَّ الخَسَـائِرَ المُعَـادِيَةَ هيَ عَشَرَةُ أضْعافِ الخَسائِرِ المُؤمِنَةِ ، فَقَدْ كانَتْ فِعْلاً خَسَائِرُ الأعْداءِ 140 مُقَاتِلاً : [70 قتيلاً +70 أسيراً بِحُكْمِ القَتْلى ] : ( إنْ يَكُـنْ مِـنْكُـمْ عِـشْـرونَ صَـابِرون يَغْـلِـبُوا مِـئَـتَيْنِ وَ إنْ يَكُـنْ مِـنْـكُـمْ مَـائَـة يَغْـلِـبُوا ألْـفاً )[ الأنفال 65] ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى : ( فَـاضْـرِبوا فَـوْقَ الأعْـناق ِ)[ الأنفال 12 ] ، فَهُوَ تَعْليمٌ للمُؤمِنينَ حَيْثُ أنَّ الضَرْبَ فَوْقَ الأعْناقِ ، وَ لوْ بِقُوّةٍ خَفيفَةٍ عَلى البَصَلَةِ السيسائيّةِ كَافٍ للقَتْلِ ، وَ هُوَ القَتْـلُ الرَحيْمُ حتّى لِلأعْداءِ ، أمّا مِنْ أجْلِ شَـلِّ قُدْرَةِ العَدوِّ ، وَ إخْراجِهِ مِنْ أرْضِ المَعْرَكَةِ : ( وَ اضْـرِبوا مِـنْـهُـمْ كُـلَّ بَنَانٍ )[ الأنفال 12 ] ، فَبَعْدَ الأَخْذِ بكُلِّ هَذِهِ الأسْبابِ ، أتى النَصرُ الإلهيُّ : ( وَ مَـا الـنَـصْـرُ إلاَّ مِـنْ عِــنْـدِ اللَّـهِ إنَّ اللَّـهَ عَـزيزٌ حَـكِـيمٌ )[ الأنفال 10 ] ، ( وَ لَـقَـدْ نَصَـرَكُـم اللَّـهُ بِبَـدْرٍ وَ أنْتُمْ أذِلّـةٌ )[ آل عمران 123 ] ، بَعْدَ أنْ طَبَّقَ الخُطَطَ العَسْكَريَّةَ اللازِمَةَ ، وَ لَيْسَ النَصْرُ بِدونِ عَمَلٍ ، وَ بِدونِ الأخْذِ بالأسْبَابِ : ( وَ لَـقَـدْ صَـدَقَـكُـمُ اللّـهُ وَعْـدَهُ إِذْ تَحُـسُّـونَهُـمْ بِإذْنِهِ )[ آل عمران 152 ] .
.
فـحَـصَ ، مـحّـصَ :
( و لـيُـمَـحّـصَ مـا في قلـوبكـم )[ آل عمران 154 ] ،إنّ [ الفَحْص ] هو الاختبـار العـلنيّ ، و يُظـهر الإنسان أنّه يعمل العملَ الصالح ، مثال : الصلاة نفاقاً دون الإيمان بهـا .
بينمـا [ الـمَـحْـص ] : هو إختبارٌ سـريّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، الذي يعلم [ ذات الصدور ] ، و يعْلَم [ الـنـيّة ] من العمَل ، لذلك كان آخر الآية الكريمة : ( و الله عـليمٌ بذات الصدور )[ آل عمران 154 ] ، فإذا نجح الإنسان في [ الفحْص ] فقط ، يكون عمله [ حسناً ] ، أمّـا إذا نجحَ في [ الفـحْـص + الـمَـحْص ] ، عندهـا يكون عمله [ صالحاً ] يُصلح حال الفرْد و المجتمع و يُرفع عمله إلى الله سبحانه : ( و العـملُ الصالح يرفعه ) [ فاطر 10 ] .
.
الأجـل الـمسـمّى و الأجـل الـمُـقـضـى :
إنَّ لِكُلِّ إنْسَـانٍ مِنَّـا أجَلَيْـنِ ، وَ لَيْسَ أجَـلاً واحِـدَاً ، فَـإذَا مَـا نَظَـرْنَا في قَوْلِهِ تعالى : ( هُـوَ الـذي خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ طِـينٍ ثُـمَّ قَـضَـى أجِـلاً وَ أجَـلٌ مُـسَـمَّـى عِـنْدَهُ )[ الأنعام 2 ] ، فالأجَلُ أجَـلاَنِ : [ أجَلٌ مُقْضَى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ بِشَكْلٍ سَريعٍ مِثْلَ الحَوادِثِ وَ الكَوارِثِ أوِ القَتْلِ مَثَلاً ، وَ [ أجَلٌ مُسَمَّى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ حَتْمَاً في نِهَايَةِ عُمْرِهِ ، وَ لَيْسَ فيهِ أيُّ تَقْديْمٍ أوْ تَأْخيرٍ : ( وَ مَـا مُـحَـمَّـدٌ إلاَّ رَسُـولٌ قَـدْ خَـلَـتْ مِـنْ قَبْلِـهِ الـرُسُـلُ أَفَإنْ مَـاتَ أوْ قُتِلَ )[ آل عمران 144 ] ، مَـاتَ : بالأجَلِ المُسَمّى ، أوْ قُتِلَ : بالأجَلِ المُقْضى في أيِّ وَقْتٍ كَانَ ، حَيْثُ كَانَ نَصِيبُ الكَثيرِ مِنَ الأنبياءِ الكِرامِ القَتْلُ [ الأجَلُ المُقْضَى ] : ( وَ يَقْتُلُـونَ الأنْبِيَاءَ بِغَـيْرِ الـحَـقِّ )[ آل عمران 112 ] ، و قوله : ( بِغَـيْرِ الـحَـقِّ ) تُظْهرُ أنّ في القتل لا يكون عُمر الإنسان منتهياً ، وَ الآيَةُ الكريْمَةُ التاليَةُ تَزيدُ الأمْرَ وُضُوحَاً أكْثَرَ : ( وَ لَـوْلاَ كَـلِـمَـةٌ سَـبَقَتْ مِـنْ رَبِّكَ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى لَـقُضِـيَ بَيْنَهُـمْ )[ الشورى 14 ] ، وَ كَذَلِكَ : ( وَ رَبُّكَ الـغَـفُـورُ ذُو الـرَحْـمَـةِ لـوْ يُؤاخِـذُهُـمْ بِمَـا كَـسَـبُوا لَـعَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ بَلْ لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ لَـنْ يَجِـدوا مِـنْ دُونِهِ مَـوْئـِلاً )[ الكهف 58 ] ، عَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ : بالأجَلِ المُقْضى ، لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ : الأجَلُ المُسَمّى ، أيْ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِمَـا كَـسَـبوا مَـا تَرَكَ عَـلـى ظَـهْـرِهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى )[ فاطر 45 ] ، أي إزالَةِ كلّ أشْكالِ الحياةِ بالأجَلِ المُقْضى ، لأنّ الأجَلُ المُسَمّى لَيْسَ فيهِ تَأخيرٌ .
فَالأجَلُ المُقْضَى يُمْكِنُ تَأجيلُهُ حَتَّى الأجَلِ المُسَمَّى حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تَأْخيرٌ وَ لَوْ لِسَـاعَةٍ واحِـدَةٍ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِظُـلْـمِهِـمْ مَـا تَرَكَ عَـلـيْهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـىً فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ) [ النحل 61 ] ، ( وَ لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ الأعراف 34 ] ، ( لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ إذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ فَـلا يَسْـتَأْخِـرونَ سَـاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ يونس 49 ] ، فالأجَـلُ المُسَـمَّى لاَ تَقْديْمَ فيهِ وَ لاَ تَأْخيرَ ، فقد قَدَّمَ التَأْخيرُ ( يَسْتَأخِرونَ ) وَ أخَّرَ التَقْديمُ ( يَسْتَقْدِمُونَ ) ، وَ ذَلِكَ لِحَسْمِ المَوْضُوعِ حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تأْخيرٌ في الأجَلِ المُسَمّى .
( وَ لَـئـِنْ أخَّـرْنَا عَـنْهُـمُ الـعَـذَابَ إلـى أُمَّـةٍ مَـعْـدُودَةٍ )[ هود 8 ] ، ( وَ لَـنْ يُؤَخِّـرَ اللّـهُ نَفْسَاً إذَا جَـاءَ أجَلُـهَـا )[ المنافقون 11 ] ، ( وَ مَا كَانَ لِـنَفْسٍ أنْ تَمُـوتَ إلاَّ بِإذْنِ رَبِّهَـا كِـتَابَاً مُـؤَجَّـلاً )[ آل عمران 145 ] ، إذاً : تَمُـوتَ وَ ليْسَ تُقْتَلُ لأنَّ اللّهَ لاَ يَأْذَنُ بِقَتْلِ أحَدٍ ، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ )[ الرعد 38 ] ، وَ الكِتَابُ : هُوَ مَجْمُوعَةُ العَوامِلِ وَ الأسْبَابِ التي تُنْهي الحَيَاةَ ، مِثْلَ الحَوادِثِ وَ المَرَضُ المُميتُ وَ الشَيْخوخَةِ وَ القَتْلُ 000 ، فإذَا وَقَعَتْ هَذِهِ العَوامِلُ ( الكِتَابُ ) انْتهى الأجَلُ وَ حَصَلَ الحَسْمُ ، وَ يَعْمَلُ الطُبُّ وَ الإسْعَافَاتُ عَلى وَقْفِ وَ تَأْخيرِ هَذِهِ العَوامِلَ ، لِمَنْعِ الأجَلِ المُقْضى وَ رَفْعِ مُعَدَّلِ الأعْمَارِ [ في الدُوَلِ المُتَقَدِّمَةِ ] ، وَ لِكِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ في النِهَايَةِ الأجَلَ المُسَمّى.

كل هذا والله اعلم.



الأربعاء، 25 مارس 2015

(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة ال عمران(من اية 1 الى 104)

إمـرأة عـمـران :
عِمْـرانُ بنُ مَـاثَان ، مِنْ نَسْلِ النبي داوودَ عليه السلام ، وَهُوَ رَأْسُ أُسْرَةِ [ آلِ عِمْـرانَ ] ، وَ وَالِدُ السَيِّدَةِ مَرْيَمَ العَذْراءَ ، وَ قَدْ تُوفِّيَ وَ تَرَكَ زَوْجَتَهُ حَامِلاً بِمَرْيَمَ ، فَنَذَرَتْ مَا في بَطْنِهَا خالِصَاً للّـهِ : ( إذْ قَـالَـتِ امْـرَأةُ عِـمْـرانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَـكَ مَـا فِي بَطْـني مُـحَـرَّراً فَلَـمَّـا وَضَـعَـتْـهَـا قَالَـتْ رَبِّ إنَّي وَضَـعْـتُهـا أُنْثـى .... وَإنّي سَـمَّـيْتُهَـا مَـرْيَمَ )[ آل عمران 35 / 36 ] ، و مَـرْيَمَ : أيْ خَادِمَةُ اللّهِ ، وَ زَكَرِيّا هُوَ زَوْجُ أُخْتِها وَ تُدْعَى [ إليزابيت ] ، وَ قَدْ فَازَ بِرِعَايَتِهَا بَعْدَ أنْ رَبِحَ في سِبَاقِ الأَسْهُمِ التي ألْقُوهَا في المَاءِ : ( وَ مَـا كُنْتَ لَـدَيْهِـمْ إذْ يُلْـقُونَ أَقْلاَمَـهُـمْ أَيُّهُـمْ يَـكْـفُلُ مَـرْيَمَ وَ مَـا كُـنْتَ لَـدَيْهِمْ إذْ يَخْـتَصِـمُـونَ )[ آل عمران 44 ] ، وَ لَهُمْ سُوْرَةُ [ آلِ عِمران ] في القرآن الكريم : ( إنَّ اللّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ وَ نُوحَـاً وَ آلَ إبْراهـيمَ وَ آلَ عِـمْـرانَ عَـلَـى الـعَـالَـمـينَ )[ آل عمران 33 ] ، و لذلك كان عيسى و يحي عليهما السلام أولاد الخـالة .
و أولادُ عمـران ثـلاثةٌ و هُم : [ هارون + مـرْيَم + إليزابيت ] ، لذلك قال لهـا قومهـا : ( يَا أُخْــتَ هَـارونَ )[ مريم 28 ] ، و هارون أخو مريم يختلف عن هارون أخو موسى ، لأن بين موسى و عيسى آلاف السنين ، عليهم السلام جمـيعاً

( إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِـعَ للـنَاسِ لـَلـذي بِبَكَّـةَ )[ آل عمران 96 ] ، لَـلـذي : اللامُ الأولى هنا تسمّى [ اللام المزحلَقَـة ] وَ تأتي بخبر إنَّ لِتوكيدِهِ ، بَكَّـةَ : الموقع الذي يخص الحَـرَم فَقَطْ وَ ليسَ كل مكّـة ، لِذَلِكَ لا يَصْلُحُ غَيْر هَذا المَوْقِعِ [ مَكَّـةَ ] للحَـجِّ ، وَ كانَ ذَلِكَ حَسْبَ تَوْجِيـهٍ إلَهيِّ : ( وَ إذْ بَوَّأْنا لإبراهِـيمَ مَـكَـانَ الـبَيْتِ )[ الحج 26 ] .
لِذَلِكَ أهلَكَ اللهُ جيْشَ [ أبْرَهَةَ بن الصباح ] عِنْدَما حاوَلَ هَدْمَ الكعبَةِ لِتَغْييرِ مَكانِهـَا ، حَيْثُ بنى في اليَمَنِ [ في صَنْعاءَ ] بِناءً بَديلاً عَنْها سَمَّاهُ [ القُلّيِسْ أو القايِسْ ] : ( ألَـمْ تَـرَ كَــيْفَ فَعَـلَ رَبُّكَ بِأصْـحَـابِ الـفـيل ألَـمْ يَجْـعَـلْ كَــيْدَهُـمْ فـي تَضْـلـيلٍ فَجَـعَـلَـهُـمْ كَـعَـصْـفٍ مـَأْكُـولٍ )[ سورة الفيل ] ، فاللـهُ سبحانه لا يَسْـمَحُ بِتَغييرِ المَـوْقِعِ فقط ، و مَـا زالَتِ و ستبقى الكَـعْبَةُ الشريفة هيَ بيتُ اللهِ الحَرامِ : ( جَـعَـلَ اللـهُ الـكَـعْـبَـةَ الـبيْـتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] .


كل هـذا واللـه أعلـم .


(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)

سورة البقرة (من اية 253 الى آخر السورة)

آيـة الكـرسـيّ :
إذَا أَجْريْنَـا المُقَـارَنَةَ التَـالِـيَةَ :
بين : ( اللَّهُ نُورُ الـسَـمَـاواتِ وَالأرْضِ)[ النور 35 ] وَ : ( وَسِـعَ كُـرْسِيُّهُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ )[ البقرة 255 ] ، و بين : ( إنَّ اللّـهَ يُمْـسِـكُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ أنْ تَزولاَ ) [ فاطر 41 ] و : ( وَلا يَؤُودُهُ حِـفْظُـهُـمَـا )[ البقرة 255 ] .
يَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ : الكُرْسيّ هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ
إذَاً الكُرْسِـيّ : هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ التي يَحْفَظُ بِهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ السَماواتِ وَ الأَرْضِ مِنَ الزَوالِ عَنْ طَريقِ [ الأَمْـرِ ] : الذي يُمَثِّلُ الطَـاقَةَ الهَـائِلَةَ الكُلّيَةَ التي يُحَرِّكُ بِهَا الخَالِقُ كُلَّ مَـا خَلَقَ ، لِذَلِكَ : ( أَلاَ لَـهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الـعَـالَـمينَ )[ الأعراف 54 ] .
وَ عَنْ طَريقِ الأَمْـرِ [ القُدْرَةُ الكليّةُ ] يُديرُ اللّهُ أُمُورَ الكَوْنِ : ( وَ أَوْحَـى فـي كُـلِّ سَـمَـاءٍ أَمْـرَهَـا )[ فصلت 12 ] ، وَ عَنْ طَريقِ الأَمْرِ يَكُونُ [ كُنْ ] : ( إنَّمَـا أمْــرُهُ إذا أرَادَ شَـيْئـاً أَنْ يَقُولَ لَـهُ كُـنْ فـَيَكُـونُ )[ يس 82 ] ، ( وَ يَوْمَ يَقُـولُ كُـنْ فَيَـكُـونُ قَـوْلُــهُ الـحَـقُّ )[ الأنعام 72 ] ،لأنَّ : اللّهَ سُبحَانَهُ مُمْسِـكٌ بِكُلِّ خُـيُوطِ الطَـاقَةِ في الكَونِ ، لِذَلِكَ يَسْتَطيعُ اللّهُ وَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْ يُوجِدَ مَا يَشَاءُ بِأَجْزاءٍ مِنَ الثَانِيَةِ ، حَيْثُ الحَقيقَةُ العِلْمِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الإرادَةَ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ [ الكَافِ وَ النُونِ بِكَلِمَةِ كُنْ ] ، وَ لَيْسَ بَيْنَ [ الكَافِ وَ النُونِ ] ، لأَنَّ لَفْظَ حَرْفِ الكَافِ يَأْخُذُ ثانِيَةً ، وَ هَذَا زَمَنٌ طَويلٌ جِدَّاً بالنِسْبَةِ لِسُرْعَةِ الضَوْءِ .
.
مَدينَـةُ بـابِـلْ
مَدينَةٌ قديمةٌ تَقَعُ عَلى بُعْدِ 90 كيلو متْراً جنُوبَ غَرْبِ بَغْدادَ في العِراقِ ، وَ مَعْـنى اسْمها : [ بابُ الإلهِ _ بابُ إيلْ ] ، وَ قَدْ وَرَدَ اسْمها في القرْآنِ الكريمِ بَقَوْلِهِ تعالى : ( وَ مَا أُنْزِلَ عَـلى الـمَـلَـكَـيْنِ بِـبَابِـلَ )[ البقرة 102 ] ، وَ يُنْسَبُ لها أُسْـطورَةُ التَكْوين البابليّ .
مِنْ أشْـهَرِ مُلوكِهـَا نَمْـرود الذي كانَ صَيَّـاداً في بدايَـةِ حياتِـهِ ، ثُـمَّ عْطاهُ اللهُ المُلْكَ ، فأسَّـسَ الإمبراطوريّةَ البابليّةَ ، وَ هُوَ الذي حَاجَّ إبْراهيمَ علَيْهِ السلامُ في رَبِّهِ : ( أَ لَـمْ تـَرَ إلى الـذّي حَـاجَّ إبراهـيمَ في رَبِّـهِ أَنْ آتاهُ اللَّـهُ الـمُـلْـكَ ... قالَ أنَا أُحْـيـي وَ أُمِـيْـتُ )[ البقرة 258 ] ، فَقَدْ كانَ جَبّاراً و كافراً .
.
( فَـبُهِـتَ الـذي كَـفَرَ )[ البقرة 258 ]
مِنَ المُثِيرِ لِلدَهْشَةِ أَنَّ إبراهيمَ عليهِ السلام ، كَانَ أَوَّل مَنْ أَدْرَكَ الحَقيقَةَ العِلمِيَّةَ : [ مَـبْدَأَ العَطَالَةِ وَ القُصُورِ الذَاتيِّ ] ، وَ ذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ حَديثِهِ مَعَ الكَافِرِ الذي حَاجَّهُ في رَبِّهِ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ فَإنَّ اللّـهَ يَأْتي بِالـشَـمْـسِ مِـنَ الـمَـشْـرِقِ فَأْتِ بِهَـا مِـنَ الـمَـغْـرِبِ فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ )[ البقرة 258 ]
أيْ طَلَبَ مِنْهُ إبراهِيمُ أنْ يَعْكِسَ دَوران الأَرْضِ كَيْ تَأْتي الشَمْسُ مِنَ المَغْرِبِ ، فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ لأَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعَ الأَرْضِ جُمْلَةً فيزيائِيَّةً وَاحِـدَةً فَمْهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإنَّهَا قُوَّةٌ دَاخِلِيَّةٌ بالنِسْبَةِ للجُمْلَةِ الفيزيَائِيَّةِ ، وَ مُحَصِّلَتُهَا = 0 ،
نُلاَحِظُ أَنَّ الذي كَفَرَ ، بُهِتَ فَقَطْ عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ إبراهيمُ عَكْسَ اتِّجَاهِ دَورانِ الأَرْضِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُبْهَتْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إبْراهيمُ : ( إنَّ رَبِّي يُحْـيي وَ يُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، بَلْ قَالَ : ( أنَا أُحْـيي وَ أُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، فَأحْضَرَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِإعْدَامِ أَحَدِهِمَا وَ إبْقَاءِ الآخَرَ حَيَّاً ، وَ قَالَ لإبْراهِيم : هَكَذَا أَنـا أُحْيي وَ أُمِيْتُ ، لِذَلِكَ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ رَبِّ أَرِني كَــيْفَ تُحْـيي الـمَـوتـى )[ البقرة 260 ] ، كَيْ يَرى هَذا الكَافِرُ كَيْفَ يَكُونُ إحْيَاءُ الموتى ، فكان الردّ الإلهيّ : ( قال فَخُـذْ أَرْبَعَـةً مِـنَ الـطَـيْرِ فَصُـرْهُـنَّ إلَـيْكَ ثُمَّ اجْـعَـلْ عَـلـى كُـلِّ جَـبَلٍ مِـنْهُـنَّ جُـزْءاً ثُمَّ ادْعُـهُـنَّ يَأْتِيْنَكَ سَـعْـيَاً )[ البقرة 260 ] .
.
الـقُـدْسُ وَ الـمُـقَـدّسُ :
تَعْـني مَنْ يَمْنَحُ الحَيَاةَ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ عَجَبَ أنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْضَرَ مُوسى إلى الوادِي المُقَدَّسِ : ( إنَّكَ بالـوادِ الـمُـقَدَّسِ طُـوى )[ طه 12 ] ، حَيْثُ تَحَوَّلتِ العَصَـا إلى حَيَّةٍ تَسْعَى ، وَ حِيْنَ هَدَّمَ القُدْسَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ [ نَبُو خَذِّ نَصَّرْ ] عَام 585 قبل الميلادِ ، مَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ فاسْتَغْرَبَ عَوْدَتَها للحَيَاةِ : ( أوْ كَـالـذي مَـرَّ عَـلـى قَـرْيَةٍ وَ هِـيَ خَـاوِيَةٌ عَـلى عُـروشِهَـا فَقَالَ أنَّى يُحْي هَذِهِ اللّـهُ بَعْـدَ مَـوْتِهَـا فَأمَـاتَهُ اللّـهُ مِـئَةَ عَـامٍ ثُمَّ بَعَـثَهُ ) [ البقرة 259 ] ، لِيَرى أنَّ القُدْسَ قَدْ عَادَتْ للحَياةِ ، كَمَا أنَّ القُدْسَ وَالمُقَدَّسَ يَمْنَحُ البَرَكَةَ حَوْله : ( الـمَـسْـجِـدِ الأقْصَـا الـذي بَارَكْـنَا حَـوْلَـهُ )[ الإسراء 1 ] .
.
( الـشَـيْطَـانُ يَعِـدُكُـمُ الـفَقْـرَ )[ البقرة 268 ]
وَ الفَقْـرُ لَـهُ أَشْكَالٌ عَديدَةٌ : المَاليّ وَ العِلْميَّ وَ الصِحيّ وَ الإجتماعيّ 000 ، وَ كُلُّ أنْواعِ الفَقْر ِهَذه مَوْجُودَةٌ مَعَ الأَسَفِ في المُجْتَمَعِ العربيّ و الإسْلاميِّ .
وَ الـذي لاَ يَعِيشُ عَصْـرَهُ وَ يَتَفاعَـلُ مَعَـهُ ، هُوَ في خُـسْرٍ : ( وَ الـعَـصْـرِ إنَّ الإنْسَـانَ لَـفـي خُـسْـرٍ )[ العصر 1 ] ، و العصـرُ هو : العصر الذي يَعيشُ بِـهِ الإنْسَانُ .
وَ نِسْـبَةُ الأُمِيَّـةِ في المُجْتَمَعِ العَربيِّ مُخِيفَـةٌ ، وَ نظـافةُ النَصّ المحفوظِ [ القُرآنُ الكريمُ ] ، لـمْ تنتقلُ إلى [ نظـافَةِ الفهْـم ] ، وَ نظـافَةِ الأخلاقِ و البيْئةِ و السلوكِ ، فبقيَتْ هذه الأمّة في [ فقْـرهـا ] العلميّ و الحضاريّ ... ، و هـذا مَا يُريْدُه الشـيْطانُ .
.
فَـنَـظِـرةٌ إلى [ مَـيْسَـرة ] :
( وَ إنْ كَـانَ ذُو عُـسْـرَةٍ فَنَظِـرَةٌ إلـى مَـيْسَـرَةٍ )[ البقرة 280 ] ، وَ [ مَيْسَرَة ] مُنْتَهى اليُسْـرِ وَ لَيْسَ اليُسْرُ العَاديُّ ، فعلى الدائن انتظار المدين حتى يُصبح في ميسَرة و يحلّ جميع مشاكله المالية ، ثُمّ يُطالبه بالدين .
يُصَاغُ الاسْمُ في اللُّغَةِ عَلى وَزْنِ [ مَفْعَلَة ] لِلدَلاَلَةِ عَلى الكَثْرَةِ ، فَحَيْثُ تَكْثُرُ الدِراسَةُ
[ مَدْرَسَة ] ، وَ حَيْثُ يَكْثُرُ العِراكُ [ مَعْرَكَة ] وَ حَيْثُ تَكْثُرُ القُبُورُ [ مقْبَرَة ] وَ حَيْثُ يَكْثُرُ الطَحْنُ [ مَطْحَنَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الكُتُبُ [ مَكْتَبَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الطِباعَةُ [ مَطْبَعَة ] ، وَ هَكَذَا نَجِدُ في القُرْآنِ الكَريمِ ، الكَثيرَ مِنَ الأَمْثِلَةِ :
( أَوْ إطْـعَـامٌ في يَوْمٍ ذِي مَـسْـغَـبَةٍ )[ البلد 14 ] وَ المَسْغَبَةُ : الجُوعُ الشَديدُ ، وَ المَخْمَصَةُ : المَجَاعَةُ ( فَمَـنِ اضْـطُـرَّ في مَـخْـمَـصَـةٍ )[ المائدة 3 ] ، وَ كَثْرَةُ الرَحْمَةِ [ مَرْحَمَة ] : ( الـذينَ آمَـنُوا وَ تَواصَـوْا بِالـصَـبْرِ وَ تَواصَـوْا بِالـمَـرْحَـمَـةِ )[ البلد 17 ] ، كَمَا أنَّ كَثْرَةَ الشُؤْمِ [ مَشْأَمَة ] : ( وَ الذينَ كَفَروا بِآيَاتِنَا هُـمْ أصْـحَـابُ الـمـَشْأَمَةِ )[ البلد 19 ] .
.
المُحكـمـات و الـمـتشـابهات :
( هُـوَ الـذي أنْزَلَ عَـلَـيْـكَ الـكِـتَابَ مِـنْهُ آيَاتٌ مُـحْـكَـمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الـكِـتَابِ وَ أُخَـرُ مُـتَشَـابِهَـاتٌ فَأمَّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُـونَ مَـا تَشَـابَهَ مِـنْهُ )[ آل عمران 7 ]
نُلاَحِظُ أنَّ بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، قَدْ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأُولى أنَّهَا تُعَارِضُ بَعْضَهَا بَعْضَاً مِثْل : ( فَيَوْمَـئِـذٍ لاَ يُسْـأَلُ عَـنْ ذَنْبِهِ إنْـسٌ وَ لاَ جَـانٌ )[ الرحمن 39 ] ، وَ بَيْنَ : ( فَوَ رَبِّكَ لَـنَسْـأَلَـنَّهُـمْ أَجْـمَـعِـينَ )[ الحجر 92 ] ، وَ لَكِنْ : الآية الثانية هي [ مُحْكمة ] و الأولى [ مُتشابهة ] ، أيْ لا بُدّ من سؤال جميع الناس عن أعمالهم ، و الآية الأولى تتحدّث عن [ بداية ] يوم الحساب ، و لكن بعد ذلك سيتمّ سؤال الجميع ، فلا تعارض بين الآيتين الكريمتين ، لذلك يجب ردّ الآيات [ المُتشابهات ] إلى الآيات [ المُحكمات ] ، فالذينَ في عقولهم [ زيْغٌ = نقص ] هُم وحدهُم الذين يتّبعون فقط الآيات [ المُتشابهات ] من أجْل إثارة الفتنة .
.
شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ :
إنَّ شَهَادَةَ : [ لا إلـهَ إلاَّ اللّـهُ ] هيَ أسَاسُ إسْلاَمِ الإنْسَانِ ، وَ بِدُونِهَا يَكُونُ الإنْسَانُ مُشْرِكَاً ، وَهِيَ شَـهَادَةٌ يَشْهَدُهَا المُسْـلِمُ عَلى أَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ كُلِّهِ إلاَهَـاً آخَـرَ ، و بمـا أنّ : [ اللّـهُ أَكْـبَرُ ، اللّـهُ أَكْـبَرُ ] ، لِذَلِكَ فَإنَّ اللّهَ وَحْدَهُ قد أعطانا هَذِهِ الحَقيقَةَ بِأَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ إلَهٌ سِواهُ ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ شَـهِدَ بِذَلِكَ : ( شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ وَ الـمَـلائِـكَـةُ وَ أُولـُوا الـعِـلْـمِ قَائِـمَـاً بالـقِسْـطِ )[ آل عمران 18 ] ، إذَاً نَحْنُ نَشـهَدُ على شَـهَادَةِ اللّه بِأنَّـهُ : [ لا إلـهَ في الوجودِ كلِّـهِ إلاَّ اللّـهُ ] ، وَ لَمَّـا وَصَلَتْنَـا هَذِهِ الحَقيقَةُ عَنْ طَريقِ الرَسُولِ صلى الله عليه و سلم ، فَلاَ بُـدَّ مِنْ إتْمَـامِ الشَـهَادَةِ بالاعْتِرافِ بِـهِ رَسُـولاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ، فَكَانَتِ الشَهَادَّةُ التَـامَّةُ : [ أَشـهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ وَ أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللّهِ ] .

كل هذا والله اعلم .




الثلاثاء، 17 مارس 2015

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)




ســورة البـقـرة (من اية 1 الى 141)

هِيَ أطْوَلُ السُوَرِ المَدَنيَّةِ ، ترتيبُهَا في المُصْحَفِ [ 2 ] ، وَ تَرْتيبُ نُزُولِهَـا [ 87 ] حيثُ نزلت قبل سورة الأنفال و بعد سورة المطففين ، وَ عَدَدُ آيَاتِهَا [ 286 ] آيَة ،

إنّ بداية سورة البقرة و خاصّةً الصفحة المُقابلة لسورة الفاتحة ، تُحدّد صفات [ المتّقين ] الذين سيكونون هُم [ المفلحون ] يوم الحساب ، و الكَلِمَاتِ الأولى مِنْ كِتَابِ اللّهِ هيَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ لاَ رَيْـبَ فِـيـهِ )[ البقرة 2 ] ، نُلاحِظُ أنَّهُ قَالَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ ) ، وَ لَمْ يَقُلْ : [ هَـذا الكِتَابُ ] ، لأنَّ : ( ذلِكَ ) تُفيدُ البُعْـدَ ، أيْ أنَّ : كِتَابَ القُرْآنِ الكريمِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ( لا رَيْبَ فِيهِ ) ، وَ لَنْ يَسْتَطيعَ أحَدٌ إيجَادَ أيِّ رَيْبٍ فيهِ ، حَتَّى في رَسْمِ كَلِمَاتِهِ كَكِتابٍ ، بالرَغْمِ مِنْ تَنَوّعِ مَواضِيعِهِ في شَتّى المَجالاتِ كالتَشْريعِ وَ الفَلَكِ وَ الطبِّ وَ الطبيعَةِ .... .

و تُعتبر سورة البقرة [ مُلَخَّصَاً ] لِكُلِّ القُرْآنِ الكَريمِ ، لِذَلِكَ كَانَ الصَحَابَةُ الكِرامُ عليهم رضوان الله جميعاً ، يَحْرَصُونَ عَلى حِفْظِهَا غَيْبَاً وَ كَانُوا يُدْعَوْنَ : [ أصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ ] ، وَ تَبْدَأُ السُورَةُ بِبِيَانِ سُبُلِ الهِدايَةِ [ الآيات مِنْ 1 إلى 8 ] ، ( بَعْدَ أنْ وَرَدَ في سُورَةِ الفَاتِحَةِ آية : ( اِهْدِنا الصِراطَ المُسْتَقيمَ ) .

ثُمَّ تُوضِحُ السُورَةُ أنَّهُ سَيَكُونُ هُناكَ مُنافِقُونَ يَتَظَاهَرونَ بالإيْمَانِ ، وَ أنَّ هُناكَ طَائِفَة إيْمَانُهَا ضَعيفٌ تُحَاوِلُ إقَامَةَ عَلاقَاتٍ سِرِيَّةٍ مِعَ هَؤلاَءِ المُنافِقِينَ [ الآيات مِنْ 9 إلى 21 ] ، وَ أنَّ عَلى كُلِّ شَخْصٍ أنْ يَصِلَ بِمَعُونَةِ القُرْآنِ إلى رَبِّهِ ، وَ إذَا كَانَ يَتَّبِعُ غَيْرَ دِينِ القُرْآنِ ، فَعَليْهِ أنْ يُقَارِنَ دِينَهُ مَعَ دِينِ القُرْآنِ ، وَ إذَا رَفَضَ المُقَارَنَةَ وَ الحُجَّةَ وَ قِياسَ صِدْقِ القُرْآنِ مَعَ صِدْقِ الكُتُبِ السَماويَّةِ السَابِقَةِ ، فَلاَ مَفَرَّ مِنْ عَذَابِ النَارِ ، فَلِمَاذَا يَخْلُقُونَ الأَعْذَارَ لِعَدَمِ قَبُولِ الحَلَقَةِ الأَخيرَةِ لِنِظَامِ الارْتِقَاءِ الإيْمَانيِّ [ الآيات مِنْ 22إلى 30 ] ، ثُمَّ تَذْكُرُ الحَلَقَةَ الأولى مِنَ السِلْسِلَةِ وَهُوَ آدَمُ عليه السلام ، فالذينَ احْتَرَمُوا آدَمَ مَلاَئِكَةٌ ، وَ الذينَ لَمْ يَحْتَرِمُوه ُشَيَاطِينٌ [ الآيات مِنْ 31 إلى 40 ] ، وَ أنَّ اللّهَ قَدْ أرْسَلَ رُسُلاً تَتْـرا ، وَ مِثَالُ مُوسى عليه السلام لَيْسَ بِبَعيدٍ ، ثُمَّ تُفَنِّدُ السُورَةُ حُجَجَ وَ جِدَالَ المنافقين عَلى تَحْويلِ القِبْلَةِ وَ غَيْرِهَا ، [ الآيات مِنْ 123إلى 153 ] ، وَ في النِصْفِ الثَاني مِنَ السُورَةِ تَتَوَضَّحُ جَميعُ الأَحْكَامِ وَ العِبادَاتِ الإسْلاَمِيَّةِ بَدْأً مِنَ الآيَةِ 214 : ( يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ ) ، ثُمَّ تُخْتَتَمُ السُورَةُ بِأفْضِلِ الأدْعِيَةِ .

.

اسـتوقـد نـاراً :

إنّ كلمة [ استوقد ] تختلف عن كلمة [ أوقد ] ، فكلمة [ أوقد ] تُستخدم للنار المعروفة : ( فَـأَوْقِـدْ لِـي يَا هَـامَـانُ عَـلـى الـطِـيْنِ )[ القصص 38 ] ، أمّـا كلمة [ استوقد ] فهي لنـار [ الحقد و الكراهية ] للآخرين ، و هذا يضع الجسم في حالَةِ [ الحُموضَةِ ] وَ يُذْهِبُ الطاقَة للشخص والذين يُحيطون بـه ، لذلك تقول الآية : ( مَـثَلُـهُـمْ كَـمَـثَلِ الـذي اِسْـتَوْقَـدَ نَاراً فَلَـمَّـا أَضَـاءَتْ مَـا حَـوْلَـهُ ذَهَـبَ اللّـهُ بِنُورِهِـمْ )[ البقرة 17 ] ، و لم تقُل : [ بنـوره ] .

.

جـاعـل في الأرض خـليفة :

كَانَ الملائكَـةُ يُراقِبُـونَ مَـا يَجْري عَلى الأرض ، دُونَ أيِّ سؤالٍ لِلخالِـقِ عَمّـا يَجْري فيهَـا ، إلى أنْ : ( قالَ ربُّكَ لِلـمَـلائِـكَـةِ إنّي جَـاعِـلٌ في الأَرْضِ خَـلـيفَةً ) [ البقرة 30 ] و كلمة [ جَـاعِـلٌ ] بِصِيغَةِ [ فاعِـلْ ] ، للدَلاَلَةِ على أنَّ الأمْرَ قَدْ أصْبَحَ واقِعَاً ، فالخَليفَةُ مَوْجُودٌ فِعْـلاً وَ يَحْتَاجُ فَقَطْ للتكليف ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ : سَـأجْعَلُ ، أيْ : قاصِداً آدَمَ عليه السلام مِنْ بَيْنِ كُلِّ المخْلوقاتِ الأُخْرى عَلى الأرْضِ ، فَقَدِ اخْتَـارَ اللهُ آدَمَ اِخْتياراً مِنْ بَيْنِها : ( إنَّ اللَّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ )[ آل عمران 33 ] ، عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَغْرَبَ الملائِكَةُ هَذا الاخْتِيَارَ : ( قَالوا أَتَجْـعَـلُ فيهَـا مـَنْ يُفْسِـدُ فيهَـا وَ يَسْـفِكُ الـدِمَـاءَ )[ البقرة 30 ] ، و كلمتيْ : [ يُفْسِـدُ ] و [ يسفك ] فعل مضارع يدل على الحاضر و ليس على المستقبل ، لأَنّهمْ كانوا يُراقِبونَ تَصَرّفاتِ آدَمَ عَلى الأرْضِ مِنْ تَخريبٍ للبيئَـةِ ، وَ لَمْ يكُنِ الأمْرُ غيبيًا علَيهم لأنّـهُ لاَ يعْلَمُ الغَيْبَ إلاّ اللّـه سُبْحَانَهُ : ( وَ عِـندَهُ مَـفَاتِحُ الـغَـيْبِ لاَ يَعْـلَـمُـهَـا إلاَّ هُـوَ ) [ الأنعام 59 ] ، وَ لأنَّ الفَسَادَ في الأرْضِ سَبَبُهُ الإنْسَانُ فَقـطْ : ( ظَـهَـرَ الـفَسَادُ في الـبَرِّ والـبَحْـرِ بِمَـا كَـسَـبَتْ أَيْدي الـنَاسُ) [ الروم 41 ] ، أيْ أنَّ ظُهورَ الفَسَـادِ في الأرْضِ تَـوافَقَ مَعْ ظُهُورِ الإنْسَـانِ عليْهَا .

و معنى كلمة [ خليفةً ] ، أيْ : يخلُفُ بعضه بعضاً ، و ليس خليفة لله سبحانه ، لأنّ سبحانه ليس له خليفة .

.

علّم آدم الأسماء كلّهـا :

إنَّ أهَمَّ مَا نُقَابِلُ مِنَ المُفْرَداتِ اللّغَويَّةِ ، هيَ : [ الأسْـماءُ ] ، وَ التَسْـمِيَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اعْتِباريّةٍ ، فَيُمْكِنُنا إطْلاقُ أيِّ رَمْـزٍ أَوْ مُصْطَلَحٍ [ اسْم ] نُريْدُ عَلى عُنْصُـرٍ مَـا ، مِثْلَ تَسْـمِيَةِ الأوْلادِ المَواليْد ، وَ مِنَ الأفْضَلِ أنْ يَدُلَّ الاسْـمُ على تَعْريْفِ المُسَـمّى ، لِذَلِكَ يَجِبُ أنْ يُعَلَّـمَ الاسْمُ تَعْليْمـاً : ( وَ عَـلَّـمَ آدَمَ الأسْـمَـاءَ كُـلَّـهَـا )[ البقرة 30 ] ، فَاللّـهُ سُبْحانَهُ قد [ عَلَّمَ ] وَ لَيْسَ [ لَقَّنَ ] آدَمَ : [ الإنْسانُ الأوَّلُ ] جَميعَ الأسْماءِ ، لأنَّ الأسْـماءَ [ فِطْرِيَّـةٌ ] لَدى الإنْسَانِ ، وَ لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً ، فاللّغَةُ مَوْجُودَة في الطَبيعَةِ وَ لَوْ لَمْ يُوجَدُ الإنْسَانُ ، فَكُلُّ طِفْلٍ وَ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ يَكُونُ مُزَوَّداً بِمبادىءِ النَحْوِ العالميِّ ، وَهَذَا مَا يَسْمَحُ لَهُ بِتَعَلُّمِ أيِّ لُغَـةٍ يَحْتَكُّ بِها في مُحيطِهِ الإنْسانيِّ ، وَ هَذِهِ المَبادىءُ جُزْءٌ مِنَ [ الطبيْعَةِ الإنْسانيَّةِ ] التي تَنْتَقِلُ وِراثِيّاً مِنَ الآباءِ إلى الأبْناءِ : ( وَاخْـتِلافُ ألْـسِـنَتِـكُـمْ وَألْـوانِـكُـمْ إنَّ في ذَلِـكَ لآيَاتٍ لِلْـعَـالَـمِـيْن )[ الروم 22 ] .

فالمَطْلُوبُ هُوَ إيْجادُ [ نظريّة لُغَويّة ] جديْدة تُضِيْفُ أسْماءً وَ معان جديْدة ، وَ لِكُلِّ الأفعالِ اللغويّة ، عِنْدَ ذَلِكَ نَجِدُ أنَّ اللّغَةَ العربيّةَ وَحْدها القادِرَة على اسْتيعابِ جَميعِ الأسْماءِ وَ المُصْطلحاتِ التي تَظْهَرُ مَعَ التَقَدُّمِ العِلميِّ الهائِلِ ، وَ هَذا ما أدْرَكَهُ بِوَعْيٍ شَاعِرُ النيلِ [ حافِظ إبراهيم ] قائِلاً باسمِ اللّغَةِ العربية :

فَكَيْفَ أَضِيْقُ اليَـوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَـةٍ وَ تَنْسِـيْقِ أسْـماءٍ لِمُخْتَـرعـَاتِ

دعـاء إبراهيم عليه السلام :

لَقَدْ كَانَ دُعَـاءُ أبينَـا إبراهيمُ عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَـثْ فِيْهِـمْ رَسُـولاً مِـنْهُـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـكَ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَالـحِـكْـمَـة وَ يُزَكِّـيْهِـمْ )[ البقرة 129 ] ، وَ لكِنَّ اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ على هَذِهِ الأُمَّةِ : ( لَـقَـدْ مَـنَّ اللّـهُ عَـلَـى الـمُـؤْمِـنينَ إذْ بَعَـثَ فِيهِـمْ رَسُـولاً مِـنْ أَنْفُسِـهِـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـهِ وَ يُزَكِّـيْهِـمْ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَ الـحِـكْـمَـةَ )[ آل عمران 164 ] ، حَيْثُ نُلاحِظُ أنَّ اللّهَ اسْتَجابَ دُعَاءِ إبراهيمَ ، لَكِنَّهُ جَعَلَ [ التَزكِيَةَ ] ثانيـاً .

كلّ هـذا و اللـه أعْلم .




                                            

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

سورة البقرة (من اية 142 الى 252)

( و منْ حيثُ خَرجْتَ فولّ وجهَـكَ شـطْر المسـجد الحـرام )[ الآيتان 149 / 150 ] ، هذا الأمْر الذي ورَد في آيتين متتاليتين لأهميته ، يطلب من كل مسلم و مسلمة أنْ يتّجه و لو للحظات نحو المسجد الحرام ، ليْسَ في أوقات الصلاة فحسْب ، و لكن منْ أيّ مكانٍ يخرُجُ منه ، سواءٌ كان من محلّ تجاريّ ، أو من سيّارته ، أو منْ بيته ..... ، عليه إعطاء إلتفاته و لو قصيرة نحو المسجد الحرام ، كي يتزوّد ب [ الطـاقة ] التي ينشُـرُهـا المسجد الحرام في كلّ الكرة الأرضية ، ثُمّ يُتابع سيره و سوف يرى الحيوية و النشاط التي يشعر بهـا .

إنّ الاتجَاهَ إلى المسْجِدِ الحَـرامِ هُـوَ مِنْ أجْلِ الانسِـجامِ مَعَ الفِطْرَةِ الإنسَـانيّةِ في التوجُّهِ نَحْوَ المَوْطِنِ الأوَّلِ للإنسَـانيّةِ ، فَحينَمـا كانَ صلى الله عليه وسلم يَتَوَجَّهُ في صَلاتِهِ نَحْوَ المسجِدِ الأقْصى ، كَانَ ظَهْرَهُ نَحْوَ المسْجِدِ الحَرامِ [ 180 درجة ] ، وَ هَذا لَمْ يَتَوافَقْ مَعَ فِطْرَتِهِ الإنسانيّةِ : ( قَـدْ نَرى تَقَـلُّـبَ وَجْـهِـكَ فـي الـسَـمَـاءِ فَـلَـنُوَلِّـيَنَّـكَ قِـبْلَـة ً تَرْضَـاهَـا فَـوَلِّ وَجْـهَـكَ شَـطْـرَ الـمَـسْـجِـدِ الـحَـرامِ وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُـمْ فَـوَلُّـوا وُجُـوهَـكُـمْ شَـطْـرَهُ )[ البقرة 144 ] ، أي : ترْضَاهَا فِطْرَتُكَ الإنْسَـانيّة ، وَ حَتّى غَيْرِ المسْلمينَ يَعْلَمونَ هَذِهِ الحقيقةَ : ( وَ إنَّ الـذينَ أُوتُـوا الـكِـتَابَ لَـيَعْـلَـمُـونَ أَنَّـهُ الـحَـقُّ مِـنْ رَبِّهِـمْ )[ البقرة 144 ] ، لِذَلِكَ كانَ وُجُوبُ التَوَجّهِ للمَسْجِدِ الحَرامِ لِعَدَمِ مُخالَفَةِ الحقيقَةِ مِنْ جِهَة ، وَ عَدَمَ تْرْكِ المَجالِ لِحَديثِ المُغْرضينَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرى : ( وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُـمْ فَـوَلُّـوا وُجُـوهَـكُـمْ شَـطْـرَهُ لِـئَـلاّ يَكُـونَ لِلـناسِ عَـلَـيْكُـمْ حُـجَّـةٌ ) [ البقرة 150 ] ، لأنَّ المُنَـافِقِينَ المُغْرضينَ يَرْفَضونَ هَذا الأمْرَ : ( وَ لَـئِـنْ آتَيْتَ الـذينَ أُوتُـوا الـكِـتَابَ بِكُـلِّ آيَةٍ مَـا تَبِعُـوا قِـبْلَـتَكَ )[ البقرة 145 ] .

( وَ مَـا جَـعَـلْـنَا الـقِـبْـلَـةَ الـتي كُـنْتَ عَـلَـيْهَـا إلاَّ لِـنَعْـلَـمَ مَــنْ يَتَّبِعُ الـرَسُـولَ مِـمَّـنْ يَنْقَـلِـبُ عَـلـى عَـقِـبَيْـهِ )[ البقرة 143 ] ، و الـقِـبْـلَـةَ الـتي كُـنْتَ عَـلَـيْهَـا هي : الاتّجاهِ إلى المسـجدِ الأقصى ، و قد كَانَتْ مَـرْحَلَة اخْتِبـارٍ مُؤقَّـتَةً ، وَ لَيْسَتْ قِبْلَةً دائِمَةً ، لِذَلِكَ كَانَ قَوْلُ المُنـافِقينَ السَـاخِرَ : ( سَـيَقُولُ الـسُـفَهَـاءُ مِـنَ الـنَاسِ مَـا وَلاَّهُـمْ عَـنْ قِبْلَـتِهِـمُ الـتي كَـانُوا عَـلَـيْـهَـا )[ البقرة 142 ] ، [ تَمَّ تَحْويلُ القِبْلَةِ منَ القدس إلى مكّة ، بَعْدَ الهِجْرَةِ بِ / 17 / شَهْراً ]

وَ التوَجُّـهُ نَحْـوَ الكَعْبَةِ أمْـرٌ لَيْسَ بالسَـهْلِ عَلى غَيْرِ الذينَ هَداهُمُ اللّـهُ للاتّجاهِ إليْـهِ : ( وَ إنْ كَـانَتْ لَــكَـبيرَةً إلاَّ عَـلـى الـذينَ هَـدى اللَّـه ُ)[ البقرة 143 ] ، [ الـلاّم في بداية كلمة لكبيرة هي : الـلاّمُ الفارقـة ] .

.

( إنَّا لِلَّـهِ وَ إنَّا إلَـيْهِ رَاجِـعُـونَ )[ البقرة 156 ]

في هَذِهِ العِبَارَةِ الرَائِعَـةِ التي جَاءَتْنـَا عَلى شَكْلِ آيَـةٍ كَريمَـةٍ مِنَ الخَالِقِ تعالى ، فيهَا نَفْيٌ مَنْطِقيٌّ لِلظُلْمِ عَنْـهُ تعالى ، فَلَمّا كَانَ تَعْريفُ الظَالِمِ أنّـهُ : هُوَ [ الذي يَتَصَرَّفُ بِمَـا لاَ يَمْلُكُ ] ، وَ لَمّـا كَانَ كُلُّ مَا في الوُجُودِ مُلْكٌ للخَالِقِ سُبْحَانَهُ : ( فَسُـبْحَـانَ الـذي بِيَدِهِ مَـلَـكُـوتُ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ يس 83 ] ، فَإنِّهُ سبحانه يَتَصَرَّفُ فيمَا يَمْلُكُ ، وَ مَنْ تَصَرَّفَ فيمَا يَمْلُكُ لاَ يَظْلِمُ أحَدَاً : ( إنَّ اللَّـهَ لاَ يَظْـلِـمُ مِـثْقَالَ ذَرَّةٍ )[ النساء 40 ] ، لأَنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ في الوُجُودِ مُلْكٌ شَخْصيٌّ لَـهُ ، أمَّـا أيُّ أحَدٍ سِواهُ فَلَيْسَ لَـهُ مِنَ المُلْكِ شَـيْئاً : ( وَ الـذينَ تَدْعُـونَ مِـنْ دُونِهِ مَـا يَمْـلِـكُـونَ مِـنْ قِـطْـمـيرٍ )[ فاطر 13 ] ، وَ القِطْميرُ هُوَ : غِشَـاءُ نَواة التمْرِ ، لِذَلِكَ كَانَ المَنْطِـقُ يَقْتَضي : ( لاَ يُسْـأَلُ عَـمَّـا يَفْعَـلُ وَ هُـمْ يُسْـأَلُـونَ ) [ الأنبياء 23 ] ، لاَ يُسْـأَلُ عَـمَّـا يَفْعَـلُ لأنَّهُ : يَصَرّفُ فيما يَمْلُكُ ، وَ هُـمْ يُسْـأَلُـونَ لأنَّهُم يَتصَرّفُون في مُلْكِـهِ ، وَ لَيْسَ في مُلْكِهِمْ .

وَ نُلاَحِظُ أنَّ الآيَةَ الكَريمَةَ في سُورَةِ يس ، قَدْ أَوْرَدَتْ كَلِمَةَ مَـلَـكُـوتُ : ( بِيَدِهِ مَـلَـكُـوتُ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ يس 83 ] ، وَ المَلَكُوتُ غَيْرُ الملكيَّةِ ، فالمُلْكِيَّةُ تَكُونُ ظَاهِريَّةً للشَـيْءِ ، أمَّا المَلَكُوتُ فَهُوَ مُلْكِيَّةُ كُلِّ ذَرَّةٍ في الشَيْءِ ، فَنَحْنُ لَسْنَا عَبيدَاً وَ مُلْكَاً ظَاهِريّاً لِلّهِ فقط ، بَلِ اللّهُ يَمْلِكُ وَ يَحِقُّ لَـهُ التَصَرُّفُ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فينـَا مَتى مَا يَشَاءُ وَ كَيْفما يَشَـاءُ ، وَ هَذَا هُوَ المَلَكُوتُ : ( إنْ يَشَـأْ يُذْهِـبْـكُـمْ وَ يَأْتِ بِخَـلْـقٍ جَـديدٍ )[ فاطر 16 ] ، بَيْنَمَا تَكُونُ المُلْكيَّةُ ذَاتُ شَكْلٍ ظَاهريٍّ فالذي يَمْلِكُ حِصَانَاً مَثَلاً ، يَمْلِكُهُ بِشَكْلِهِ الظَاهريِّ [ حَقُّ الانْتِفاعِ ] ، لاَ بِشَكْلِ مَلَكُوتِ كُلِّ ذَرَّةٍ فيـهِ .

فَـإذَا أَصَابَتِ الإنْسَانَ مُصِيبَةٌ قَالَ : ( إنَّا لِلَّـهِ وَ إنَّا إلَـيْهِ رَاجِـعُـونَ )[ البقرة 156 ] ، أيْ : نَحْنُ مُلْـكٌ للّـهِ وَ اللّـهُ قَـدْ تَصَـرَّفَ فيمـا يَمْلُكُ ، وَ في هَذا نَفْيٌ للظُلْمِ عَنِ اللهِ سُـبْحَانَهُ ، فَنُلاَحِظُ أنَّ الإنْسَانَ بِقَوْلِهِ هَذَا يَنْفي الظُلْمَ عَنِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ ، باعْتِرافِهِ أنَّ اللّهَ قَدْ تَصَرَّفَ فيما يَمْلُكُ ، فَيَكُونُ جَزاءُ الذينَ يَقُولُونَ هَذا القَوْل ِ، مُعْتَرِفينَ بِعَدَمِ ظُلْمِ اللّـهِ لَهُمْ : ( أُولَـئِـكَ عَـلَـيْهِـمْ صَـلَـواتٌ مِـنْ رَبِّهِـمْ وَ رَحْـمَـةٌ)[ البقرة 157 ] ، و صَـلَـواتٌ أي : سكينَةٌ و اطْمِئْنانٌ في الدُنْيا وَ الآخِرَةِ ، وَ هَذِهِ الرحْمَةُ كافيَـةٌ لِدُخُولِهِمُ الجَنّـَةَ .

.

الصَــفـا و الـمـروة :

يَطوف الحُجّاجُ بَيْنَ صخرتيْ [ الصَفـا ] و معناهـا : الصخرة الملساء ، وَ مُذَكَّرُ الصَـفا : صَفْوانٌ [ الحَجَرُ الأمْلَسُ ] : ( فَمَـثَـلُـهُ كَـمَـثَـلِ صَـفْـوانٍ عَـلَـيْهِ تُرابٌ )[ البقرة 264 ] ، أمّا [ المَروَة ] فـمعناهـا : الصخرة البيضاء ، وَ يَحْلِقونَ شُعُورَهُمْ عِنْدَ المَرْوَة : ( إنَّ الـصَــفَـا وَ الـمـرْوَةَ مِـنْ شَـعَـائِرِ اللّـهِ فَمَـنْ حَـجَّ الـبيتَ أوِ اعْـتَمـرَ فَلاَ جُـناحَ عَـلَـيْهِ أنْ يَطَّـوَفَ بِهِـمَـا )[ البقرة 158 ] .

و المسافة بين الصفـا و المروة هي / 420 / متر ، ففي السعي بينهُمـا سبعة أشواط ، يكون الحاجّ قد سار حوالي / 3 كيلومتر / ، و هذه رياضةٌ للمشي فيهـا كل الصحة و الحيوية إضافةً لثوابهـا الكبير .

يقولُ خُوَيْلـدُ الهُـذَليّ :

حتّى كَأنيّ للحَوادِثِ مَـرْوَةٌ بِصَـفا المُشَـرِّقِ كُلَّ يـومٍ تُقْرَعُ

يتربّصـنَ ، وصـيّةً :

مَوْضُوعُ العِدَّةِ : ( وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً يَتَـرَبَّصْـنَ بِأنْفُسِـهِـنَّ أَرْبَعَـةَ أَشْـهُـرٍ وَ عَـشْـراً فَإذا بَلَـغْـنَ أَجَـلَـهُـنَّ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ بِــالـمَـعْـروفِ )[ البقرة 224 ]

استَخْدَمَ حَرْفَ [ البَـاءِ ] للجَرِّ في كلمة : [ بالمعروف ] ، للدَلاَلَةِ عَلى أَمْرٍ واحِـدٍ مَعْروفٍ هُوَ الـزَواجُ فقطْ وَ لِذَلِكَ جَاءَتْ كَلِمَةُ [ الـمعْروفِ ] مُعَرَّفَةٌ بِـ [ الْ ] ، لذلك هذه لآية الكريمة تتحدّث عن موضوع واحد هو : [ العدّة للمرأة ] .

مَوْضُوعُ النَفَقَـةِ : ( وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً وَصِـيَّـةً لأزْواجِـهِـمْ مَـتَاعَـاً إلـى الـحَـوْلِ غَـيْرَ إخْـراجٍ فَإنْ خَـرَجْـنَ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ مِـنْ مَـعْـروفٍ )[ البقرة 240 ]

هذه الآية الكريمة تتحدّث عن [ الوصية المالية ] في حال وفاة الزوج ، و هذه الوصية تَكْفيهَا حل كامل ، كَيْ لاَ تَضْطَـرَّ المَرْأةُ للخُروجِ إلى العَمَـلِ ، و لذلك استخدم هنـا حرف الجرّ [ منْ ] ، و جاءت كلمة [ معروف ] غير معرّفة ب [ ال التعريف ] ، للدلالة على حالات عديدة أمام المرأة في البحث عن عمل شريف تقوم به بعد وفاة زوجهـا .

لذلك هاتان الآيتان لا [ تنسخان ] بعضهُمـا ، كمـا يقولون ، لأنّ كل آية تتحدّث عن موضوع مختلف عن الآخر .

كل هـذا و اللـه أعلم


     

(سورة الفاتحة) تفسير د.علي منصور الكيالي

سورة الفاتحة

هي سورة مكيّة ، ترتيبها في المصحف [ 1 ] ، و ترتيب نزولهـا [ 5 ] نزلت قبل سورة المسَـد و بعد سورة المدّثر ، و لهـا خواصّ تنفرد بهـا من بين جميع سُوَر القُرآن الكريم ، و من هذه الخواصّ :

سُـهُولَةِ قِرَاءَتِهَـا مِنْ كلّ اللُغَـاتِ لِخُلوِّهَـا مِنْ تَعْقيدَاتِ عِلْمِ التَجْويدِ : [ الإدْغامُ وَ الإخْفاءُ وَالإظْهَارُ وَالإقْلاَبُ وَالقَلْقَلَةُ وَأحْكَامُ الميمِ 000 وَ غَيْرِهَا ] ، كَمَا أنَّهَـا السُورَةُ الوَحيدَةُ التي تَتَوافَقُ مَعَ كُلِّ آيَاتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، إِذْ يَجُوزُ قِرَاءَةُ أيِّ آياتٍ مِنَ القُرْآنِ بَعْدَهَـا أثْنَـاءَ الصَلَواتِ ، وَهِيَ السُورَةُ الوَحِـيدَةُ التي فَرَضَ اللّـهُ قِرَاءَتَهَـا [ 17 ] مَـرَّة عَلى الأقَلِّ في اليَوْمِ الواحِـدِ ، أثْنَـاءَ رَكَعَـاتِ الصَلاَةِ المَفْروضَةِ ، إذَا لَمْ نُضِفْ لَهَـا رَكَعاتِ صَلاَةِ السُـنَّةِ ، حَيْثُ يَجُوزُ قِراءَتِهَـا لِوَحْدِهَـا في لرَكَعَاتِ الأخِيرَةِ مِنَ الصَلَواتِ بَعْدَ الجُلُوسِ ، فَلاَ تَصِحُّ الصَلاَةُ بِقِراءَةِ أيِّ آيَـاتٍ مِنَ القَرْآنِ لِوَحْدِهَـا بِدُونِ قِرَاءَةِ الفَاتِحَـةِ ، وَ لَـوْ قَرَأنَـا كُلَّ القُـرْآنِ دُونَ الفَاتِحَـةِ .

( الـحَـمْـدُ لِلَّـهِ )[ الفاتحة 2 ] ، تَمَّ تَقْديـمُ كَلِمَةِ الحَمْدِ عَلى لَفْظِ الجَلاَلَةِ ( للّه ) ، وَ هِيَ قِمَّةُ فَـنٍّ بَـلاَغِيٍّ يُسَمَّى : [ فَنُّ التَحْميـدَاتِ ] ، وَ [ الحَمْـدُ ] فيهِ مُنْتَهى التَواضُعِ الأخْلاَقِيِّ لِلإنْسَانِ مَعَ الآخَرينَ بِشَكْلٍ عَامٍّ ، وَ مَعَ خَالِقِـهِ بِشَـكْلٍ خَاصٍّ ، لِذَلِكَ جاءت : ( الـحَـمْـدُ لِلَّـهِ ) بِصِيغَةِ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ التي تُفيدُ الثُبُوتَ وَالإطْـلاَق َ، فَهِيَ غَيْرُ مُرْتَبِطَـةٍ بِزَمَـانٍ أوْ مَكَانٍ أوْ مَادِحٍ مُعَيَّنٍ ، وَ هِيَ أوْلى مِنْ جُمْلَةِ [ حَمْدَاً ] بِصِيغَةِ النَكِرَةِ ذَاتِ الصِيغَةِ الفِعْلِيَّةِ ، وَ الحَمْدُ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِلحَيِّ ، أمَّا المَيِّتُ أوِ الجَمادُ فَيُمْدَحُ فَقَطْ ، فَنَحْنُ [ نَمْدَحُ ] مَعْدَنَ الذَهَبِ مَثَلاً وَ لاَ [ نَحْمَدُهُ ] ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : [ المَـدْحُ لِلَّهِ ] ، وَ الحَمْـدُ لاَ يَأْتي إلاَّ بَعْدَ الإحْسَانِ للمَادِحِ وَغَيْرِهِ ، أمَّا [ الشُكْرُ ] فَيَكُونُ بِالإنْعَامِ الوَاصِلِ للشَاكِرِ فَقَطْ ، وَ لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : [ الشُكْرُ لِلَّهِ ] .

وَاللَّهُ سبحانه [ حَميدٌ ] بِذَاتِهِ دُونَ الحَاجَةِ لِحَمْدِ المَخْلُوقَاتِ لهُ : ( وَ كَـفَروا وَ اسْـتَغْـنى اللّـهُ وَ اللّـهُ غَـنِيٌّ حَـمِـيدٌ )[ التغابن 6 ] ، وَ قَدْ ذَمَّ اللهُ طَالِبي الحَمْدِ : ( وَ يُحِـبُّونَ أنْ يُحْـمَـدوا بِمَا لَمْ يَفْعَـلُوا )[ آل عمران 188] .

(غَـيْرِ الـمَـغْـضُـوبِ عَـلَـيْهِـمْ )[ الفاتحة 7 ] ، وَ منَ المغضوب عليهم قاتلي الناس : ( وَمَـنْ يَقْتُلْ مُـؤْمِـنَاً مُـتَعَـمَّـدَاً فَجَـزَاؤُهُ جَـهَـنَّمُ وَغَـضِـبَ اللّـهُ عَـلَـيْهِ وَ لَـعَنَهُ )[ النساء 93 ]

وَ مِنْهُمْ الكافـرين : ( فبَاءوا بِغَـضَـبٍ عَـلـى غَـضَـبٍ وَ لِلْـكَـافِـريْنَ عَـذَابٌ مُـهِـيْنٌ ) [ البقرة 90 ] .

( وَلاَ الـضَـالّـينَ )[ الفاتحة 7 ] ، وَ مِنْهُمْ الكافِرونَ : ( وَ مَـنْ يَـكْـفُرْ باللّـهِ وَ مَـلاَئِـكَـتِهِ وَ كُــتُبِهِ وَ الـيَوْمِ الآخِـرِ فَقَـدْ ضَـلَّ ضَـلاَلاً بَعِـيدَاً )[ النساء 136 ] ، وَ مُتَّبِعي الهَـوى : ( قُلْ لاَ أتَّبِـعُ أهْـواءَكُـمْ قَـدْ ضَـلـَلَـتُ إذَاً وَ مَـا أنَا مِـنَ الـمُـهْـتَدينَ قُـلْ إنَّي عَـلـى بَيِّنَةٍ مِـنْ رَبَّي )[ الأنعام 56 ] ، و الذينَ يقنطون من رحمة الله هُـم أيْضاً ضـالّون : ( وَمَـنْ يَقْـنَطُ مِـنْ رحْـمَة ربّهِ إلاّ الـضـالّونَ )[ الحجر 56 ] .