‏إظهار الرسائل ذات التسميات الجزء الاول. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الجزء الاول. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 27 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة النساء (من اية 1 الى 24)


( خـلَـقَـكُـم مـن نفـس واحـدة )[ النساء 1 ] :
مِنْ بَعْدِ تكْوينِ آدَمَ مِنَ الطينِ ، خُلِقَتْ زَوْجَتُهُ حَـوّاءَ مِن [ نفسه ] لِيَتَزَوّجَهَـا : ( خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ نَفْـسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَـلَـقَ مِنْهَـا زَوْجَهَـا )[ النساء1 ] ، إذاً لا يوجد [ أوادم ] قبل آدم ، ثُمّ وَ بَعْدَ فَتْرَةٍ غَيْرِ مَعْروفَةٍ أمِرَ اللهُ سبحانَهُ الملائِكَةَ بِتَحيّةِ آدَمَ [ السجودَ لآدَمَ ] ، فَنَفّذَ جميعُ الملائِكَةِ الأَمْرَ ، مَـا عَدا إبليسَ الجنّيَ ، الذي كانَ قَدْ حَشَرَ نَفْسَهُ بينَ الملائِكَةِ ، مُحاوِلاً عِبادَةَ اللهِ مِثْلَهُمْ : ( وَ إذْ قُلْـنَا لِلـمَـلائـِكَـةِ اسْجُـدوا لآدَمَ فَسَـجَـدوا إلاَّ إبْلـيسَ كـانَ مِـنَ الجِـنِّ )[ الكهف 50 ] .
ثُمَّ أسْكَنَ اللهُ سُبْحانَهُ آدَمَ وَ زَوجَتَـهُ في الجَنّـةِ الأرْضيّةِ ، وَ أمَرَهُما عَدَمَ الأكْلِ مِنْ إحْدى الأشْجَارِ : ( وَ قُلْـنَا يا آدَمُ اسْـكُـنْ أنْتَ وَ زَوْجُـكَ الـجَـنَّةَ وَ كُـلاَ حَـيْثُ شِـئْـتُمَـا مِـنْهَـا رَغَـداً وَ لاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الـشَـجَـرِة َ فَتَكُـونَا مِـنَ الـظَـالِـمِـينَ )[ البقرة 35 ]
فَتَدَخّلَ إبْليسُ ، وَ غَرَّرَ بِهِمَا بَعْدَ أنْ أقْسَمَ كاذِباً : ( وَ قَاسَـمَـهُـمَـا إنّي لَـكُـمَـا مِـنَ الـنَاصِـحـينَ فَدَلاّ هُـمَـا بِغُـرُورٍ )[ الأعراف 21 ] ، غَرّرَ بِهِما ، فَلَمْ يخْطُرْ بِبالِ آدَمَ أنّ أحداً يُقْسِمُ باللهِ كَذِباً ، فأكَلاَ مِنَ الشَجَرَةِ : ( فَلَـمَّـا ذاقَا الـشَجَـرَةَ بَدَتْ لَهُـمَا سَـوْآتُهُـمَـا ) [ الأعراف 22 ] ، فَحَقّقَ إبْليسُ الشَيْطانُ بِذَلِكَ ، وَ كانَ الخُروجُ مِنَ الجَنّةِ الأَرْضيّةِ التي كانَتْ تُؤَمِّنُ لآدَمَ حاجيّاتِهِ الأَسَاسيّةِ ، فَبَـدَأَ كِفاحَهُ وَ شَقاءَهُ مِنْ أَجْلِ العَيْشِ : ( فـَقُـلْـنَا يَا آدَمُ إنَّ هَـذا عَـدوٌّ لَـكَ وَ لـزَوْجِـكَ فَـلاَ يُخْـرِجَـنَّكُـمـَا مِـنَ الـجَـنَّةِ فَـتَشْـقى )[ طه 117 ] ، وَ كانَ ذَلِك سَبَباً لِدَبِّ النِزاعَاتِ بَيْنَ البَشَـرِ : ( بَعْـضُـكُـمْ لِـبَعْـضٍ عَـدُوٌّ ) [ البقرة 36 ] .
كُلُّ هَذا و الله أعلم .


(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

            ســورة ال عمران(من اية 104 الى اخرها)


يـأمرون بـالـمعـروف : 
( و لـتـكنْ مـنكم أمّـةٌ يـدعونَ إلى الخير و يأمـرون بالمعـروف و ينهون عن المنكـر ، و أولائك هُـم المفلحون )[ آل عمران 104 ] ، وَ ( الأمْـرُ بالمَعْروفِ وَالنَهْيُ عَنِ المُنْـكرِ ) ، هوَ مِنَ الخَصَائِصِ الهامّة لهذه الأمّة ، فَلَمْ تَكنْ هذِهِ الأمَّةُ خَيْرَ الأُمَمِ إلاَّ حينَما أَمَرَتْ بالمَعْروفِ وَ نَهَتْ عَنِ المُنْكرِ : ( كُـنْتُمْ خَـيْرَ أُمَّـةٍ أُخْـرِجَـتْ لِلـناسِ تَأْمُـرونَ بِالـمَـعْـروفِ وَ تَنهَـوْنَ عَـنِ الـمُـنْكَـرِ )[ آل عمران 110 ] .
( وَ أْمُـرْ بِالـعُـرْفِ )[ الأعراف 199 ] ، وَ العُـرْفُ وَ المعْروفُ : هوَ مَا تَعَـارَفَ عليْهِ المجْتَمَعُ شَرْطَ أنْ لا يَتَعَارَضَ مَعَ نَصٍّ شَرْعيٍّ فَيَكونُ عُرْفـاً باطِـلاً ، أيْ هوَ : كلُّ أمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ [ عُرْفاً أوْ شَرْعاً أو عَقْلاً أوْ طَبْعاً ] ، وَ هوَ عَـامٌّ لِكلِّ المجتَمَع ، وَ خاصٌّ لِفِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ التجَّارِ مَثَلاً ، فـالعَادَةُ مُحَكِّمَـةُ ، وَ المعْروفُ عَكْسُ المنْكَرِ [ الشَيْءُ غيْرُ المألوفِ ، وَ ما لا يَقْيَلُهُ عَقْلٌ أو منْطِقٌ أوْ طَبعٌ ] ، وَ لا يُنْكَرُ تَغَيَّرُ الأحْكام بِتَغَيّر الزمَـانِ ، عنْ حُذَيْفَةُ بن اليَمانِ رضيَ الله عنه عَنِ النبيّ صلى الله عليه و سلم قالَ : [ وَ الذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَـأْمُرَنَّ بالمعروف وَ لَتَنْهونَ عن المنْكَرِ أوْ لَيوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكمْ عِقاباً منه ثُمَّ تَدْعونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لكمْ ][ رواه الترمذي ] .
.
مـعـركـة بـدْر :
( و لقـد نصَركُم الله ببـدْرٍ و أنـتُم أذِلّةٌ )[ آل عمران 123 ] .
أخْرَجَ الله المُؤمِنينَ للقِتَالِ : ( كَـمَـا أخْـرَجَـكَ رَبُّـكَ مِـنْ بَيْتِـكَ بِالـحَـقِّ وَ إنَّ فَـريقاً مِـنَ الـمُــؤمِـنينَ لَـكَــارِهُـونَ )[ الأنفال 5 ] ، وَ نَظَّمَ صُفوفهُمْ عَسْكَرياً : ( تُبَـوِّىُ الـمُـؤمِـنينَ مَـقَـاعِـدَ للـقِـتَالِ )[ آل عمران 121 ] ، بَعْدَ أنْ شَاوَرَ أصْحَابَ الاخْتِصَاصِ في مَوْقِعِ التَمَرْكُزِ ، فَكَانَ رَأْيُهُمْ أنْ يَتَمَرْكَزُوا في العُدْوَةِ الدُنْيَا [ الأقْرَبُ إلى المدينَةِ ] ، وَ قَدْ أيَّدَ القُرْآنُ هَذَا الرَأْيَ للحَبّاب بن المُنْذِرِ كَوْنَهُ صَائِبَاً : ( إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الـدُنْيَا وَهُـمْ بالعُـدْوَةِ الـقُـصْوى ) [ الأنفال 42 ] ، وَ في لَيْلَةِ المَعْرَكَةِ سيْطَرَ عليْهِمُ النَوْمُ العَمِيقُ مِنْ أجْلِ الرِاحَةِ الجسْميَّةِ و النَفسيَّةِ : ( إذْ يُغَـشِّـيْـكُـمُ الـنُعَـاسَ أمَـنَةً مِـنْهُ )[ الأنفال 11 ] .
وَ فـي المَنـَامِ هَيّـأَ اللهُ رُؤيَا خَاصّة لِرَسُولِهِ الكريم [ رَفْعُ الرُوحِ المَعْنَويَّةِ للقَائِدِ العَسْـكريِّ ] : ( إذْ يُـرِيْـكَـهُـمُ اللَّـهُ فـي مَـنَامـكَ قَـلـيلاً وَ لَـوْ أراكَـهُـمْ كَـثيراً لَـفَـشِـلْـتُمْ وَ لَـتَنَازَعْـتُـمْ فـي الأمْـرِ وَ لَـكِـنَّ اللَّـهَ سَـلَـمَ )[ الأنفال 43 ] ، وَ في الصَباحِ تَمَّ الاسْتيقاظُ بِنَشَاطٍ بَعْدَ الرَشِّ بالمِيـاهِ : ( وَ يُنَـزِّلُ عـلَـيْكُـمْ مِـنَ الـسَـمَـاءِ مَـاءً لَـيُطَـهِّـرَكُـمْ بِهِ وَ يُذْهِـبَ عَـنْـكُـمْ رِجْــزَ الـشَـيْطانِ وَ لِـيَـرْبِطَ عَـلـى قُـلُـوبِكُـمْ )[ الأنفال 11 ] ، وَ كانَ رشُّ الأرْضِ بالمَاءِ ضَرورياً لأنَّ غَالبيّة الجيشِ المُسْـلِمِ كانَوا مُشَـاةً : ( وَ يُـثَـبـِّتَ بِهِ الأقْدامَ )[ الأنفال 11 ] .
وَ قَبْلَ بِدايَةِ المَعْرَكَةِ قَلَبَ اللهُ حَالةَ الرُؤيـَا في عَيْنَيْ رَسُولِهِ وَ المُؤمِنينَ لِرَفْعِ الرُوحِ المَعْنَويّةِ الضَروريّةِ للنَصْرِ : ( و َإذْ يُـريـكُـمُـوهُـمْ إذ ِالـتَقَـيْـتُـمْ فـي أَعْـيُـنِكُـمْ قَـلـيلاً وَ يُقَـلِّـلُـكُـمْ فـي أَعْـيُـنِهِـمْ لِـيَقْـضِـيَ اللَّـهُ أمْـراً كَــانَ مَـفْـعُـولاً )[ الأنفال 44 ] ، بَعْدَ أنْ كَانَتْ الرُؤيـَا تُشيرُ عكْسَ ذَلِكَ بِسَـبَبِ الخَـوْفِ المُسَيـْطِرِ : ( يَرَوْنَهُـمْ مِـثْـلَـيْهِـمْ رَأْيَ الـعَـيْنِ ) [ آل عمران 13 ] .
وَ كانَ نُزُولُ المَلائِكَةِ ، مِنْ أجْلِ رَفعِ الحَالَةِ المَعْنويّةِ أوّلاً : ( وَ مَـا جَـعَـلَـهُ اللَّـهُ إلاَّ بُشْـرى وَ لِـتَطْـمَـئِنَّ بِهِ قُـلُـوبُـكُـمْ )[ الأنفال 10 ] ، فالمُلاحَظُ أنَّهُ كُلّمَا تَشَكّلَ مَجْموعَةٌ قِتاليـةٌ مُؤمِنَةٌ عَدَدُهَـا [ 100 ] مُـسْلِمٍ ، يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ [ 1000 ] مَلَكٍ ، كَتَغْطِيَةٍ جَوّيَةٍ لِحِمايَتِهِمْ ، فَلَمّا كَانَ عَدَدُ المُسْلِمينَ [ 314 ] مُقَاتِلاً ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ المَلائِكَةِ ثلاثَةُ آلافٍ ، حَيْثُ بَقِيَ [ 14 ] مُسْلِمَـاً [ خَارِجَ التَغْطِيَـةِ ] ، هُمْ الذينَ كَانوا الشُـهَداءَ الأرْبَعَةَ عَشَـرَ فَقَطْ ، وَ بِما أنَّ الخَسَـائِرَ المُعَـادِيَةَ هيَ عَشَرَةُ أضْعافِ الخَسائِرِ المُؤمِنَةِ ، فَقَدْ كانَتْ فِعْلاً خَسَائِرُ الأعْداءِ 140 مُقَاتِلاً : [70 قتيلاً +70 أسيراً بِحُكْمِ القَتْلى ] : ( إنْ يَكُـنْ مِـنْكُـمْ عِـشْـرونَ صَـابِرون يَغْـلِـبُوا مِـئَـتَيْنِ وَ إنْ يَكُـنْ مِـنْـكُـمْ مَـائَـة يَغْـلِـبُوا ألْـفاً )[ الأنفال 65] ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى : ( فَـاضْـرِبوا فَـوْقَ الأعْـناق ِ)[ الأنفال 12 ] ، فَهُوَ تَعْليمٌ للمُؤمِنينَ حَيْثُ أنَّ الضَرْبَ فَوْقَ الأعْناقِ ، وَ لوْ بِقُوّةٍ خَفيفَةٍ عَلى البَصَلَةِ السيسائيّةِ كَافٍ للقَتْلِ ، وَ هُوَ القَتْـلُ الرَحيْمُ حتّى لِلأعْداءِ ، أمّا مِنْ أجْلِ شَـلِّ قُدْرَةِ العَدوِّ ، وَ إخْراجِهِ مِنْ أرْضِ المَعْرَكَةِ : ( وَ اضْـرِبوا مِـنْـهُـمْ كُـلَّ بَنَانٍ )[ الأنفال 12 ] ، فَبَعْدَ الأَخْذِ بكُلِّ هَذِهِ الأسْبابِ ، أتى النَصرُ الإلهيُّ : ( وَ مَـا الـنَـصْـرُ إلاَّ مِـنْ عِــنْـدِ اللَّـهِ إنَّ اللَّـهَ عَـزيزٌ حَـكِـيمٌ )[ الأنفال 10 ] ، ( وَ لَـقَـدْ نَصَـرَكُـم اللَّـهُ بِبَـدْرٍ وَ أنْتُمْ أذِلّـةٌ )[ آل عمران 123 ] ، بَعْدَ أنْ طَبَّقَ الخُطَطَ العَسْكَريَّةَ اللازِمَةَ ، وَ لَيْسَ النَصْرُ بِدونِ عَمَلٍ ، وَ بِدونِ الأخْذِ بالأسْبَابِ : ( وَ لَـقَـدْ صَـدَقَـكُـمُ اللّـهُ وَعْـدَهُ إِذْ تَحُـسُّـونَهُـمْ بِإذْنِهِ )[ آل عمران 152 ] .
.
فـحَـصَ ، مـحّـصَ :
( و لـيُـمَـحّـصَ مـا في قلـوبكـم )[ آل عمران 154 ] ،إنّ [ الفَحْص ] هو الاختبـار العـلنيّ ، و يُظـهر الإنسان أنّه يعمل العملَ الصالح ، مثال : الصلاة نفاقاً دون الإيمان بهـا .
بينمـا [ الـمَـحْـص ] : هو إختبارٌ سـريّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، الذي يعلم [ ذات الصدور ] ، و يعْلَم [ الـنـيّة ] من العمَل ، لذلك كان آخر الآية الكريمة : ( و الله عـليمٌ بذات الصدور )[ آل عمران 154 ] ، فإذا نجح الإنسان في [ الفحْص ] فقط ، يكون عمله [ حسناً ] ، أمّـا إذا نجحَ في [ الفـحْـص + الـمَـحْص ] ، عندهـا يكون عمله [ صالحاً ] يُصلح حال الفرْد و المجتمع و يُرفع عمله إلى الله سبحانه : ( و العـملُ الصالح يرفعه ) [ فاطر 10 ] .
.
الأجـل الـمسـمّى و الأجـل الـمُـقـضـى :
إنَّ لِكُلِّ إنْسَـانٍ مِنَّـا أجَلَيْـنِ ، وَ لَيْسَ أجَـلاً واحِـدَاً ، فَـإذَا مَـا نَظَـرْنَا في قَوْلِهِ تعالى : ( هُـوَ الـذي خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ طِـينٍ ثُـمَّ قَـضَـى أجِـلاً وَ أجَـلٌ مُـسَـمَّـى عِـنْدَهُ )[ الأنعام 2 ] ، فالأجَلُ أجَـلاَنِ : [ أجَلٌ مُقْضَى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ بِشَكْلٍ سَريعٍ مِثْلَ الحَوادِثِ وَ الكَوارِثِ أوِ القَتْلِ مَثَلاً ، وَ [ أجَلٌ مُسَمَّى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ حَتْمَاً في نِهَايَةِ عُمْرِهِ ، وَ لَيْسَ فيهِ أيُّ تَقْديْمٍ أوْ تَأْخيرٍ : ( وَ مَـا مُـحَـمَّـدٌ إلاَّ رَسُـولٌ قَـدْ خَـلَـتْ مِـنْ قَبْلِـهِ الـرُسُـلُ أَفَإنْ مَـاتَ أوْ قُتِلَ )[ آل عمران 144 ] ، مَـاتَ : بالأجَلِ المُسَمّى ، أوْ قُتِلَ : بالأجَلِ المُقْضى في أيِّ وَقْتٍ كَانَ ، حَيْثُ كَانَ نَصِيبُ الكَثيرِ مِنَ الأنبياءِ الكِرامِ القَتْلُ [ الأجَلُ المُقْضَى ] : ( وَ يَقْتُلُـونَ الأنْبِيَاءَ بِغَـيْرِ الـحَـقِّ )[ آل عمران 112 ] ، و قوله : ( بِغَـيْرِ الـحَـقِّ ) تُظْهرُ أنّ في القتل لا يكون عُمر الإنسان منتهياً ، وَ الآيَةُ الكريْمَةُ التاليَةُ تَزيدُ الأمْرَ وُضُوحَاً أكْثَرَ : ( وَ لَـوْلاَ كَـلِـمَـةٌ سَـبَقَتْ مِـنْ رَبِّكَ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى لَـقُضِـيَ بَيْنَهُـمْ )[ الشورى 14 ] ، وَ كَذَلِكَ : ( وَ رَبُّكَ الـغَـفُـورُ ذُو الـرَحْـمَـةِ لـوْ يُؤاخِـذُهُـمْ بِمَـا كَـسَـبُوا لَـعَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ بَلْ لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ لَـنْ يَجِـدوا مِـنْ دُونِهِ مَـوْئـِلاً )[ الكهف 58 ] ، عَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ : بالأجَلِ المُقْضى ، لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ : الأجَلُ المُسَمّى ، أيْ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِمَـا كَـسَـبوا مَـا تَرَكَ عَـلـى ظَـهْـرِهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى )[ فاطر 45 ] ، أي إزالَةِ كلّ أشْكالِ الحياةِ بالأجَلِ المُقْضى ، لأنّ الأجَلُ المُسَمّى لَيْسَ فيهِ تَأخيرٌ .
فَالأجَلُ المُقْضَى يُمْكِنُ تَأجيلُهُ حَتَّى الأجَلِ المُسَمَّى حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تَأْخيرٌ وَ لَوْ لِسَـاعَةٍ واحِـدَةٍ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِظُـلْـمِهِـمْ مَـا تَرَكَ عَـلـيْهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـىً فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ) [ النحل 61 ] ، ( وَ لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ الأعراف 34 ] ، ( لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ إذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ فَـلا يَسْـتَأْخِـرونَ سَـاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ يونس 49 ] ، فالأجَـلُ المُسَـمَّى لاَ تَقْديْمَ فيهِ وَ لاَ تَأْخيرَ ، فقد قَدَّمَ التَأْخيرُ ( يَسْتَأخِرونَ ) وَ أخَّرَ التَقْديمُ ( يَسْتَقْدِمُونَ ) ، وَ ذَلِكَ لِحَسْمِ المَوْضُوعِ حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تأْخيرٌ في الأجَلِ المُسَمّى .
( وَ لَـئـِنْ أخَّـرْنَا عَـنْهُـمُ الـعَـذَابَ إلـى أُمَّـةٍ مَـعْـدُودَةٍ )[ هود 8 ] ، ( وَ لَـنْ يُؤَخِّـرَ اللّـهُ نَفْسَاً إذَا جَـاءَ أجَلُـهَـا )[ المنافقون 11 ] ، ( وَ مَا كَانَ لِـنَفْسٍ أنْ تَمُـوتَ إلاَّ بِإذْنِ رَبِّهَـا كِـتَابَاً مُـؤَجَّـلاً )[ آل عمران 145 ] ، إذاً : تَمُـوتَ وَ ليْسَ تُقْتَلُ لأنَّ اللّهَ لاَ يَأْذَنُ بِقَتْلِ أحَدٍ ، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ )[ الرعد 38 ] ، وَ الكِتَابُ : هُوَ مَجْمُوعَةُ العَوامِلِ وَ الأسْبَابِ التي تُنْهي الحَيَاةَ ، مِثْلَ الحَوادِثِ وَ المَرَضُ المُميتُ وَ الشَيْخوخَةِ وَ القَتْلُ 000 ، فإذَا وَقَعَتْ هَذِهِ العَوامِلُ ( الكِتَابُ ) انْتهى الأجَلُ وَ حَصَلَ الحَسْمُ ، وَ يَعْمَلُ الطُبُّ وَ الإسْعَافَاتُ عَلى وَقْفِ وَ تَأْخيرِ هَذِهِ العَوامِلَ ، لِمَنْعِ الأجَلِ المُقْضى وَ رَفْعِ مُعَدَّلِ الأعْمَارِ [ في الدُوَلِ المُتَقَدِّمَةِ ] ، وَ لِكِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ في النِهَايَةِ الأجَلَ المُسَمّى.

كل هذا والله اعلم.



الأربعاء، 25 مارس 2015

(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة ال عمران(من اية 1 الى 104)

إمـرأة عـمـران :
عِمْـرانُ بنُ مَـاثَان ، مِنْ نَسْلِ النبي داوودَ عليه السلام ، وَهُوَ رَأْسُ أُسْرَةِ [ آلِ عِمْـرانَ ] ، وَ وَالِدُ السَيِّدَةِ مَرْيَمَ العَذْراءَ ، وَ قَدْ تُوفِّيَ وَ تَرَكَ زَوْجَتَهُ حَامِلاً بِمَرْيَمَ ، فَنَذَرَتْ مَا في بَطْنِهَا خالِصَاً للّـهِ : ( إذْ قَـالَـتِ امْـرَأةُ عِـمْـرانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَـكَ مَـا فِي بَطْـني مُـحَـرَّراً فَلَـمَّـا وَضَـعَـتْـهَـا قَالَـتْ رَبِّ إنَّي وَضَـعْـتُهـا أُنْثـى .... وَإنّي سَـمَّـيْتُهَـا مَـرْيَمَ )[ آل عمران 35 / 36 ] ، و مَـرْيَمَ : أيْ خَادِمَةُ اللّهِ ، وَ زَكَرِيّا هُوَ زَوْجُ أُخْتِها وَ تُدْعَى [ إليزابيت ] ، وَ قَدْ فَازَ بِرِعَايَتِهَا بَعْدَ أنْ رَبِحَ في سِبَاقِ الأَسْهُمِ التي ألْقُوهَا في المَاءِ : ( وَ مَـا كُنْتَ لَـدَيْهِـمْ إذْ يُلْـقُونَ أَقْلاَمَـهُـمْ أَيُّهُـمْ يَـكْـفُلُ مَـرْيَمَ وَ مَـا كُـنْتَ لَـدَيْهِمْ إذْ يَخْـتَصِـمُـونَ )[ آل عمران 44 ] ، وَ لَهُمْ سُوْرَةُ [ آلِ عِمران ] في القرآن الكريم : ( إنَّ اللّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ وَ نُوحَـاً وَ آلَ إبْراهـيمَ وَ آلَ عِـمْـرانَ عَـلَـى الـعَـالَـمـينَ )[ آل عمران 33 ] ، و لذلك كان عيسى و يحي عليهما السلام أولاد الخـالة .
و أولادُ عمـران ثـلاثةٌ و هُم : [ هارون + مـرْيَم + إليزابيت ] ، لذلك قال لهـا قومهـا : ( يَا أُخْــتَ هَـارونَ )[ مريم 28 ] ، و هارون أخو مريم يختلف عن هارون أخو موسى ، لأن بين موسى و عيسى آلاف السنين ، عليهم السلام جمـيعاً

( إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِـعَ للـنَاسِ لـَلـذي بِبَكَّـةَ )[ آل عمران 96 ] ، لَـلـذي : اللامُ الأولى هنا تسمّى [ اللام المزحلَقَـة ] وَ تأتي بخبر إنَّ لِتوكيدِهِ ، بَكَّـةَ : الموقع الذي يخص الحَـرَم فَقَطْ وَ ليسَ كل مكّـة ، لِذَلِكَ لا يَصْلُحُ غَيْر هَذا المَوْقِعِ [ مَكَّـةَ ] للحَـجِّ ، وَ كانَ ذَلِكَ حَسْبَ تَوْجِيـهٍ إلَهيِّ : ( وَ إذْ بَوَّأْنا لإبراهِـيمَ مَـكَـانَ الـبَيْتِ )[ الحج 26 ] .
لِذَلِكَ أهلَكَ اللهُ جيْشَ [ أبْرَهَةَ بن الصباح ] عِنْدَما حاوَلَ هَدْمَ الكعبَةِ لِتَغْييرِ مَكانِهـَا ، حَيْثُ بنى في اليَمَنِ [ في صَنْعاءَ ] بِناءً بَديلاً عَنْها سَمَّاهُ [ القُلّيِسْ أو القايِسْ ] : ( ألَـمْ تَـرَ كَــيْفَ فَعَـلَ رَبُّكَ بِأصْـحَـابِ الـفـيل ألَـمْ يَجْـعَـلْ كَــيْدَهُـمْ فـي تَضْـلـيلٍ فَجَـعَـلَـهُـمْ كَـعَـصْـفٍ مـَأْكُـولٍ )[ سورة الفيل ] ، فاللـهُ سبحانه لا يَسْـمَحُ بِتَغييرِ المَـوْقِعِ فقط ، و مَـا زالَتِ و ستبقى الكَـعْبَةُ الشريفة هيَ بيتُ اللهِ الحَرامِ : ( جَـعَـلَ اللـهُ الـكَـعْـبَـةَ الـبيْـتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] .


كل هـذا واللـه أعلـم .


الثلاثاء، 17 مارس 2015

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)




ســورة البـقـرة (من اية 1 الى 141)

هِيَ أطْوَلُ السُوَرِ المَدَنيَّةِ ، ترتيبُهَا في المُصْحَفِ [ 2 ] ، وَ تَرْتيبُ نُزُولِهَـا [ 87 ] حيثُ نزلت قبل سورة الأنفال و بعد سورة المطففين ، وَ عَدَدُ آيَاتِهَا [ 286 ] آيَة ،

إنّ بداية سورة البقرة و خاصّةً الصفحة المُقابلة لسورة الفاتحة ، تُحدّد صفات [ المتّقين ] الذين سيكونون هُم [ المفلحون ] يوم الحساب ، و الكَلِمَاتِ الأولى مِنْ كِتَابِ اللّهِ هيَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ لاَ رَيْـبَ فِـيـهِ )[ البقرة 2 ] ، نُلاحِظُ أنَّهُ قَالَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ ) ، وَ لَمْ يَقُلْ : [ هَـذا الكِتَابُ ] ، لأنَّ : ( ذلِكَ ) تُفيدُ البُعْـدَ ، أيْ أنَّ : كِتَابَ القُرْآنِ الكريمِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ( لا رَيْبَ فِيهِ ) ، وَ لَنْ يَسْتَطيعَ أحَدٌ إيجَادَ أيِّ رَيْبٍ فيهِ ، حَتَّى في رَسْمِ كَلِمَاتِهِ كَكِتابٍ ، بالرَغْمِ مِنْ تَنَوّعِ مَواضِيعِهِ في شَتّى المَجالاتِ كالتَشْريعِ وَ الفَلَكِ وَ الطبِّ وَ الطبيعَةِ .... .

و تُعتبر سورة البقرة [ مُلَخَّصَاً ] لِكُلِّ القُرْآنِ الكَريمِ ، لِذَلِكَ كَانَ الصَحَابَةُ الكِرامُ عليهم رضوان الله جميعاً ، يَحْرَصُونَ عَلى حِفْظِهَا غَيْبَاً وَ كَانُوا يُدْعَوْنَ : [ أصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ ] ، وَ تَبْدَأُ السُورَةُ بِبِيَانِ سُبُلِ الهِدايَةِ [ الآيات مِنْ 1 إلى 8 ] ، ( بَعْدَ أنْ وَرَدَ في سُورَةِ الفَاتِحَةِ آية : ( اِهْدِنا الصِراطَ المُسْتَقيمَ ) .

ثُمَّ تُوضِحُ السُورَةُ أنَّهُ سَيَكُونُ هُناكَ مُنافِقُونَ يَتَظَاهَرونَ بالإيْمَانِ ، وَ أنَّ هُناكَ طَائِفَة إيْمَانُهَا ضَعيفٌ تُحَاوِلُ إقَامَةَ عَلاقَاتٍ سِرِيَّةٍ مِعَ هَؤلاَءِ المُنافِقِينَ [ الآيات مِنْ 9 إلى 21 ] ، وَ أنَّ عَلى كُلِّ شَخْصٍ أنْ يَصِلَ بِمَعُونَةِ القُرْآنِ إلى رَبِّهِ ، وَ إذَا كَانَ يَتَّبِعُ غَيْرَ دِينِ القُرْآنِ ، فَعَليْهِ أنْ يُقَارِنَ دِينَهُ مَعَ دِينِ القُرْآنِ ، وَ إذَا رَفَضَ المُقَارَنَةَ وَ الحُجَّةَ وَ قِياسَ صِدْقِ القُرْآنِ مَعَ صِدْقِ الكُتُبِ السَماويَّةِ السَابِقَةِ ، فَلاَ مَفَرَّ مِنْ عَذَابِ النَارِ ، فَلِمَاذَا يَخْلُقُونَ الأَعْذَارَ لِعَدَمِ قَبُولِ الحَلَقَةِ الأَخيرَةِ لِنِظَامِ الارْتِقَاءِ الإيْمَانيِّ [ الآيات مِنْ 22إلى 30 ] ، ثُمَّ تَذْكُرُ الحَلَقَةَ الأولى مِنَ السِلْسِلَةِ وَهُوَ آدَمُ عليه السلام ، فالذينَ احْتَرَمُوا آدَمَ مَلاَئِكَةٌ ، وَ الذينَ لَمْ يَحْتَرِمُوه ُشَيَاطِينٌ [ الآيات مِنْ 31 إلى 40 ] ، وَ أنَّ اللّهَ قَدْ أرْسَلَ رُسُلاً تَتْـرا ، وَ مِثَالُ مُوسى عليه السلام لَيْسَ بِبَعيدٍ ، ثُمَّ تُفَنِّدُ السُورَةُ حُجَجَ وَ جِدَالَ المنافقين عَلى تَحْويلِ القِبْلَةِ وَ غَيْرِهَا ، [ الآيات مِنْ 123إلى 153 ] ، وَ في النِصْفِ الثَاني مِنَ السُورَةِ تَتَوَضَّحُ جَميعُ الأَحْكَامِ وَ العِبادَاتِ الإسْلاَمِيَّةِ بَدْأً مِنَ الآيَةِ 214 : ( يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ ) ، ثُمَّ تُخْتَتَمُ السُورَةُ بِأفْضِلِ الأدْعِيَةِ .

.

اسـتوقـد نـاراً :

إنّ كلمة [ استوقد ] تختلف عن كلمة [ أوقد ] ، فكلمة [ أوقد ] تُستخدم للنار المعروفة : ( فَـأَوْقِـدْ لِـي يَا هَـامَـانُ عَـلـى الـطِـيْنِ )[ القصص 38 ] ، أمّـا كلمة [ استوقد ] فهي لنـار [ الحقد و الكراهية ] للآخرين ، و هذا يضع الجسم في حالَةِ [ الحُموضَةِ ] وَ يُذْهِبُ الطاقَة للشخص والذين يُحيطون بـه ، لذلك تقول الآية : ( مَـثَلُـهُـمْ كَـمَـثَلِ الـذي اِسْـتَوْقَـدَ نَاراً فَلَـمَّـا أَضَـاءَتْ مَـا حَـوْلَـهُ ذَهَـبَ اللّـهُ بِنُورِهِـمْ )[ البقرة 17 ] ، و لم تقُل : [ بنـوره ] .

.

جـاعـل في الأرض خـليفة :

كَانَ الملائكَـةُ يُراقِبُـونَ مَـا يَجْري عَلى الأرض ، دُونَ أيِّ سؤالٍ لِلخالِـقِ عَمّـا يَجْري فيهَـا ، إلى أنْ : ( قالَ ربُّكَ لِلـمَـلائِـكَـةِ إنّي جَـاعِـلٌ في الأَرْضِ خَـلـيفَةً ) [ البقرة 30 ] و كلمة [ جَـاعِـلٌ ] بِصِيغَةِ [ فاعِـلْ ] ، للدَلاَلَةِ على أنَّ الأمْرَ قَدْ أصْبَحَ واقِعَاً ، فالخَليفَةُ مَوْجُودٌ فِعْـلاً وَ يَحْتَاجُ فَقَطْ للتكليف ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ : سَـأجْعَلُ ، أيْ : قاصِداً آدَمَ عليه السلام مِنْ بَيْنِ كُلِّ المخْلوقاتِ الأُخْرى عَلى الأرْضِ ، فَقَدِ اخْتَـارَ اللهُ آدَمَ اِخْتياراً مِنْ بَيْنِها : ( إنَّ اللَّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ )[ آل عمران 33 ] ، عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَغْرَبَ الملائِكَةُ هَذا الاخْتِيَارَ : ( قَالوا أَتَجْـعَـلُ فيهَـا مـَنْ يُفْسِـدُ فيهَـا وَ يَسْـفِكُ الـدِمَـاءَ )[ البقرة 30 ] ، و كلمتيْ : [ يُفْسِـدُ ] و [ يسفك ] فعل مضارع يدل على الحاضر و ليس على المستقبل ، لأَنّهمْ كانوا يُراقِبونَ تَصَرّفاتِ آدَمَ عَلى الأرْضِ مِنْ تَخريبٍ للبيئَـةِ ، وَ لَمْ يكُنِ الأمْرُ غيبيًا علَيهم لأنّـهُ لاَ يعْلَمُ الغَيْبَ إلاّ اللّـه سُبْحَانَهُ : ( وَ عِـندَهُ مَـفَاتِحُ الـغَـيْبِ لاَ يَعْـلَـمُـهَـا إلاَّ هُـوَ ) [ الأنعام 59 ] ، وَ لأنَّ الفَسَادَ في الأرْضِ سَبَبُهُ الإنْسَانُ فَقـطْ : ( ظَـهَـرَ الـفَسَادُ في الـبَرِّ والـبَحْـرِ بِمَـا كَـسَـبَتْ أَيْدي الـنَاسُ) [ الروم 41 ] ، أيْ أنَّ ظُهورَ الفَسَـادِ في الأرْضِ تَـوافَقَ مَعْ ظُهُورِ الإنْسَـانِ عليْهَا .

و معنى كلمة [ خليفةً ] ، أيْ : يخلُفُ بعضه بعضاً ، و ليس خليفة لله سبحانه ، لأنّ سبحانه ليس له خليفة .

.

علّم آدم الأسماء كلّهـا :

إنَّ أهَمَّ مَا نُقَابِلُ مِنَ المُفْرَداتِ اللّغَويَّةِ ، هيَ : [ الأسْـماءُ ] ، وَ التَسْـمِيَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اعْتِباريّةٍ ، فَيُمْكِنُنا إطْلاقُ أيِّ رَمْـزٍ أَوْ مُصْطَلَحٍ [ اسْم ] نُريْدُ عَلى عُنْصُـرٍ مَـا ، مِثْلَ تَسْـمِيَةِ الأوْلادِ المَواليْد ، وَ مِنَ الأفْضَلِ أنْ يَدُلَّ الاسْـمُ على تَعْريْفِ المُسَـمّى ، لِذَلِكَ يَجِبُ أنْ يُعَلَّـمَ الاسْمُ تَعْليْمـاً : ( وَ عَـلَّـمَ آدَمَ الأسْـمَـاءَ كُـلَّـهَـا )[ البقرة 30 ] ، فَاللّـهُ سُبْحانَهُ قد [ عَلَّمَ ] وَ لَيْسَ [ لَقَّنَ ] آدَمَ : [ الإنْسانُ الأوَّلُ ] جَميعَ الأسْماءِ ، لأنَّ الأسْـماءَ [ فِطْرِيَّـةٌ ] لَدى الإنْسَانِ ، وَ لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً ، فاللّغَةُ مَوْجُودَة في الطَبيعَةِ وَ لَوْ لَمْ يُوجَدُ الإنْسَانُ ، فَكُلُّ طِفْلٍ وَ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ يَكُونُ مُزَوَّداً بِمبادىءِ النَحْوِ العالميِّ ، وَهَذَا مَا يَسْمَحُ لَهُ بِتَعَلُّمِ أيِّ لُغَـةٍ يَحْتَكُّ بِها في مُحيطِهِ الإنْسانيِّ ، وَ هَذِهِ المَبادىءُ جُزْءٌ مِنَ [ الطبيْعَةِ الإنْسانيَّةِ ] التي تَنْتَقِلُ وِراثِيّاً مِنَ الآباءِ إلى الأبْناءِ : ( وَاخْـتِلافُ ألْـسِـنَتِـكُـمْ وَألْـوانِـكُـمْ إنَّ في ذَلِـكَ لآيَاتٍ لِلْـعَـالَـمِـيْن )[ الروم 22 ] .

فالمَطْلُوبُ هُوَ إيْجادُ [ نظريّة لُغَويّة ] جديْدة تُضِيْفُ أسْماءً وَ معان جديْدة ، وَ لِكُلِّ الأفعالِ اللغويّة ، عِنْدَ ذَلِكَ نَجِدُ أنَّ اللّغَةَ العربيّةَ وَحْدها القادِرَة على اسْتيعابِ جَميعِ الأسْماءِ وَ المُصْطلحاتِ التي تَظْهَرُ مَعَ التَقَدُّمِ العِلميِّ الهائِلِ ، وَ هَذا ما أدْرَكَهُ بِوَعْيٍ شَاعِرُ النيلِ [ حافِظ إبراهيم ] قائِلاً باسمِ اللّغَةِ العربية :

فَكَيْفَ أَضِيْقُ اليَـوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَـةٍ وَ تَنْسِـيْقِ أسْـماءٍ لِمُخْتَـرعـَاتِ

دعـاء إبراهيم عليه السلام :

لَقَدْ كَانَ دُعَـاءُ أبينَـا إبراهيمُ عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَـثْ فِيْهِـمْ رَسُـولاً مِـنْهُـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـكَ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَالـحِـكْـمَـة وَ يُزَكِّـيْهِـمْ )[ البقرة 129 ] ، وَ لكِنَّ اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ على هَذِهِ الأُمَّةِ : ( لَـقَـدْ مَـنَّ اللّـهُ عَـلَـى الـمُـؤْمِـنينَ إذْ بَعَـثَ فِيهِـمْ رَسُـولاً مِـنْ أَنْفُسِـهِـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـهِ وَ يُزَكِّـيْهِـمْ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَ الـحِـكْـمَـةَ )[ آل عمران 164 ] ، حَيْثُ نُلاحِظُ أنَّ اللّهَ اسْتَجابَ دُعَاءِ إبراهيمَ ، لَكِنَّهُ جَعَلَ [ التَزكِيَةَ ] ثانيـاً .

كلّ هـذا و اللـه أعْلم .