الثلاثاء، 17 مارس 2015

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

سورة البقرة (من اية 142 الى 252)

( و منْ حيثُ خَرجْتَ فولّ وجهَـكَ شـطْر المسـجد الحـرام )[ الآيتان 149 / 150 ] ، هذا الأمْر الذي ورَد في آيتين متتاليتين لأهميته ، يطلب من كل مسلم و مسلمة أنْ يتّجه و لو للحظات نحو المسجد الحرام ، ليْسَ في أوقات الصلاة فحسْب ، و لكن منْ أيّ مكانٍ يخرُجُ منه ، سواءٌ كان من محلّ تجاريّ ، أو من سيّارته ، أو منْ بيته ..... ، عليه إعطاء إلتفاته و لو قصيرة نحو المسجد الحرام ، كي يتزوّد ب [ الطـاقة ] التي ينشُـرُهـا المسجد الحرام في كلّ الكرة الأرضية ، ثُمّ يُتابع سيره و سوف يرى الحيوية و النشاط التي يشعر بهـا .

إنّ الاتجَاهَ إلى المسْجِدِ الحَـرامِ هُـوَ مِنْ أجْلِ الانسِـجامِ مَعَ الفِطْرَةِ الإنسَـانيّةِ في التوجُّهِ نَحْوَ المَوْطِنِ الأوَّلِ للإنسَـانيّةِ ، فَحينَمـا كانَ صلى الله عليه وسلم يَتَوَجَّهُ في صَلاتِهِ نَحْوَ المسجِدِ الأقْصى ، كَانَ ظَهْرَهُ نَحْوَ المسْجِدِ الحَرامِ [ 180 درجة ] ، وَ هَذا لَمْ يَتَوافَقْ مَعَ فِطْرَتِهِ الإنسانيّةِ : ( قَـدْ نَرى تَقَـلُّـبَ وَجْـهِـكَ فـي الـسَـمَـاءِ فَـلَـنُوَلِّـيَنَّـكَ قِـبْلَـة ً تَرْضَـاهَـا فَـوَلِّ وَجْـهَـكَ شَـطْـرَ الـمَـسْـجِـدِ الـحَـرامِ وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُـمْ فَـوَلُّـوا وُجُـوهَـكُـمْ شَـطْـرَهُ )[ البقرة 144 ] ، أي : ترْضَاهَا فِطْرَتُكَ الإنْسَـانيّة ، وَ حَتّى غَيْرِ المسْلمينَ يَعْلَمونَ هَذِهِ الحقيقةَ : ( وَ إنَّ الـذينَ أُوتُـوا الـكِـتَابَ لَـيَعْـلَـمُـونَ أَنَّـهُ الـحَـقُّ مِـنْ رَبِّهِـمْ )[ البقرة 144 ] ، لِذَلِكَ كانَ وُجُوبُ التَوَجّهِ للمَسْجِدِ الحَرامِ لِعَدَمِ مُخالَفَةِ الحقيقَةِ مِنْ جِهَة ، وَ عَدَمَ تْرْكِ المَجالِ لِحَديثِ المُغْرضينَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرى : ( وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُـمْ فَـوَلُّـوا وُجُـوهَـكُـمْ شَـطْـرَهُ لِـئَـلاّ يَكُـونَ لِلـناسِ عَـلَـيْكُـمْ حُـجَّـةٌ ) [ البقرة 150 ] ، لأنَّ المُنَـافِقِينَ المُغْرضينَ يَرْفَضونَ هَذا الأمْرَ : ( وَ لَـئِـنْ آتَيْتَ الـذينَ أُوتُـوا الـكِـتَابَ بِكُـلِّ آيَةٍ مَـا تَبِعُـوا قِـبْلَـتَكَ )[ البقرة 145 ] .

( وَ مَـا جَـعَـلْـنَا الـقِـبْـلَـةَ الـتي كُـنْتَ عَـلَـيْهَـا إلاَّ لِـنَعْـلَـمَ مَــنْ يَتَّبِعُ الـرَسُـولَ مِـمَّـنْ يَنْقَـلِـبُ عَـلـى عَـقِـبَيْـهِ )[ البقرة 143 ] ، و الـقِـبْـلَـةَ الـتي كُـنْتَ عَـلَـيْهَـا هي : الاتّجاهِ إلى المسـجدِ الأقصى ، و قد كَانَتْ مَـرْحَلَة اخْتِبـارٍ مُؤقَّـتَةً ، وَ لَيْسَتْ قِبْلَةً دائِمَةً ، لِذَلِكَ كَانَ قَوْلُ المُنـافِقينَ السَـاخِرَ : ( سَـيَقُولُ الـسُـفَهَـاءُ مِـنَ الـنَاسِ مَـا وَلاَّهُـمْ عَـنْ قِبْلَـتِهِـمُ الـتي كَـانُوا عَـلَـيْـهَـا )[ البقرة 142 ] ، [ تَمَّ تَحْويلُ القِبْلَةِ منَ القدس إلى مكّة ، بَعْدَ الهِجْرَةِ بِ / 17 / شَهْراً ]

وَ التوَجُّـهُ نَحْـوَ الكَعْبَةِ أمْـرٌ لَيْسَ بالسَـهْلِ عَلى غَيْرِ الذينَ هَداهُمُ اللّـهُ للاتّجاهِ إليْـهِ : ( وَ إنْ كَـانَتْ لَــكَـبيرَةً إلاَّ عَـلـى الـذينَ هَـدى اللَّـه ُ)[ البقرة 143 ] ، [ الـلاّم في بداية كلمة لكبيرة هي : الـلاّمُ الفارقـة ] .

.

( إنَّا لِلَّـهِ وَ إنَّا إلَـيْهِ رَاجِـعُـونَ )[ البقرة 156 ]

في هَذِهِ العِبَارَةِ الرَائِعَـةِ التي جَاءَتْنـَا عَلى شَكْلِ آيَـةٍ كَريمَـةٍ مِنَ الخَالِقِ تعالى ، فيهَا نَفْيٌ مَنْطِقيٌّ لِلظُلْمِ عَنْـهُ تعالى ، فَلَمّا كَانَ تَعْريفُ الظَالِمِ أنّـهُ : هُوَ [ الذي يَتَصَرَّفُ بِمَـا لاَ يَمْلُكُ ] ، وَ لَمّـا كَانَ كُلُّ مَا في الوُجُودِ مُلْكٌ للخَالِقِ سُبْحَانَهُ : ( فَسُـبْحَـانَ الـذي بِيَدِهِ مَـلَـكُـوتُ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ يس 83 ] ، فَإنِّهُ سبحانه يَتَصَرَّفُ فيمَا يَمْلُكُ ، وَ مَنْ تَصَرَّفَ فيمَا يَمْلُكُ لاَ يَظْلِمُ أحَدَاً : ( إنَّ اللَّـهَ لاَ يَظْـلِـمُ مِـثْقَالَ ذَرَّةٍ )[ النساء 40 ] ، لأَنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ في الوُجُودِ مُلْكٌ شَخْصيٌّ لَـهُ ، أمَّـا أيُّ أحَدٍ سِواهُ فَلَيْسَ لَـهُ مِنَ المُلْكِ شَـيْئاً : ( وَ الـذينَ تَدْعُـونَ مِـنْ دُونِهِ مَـا يَمْـلِـكُـونَ مِـنْ قِـطْـمـيرٍ )[ فاطر 13 ] ، وَ القِطْميرُ هُوَ : غِشَـاءُ نَواة التمْرِ ، لِذَلِكَ كَانَ المَنْطِـقُ يَقْتَضي : ( لاَ يُسْـأَلُ عَـمَّـا يَفْعَـلُ وَ هُـمْ يُسْـأَلُـونَ ) [ الأنبياء 23 ] ، لاَ يُسْـأَلُ عَـمَّـا يَفْعَـلُ لأنَّهُ : يَصَرّفُ فيما يَمْلُكُ ، وَ هُـمْ يُسْـأَلُـونَ لأنَّهُم يَتصَرّفُون في مُلْكِـهِ ، وَ لَيْسَ في مُلْكِهِمْ .

وَ نُلاَحِظُ أنَّ الآيَةَ الكَريمَةَ في سُورَةِ يس ، قَدْ أَوْرَدَتْ كَلِمَةَ مَـلَـكُـوتُ : ( بِيَدِهِ مَـلَـكُـوتُ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ يس 83 ] ، وَ المَلَكُوتُ غَيْرُ الملكيَّةِ ، فالمُلْكِيَّةُ تَكُونُ ظَاهِريَّةً للشَـيْءِ ، أمَّا المَلَكُوتُ فَهُوَ مُلْكِيَّةُ كُلِّ ذَرَّةٍ في الشَيْءِ ، فَنَحْنُ لَسْنَا عَبيدَاً وَ مُلْكَاً ظَاهِريّاً لِلّهِ فقط ، بَلِ اللّهُ يَمْلِكُ وَ يَحِقُّ لَـهُ التَصَرُّفُ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فينـَا مَتى مَا يَشَاءُ وَ كَيْفما يَشَـاءُ ، وَ هَذَا هُوَ المَلَكُوتُ : ( إنْ يَشَـأْ يُذْهِـبْـكُـمْ وَ يَأْتِ بِخَـلْـقٍ جَـديدٍ )[ فاطر 16 ] ، بَيْنَمَا تَكُونُ المُلْكيَّةُ ذَاتُ شَكْلٍ ظَاهريٍّ فالذي يَمْلِكُ حِصَانَاً مَثَلاً ، يَمْلِكُهُ بِشَكْلِهِ الظَاهريِّ [ حَقُّ الانْتِفاعِ ] ، لاَ بِشَكْلِ مَلَكُوتِ كُلِّ ذَرَّةٍ فيـهِ .

فَـإذَا أَصَابَتِ الإنْسَانَ مُصِيبَةٌ قَالَ : ( إنَّا لِلَّـهِ وَ إنَّا إلَـيْهِ رَاجِـعُـونَ )[ البقرة 156 ] ، أيْ : نَحْنُ مُلْـكٌ للّـهِ وَ اللّـهُ قَـدْ تَصَـرَّفَ فيمـا يَمْلُكُ ، وَ في هَذا نَفْيٌ للظُلْمِ عَنِ اللهِ سُـبْحَانَهُ ، فَنُلاَحِظُ أنَّ الإنْسَانَ بِقَوْلِهِ هَذَا يَنْفي الظُلْمَ عَنِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ ، باعْتِرافِهِ أنَّ اللّهَ قَدْ تَصَرَّفَ فيما يَمْلُكُ ، فَيَكُونُ جَزاءُ الذينَ يَقُولُونَ هَذا القَوْل ِ، مُعْتَرِفينَ بِعَدَمِ ظُلْمِ اللّـهِ لَهُمْ : ( أُولَـئِـكَ عَـلَـيْهِـمْ صَـلَـواتٌ مِـنْ رَبِّهِـمْ وَ رَحْـمَـةٌ)[ البقرة 157 ] ، و صَـلَـواتٌ أي : سكينَةٌ و اطْمِئْنانٌ في الدُنْيا وَ الآخِرَةِ ، وَ هَذِهِ الرحْمَةُ كافيَـةٌ لِدُخُولِهِمُ الجَنّـَةَ .

.

الصَــفـا و الـمـروة :

يَطوف الحُجّاجُ بَيْنَ صخرتيْ [ الصَفـا ] و معناهـا : الصخرة الملساء ، وَ مُذَكَّرُ الصَـفا : صَفْوانٌ [ الحَجَرُ الأمْلَسُ ] : ( فَمَـثَـلُـهُ كَـمَـثَـلِ صَـفْـوانٍ عَـلَـيْهِ تُرابٌ )[ البقرة 264 ] ، أمّا [ المَروَة ] فـمعناهـا : الصخرة البيضاء ، وَ يَحْلِقونَ شُعُورَهُمْ عِنْدَ المَرْوَة : ( إنَّ الـصَــفَـا وَ الـمـرْوَةَ مِـنْ شَـعَـائِرِ اللّـهِ فَمَـنْ حَـجَّ الـبيتَ أوِ اعْـتَمـرَ فَلاَ جُـناحَ عَـلَـيْهِ أنْ يَطَّـوَفَ بِهِـمَـا )[ البقرة 158 ] .

و المسافة بين الصفـا و المروة هي / 420 / متر ، ففي السعي بينهُمـا سبعة أشواط ، يكون الحاجّ قد سار حوالي / 3 كيلومتر / ، و هذه رياضةٌ للمشي فيهـا كل الصحة و الحيوية إضافةً لثوابهـا الكبير .

يقولُ خُوَيْلـدُ الهُـذَليّ :

حتّى كَأنيّ للحَوادِثِ مَـرْوَةٌ بِصَـفا المُشَـرِّقِ كُلَّ يـومٍ تُقْرَعُ

يتربّصـنَ ، وصـيّةً :

مَوْضُوعُ العِدَّةِ : ( وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً يَتَـرَبَّصْـنَ بِأنْفُسِـهِـنَّ أَرْبَعَـةَ أَشْـهُـرٍ وَ عَـشْـراً فَإذا بَلَـغْـنَ أَجَـلَـهُـنَّ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ بِــالـمَـعْـروفِ )[ البقرة 224 ]

استَخْدَمَ حَرْفَ [ البَـاءِ ] للجَرِّ في كلمة : [ بالمعروف ] ، للدَلاَلَةِ عَلى أَمْرٍ واحِـدٍ مَعْروفٍ هُوَ الـزَواجُ فقطْ وَ لِذَلِكَ جَاءَتْ كَلِمَةُ [ الـمعْروفِ ] مُعَرَّفَةٌ بِـ [ الْ ] ، لذلك هذه لآية الكريمة تتحدّث عن موضوع واحد هو : [ العدّة للمرأة ] .

مَوْضُوعُ النَفَقَـةِ : ( وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً وَصِـيَّـةً لأزْواجِـهِـمْ مَـتَاعَـاً إلـى الـحَـوْلِ غَـيْرَ إخْـراجٍ فَإنْ خَـرَجْـنَ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ مِـنْ مَـعْـروفٍ )[ البقرة 240 ]

هذه الآية الكريمة تتحدّث عن [ الوصية المالية ] في حال وفاة الزوج ، و هذه الوصية تَكْفيهَا حل كامل ، كَيْ لاَ تَضْطَـرَّ المَرْأةُ للخُروجِ إلى العَمَـلِ ، و لذلك استخدم هنـا حرف الجرّ [ منْ ] ، و جاءت كلمة [ معروف ] غير معرّفة ب [ ال التعريف ] ، للدلالة على حالات عديدة أمام المرأة في البحث عن عمل شريف تقوم به بعد وفاة زوجهـا .

لذلك هاتان الآيتان لا [ تنسخان ] بعضهُمـا ، كمـا يقولون ، لأنّ كل آية تتحدّث عن موضوع مختلف عن الآخر .

كل هـذا و اللـه أعلم