‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاربعين النووية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاربعين النووية. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 31 مارس 2015

الحديث العاشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } ( المؤمنون : 51 ) ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ( البقرة : 172 ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذّي بالحرام ، فأنّى يُستجاب له ؟ ) رواه مسلم .

الشرح
الدعاء روضة القلب ، وأنس الروح ؛ فهو صلة بين العبد وربه ، يستجلب به الرحمة ، ويستعدي به على من ظلمه ، ومن عظيم شأنه ، وعلو مكانه ، أن جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل العبادة ولبها .

وإذا كان للدعاء هذه المكانة العظيمة ؛ فإنّه ينبغي على العبد أن يأتي بالأسباب التي تجعله مقبولا عند الله تعالى ، ومن جملة تلك الأسباب : الحرص على الحلال في الغذاء واللباس ، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث .

ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى حقيقة مهمة وهي : ( إن الله طيب ، لا يقبل إلا طيبا ) ، فبيّن أنه سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص وعيب ، فهو الطيب الطاهر المقدس ، المتصف بصفات الكمال ، ونعوت الجمال ، ومادام كذلك ، فإنه : ( لا يقبل إلا طيبا )، فهو سبحانه إنما يقبل من الأعمال ما كان طيبا ، خالصا من شوائب الشرك والرياء ، كما قال سبحانه في محكم كتابه : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) ، كما أنّه تعالى لا يقبل من الأموال إلا ما كان طيبا ، من كسب حلال ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في معرض ذكر الصدقة : ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يقبلها بيمينه...) الحديث ، وهو سبحانه أيضا لا يقبل من الأقوال إلا الطيب ، كما قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } ( فاطر : 10 ) .

وحتى يتحقق للمؤمن هذه الطيبة التي ينشدها ، فإنّه ينبغي عليه أن يحرص على تناول الطيب من الرزق ، كما قال تعالى : { كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } ( المؤمنون : 51 ) ، فإذا امتثل المسلم ما أُمر به ، حصل له من الصفاء النفسي والسمو الروحي ما يقرّبه من ربّه، فيكون ذلك أدعى لإجابة دعائه .

ومن ناحية أخرى يجب على العبد أن ينأى بنفسه عن كل ما حرّمه الله تعالى عليه من مطعوم أو مشروب أو ملبوس ، لأن الحرام سيورده موارد الهلاك ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : ( لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به ) .

وقد ورد عن سلفنا الصالح رحمهم الله ، ما يدل على حرصهم على تلك المعاني السامية ، فعن ميمون بن مهران رحمه الله أنه قال : " لا يكون الرجل تقيا حتى يعلم من أين ملبسه، ومطعمه، ومشربه " ، ويقول وهيب بن الورد : " لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام " ، ويقول يحيى بن معاذ : " الطاعة خزانة من خزائن الله ، إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال " .

ثم ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلا عظيما ، لرجل قد أتى بأسباب إجابة الدعاء ، غير أنه لم يكن يتحرّى الحلال الطيب فيما يتناوله ، فهذا الرجل :

أولا : ( يطيل السفر ) ، والسفر بمجرّده يقتضي إجابة الدعاء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة المسافر ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، والمسافر يحصل له في الغالب انكسار نفس نتيجة المشاق التي تعتريه في سفره ، وهذا يجعله أقرب لإجابة دعائه .

ثانيا : ( أشعث أغبر ) ، وهذا يدل على تذلّله وافتقاره ، بحصول التبذّل في هيئته وملابسه ، ومن كانت هذه حاله كان أدعى للإجابة ؛ إذ إن فيه معنى الخضوع لله تعالى ، والحاجة إليه .

ثالثا : ( يمد يديه إلى السماء ) ، والله سبحانه وتعالى كريم لا يرد من سأله ، روى الإمام أحمد وغيره ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله حيي كريم ، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين ) .

رابعا : ما ورد من إلحاحه في الدعاء : ( يا رب ، يا رب ) ، وهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر ما يدعوا به ثلاثا .

فهذه أربعة أسباب لإجابة الدعاء ، قد أتى بها كلها ؛ ولكنه أتى بمانع واحد فهدم هذه الأسباب الأربعة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأنّى يُستجاب له ؟ ) ، وهذا الاستفهام واقع على وجه التعجب والاستبعاد ، لمن كانت هذه حاله .

وأخيراً : فما أحوجنا إلى أن نقف مع أنفسنا وقفةً حازمة ، نتحرّى فيها ما نأكله من طعام ، أونلبسه من لباس ، حتى يكون الدعاء مقبولا عند الله ، نسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه ، وبطاعته عن معصيته ، وبه عمّن سواه .

الاثنين، 30 مارس 2015

الحديث التاسع

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) رواه البخاري ومسلم .
الشرح
لقد ارتضى الله سبحانه للبشرية الإسلام دينا ، وجعله الدين الخاتم الذي لا يُقبل من أحدٍ سواه ، وكان من سمات هذا الدين قوامه على الأوامر والنواهي ، فهو يأمر بكل فضيلة ، وينهى عن كل رذيلة ، ومن هنا جاء هذا الحديث ؛ ليبين الموقف الصحيح تجاه هذه الأوامر والنواهي.

وقد جاء في صحيح مسلم بيان سبب ورود هذا الحديث ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا )، فقال رجل : أكلُّ عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو قلت نعم لوجبت ، ولما استطعتم ) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) ، وفي رواية أخرى : ( ذروني ما تركتكم ) ، فأرشد صحابته إلى ترك السؤال عما لا يُحتاج إليه .

ولا يُفهم من النهي عن كثرة السؤال ، ترك السؤال عما يحتاجه المرء ، فليس هذا مراد الحديث ، بل المقصود منه النهي عن السؤال عما لا يحتاجه الإنسان مما يكون على وجه الغلو أو التنطّع ، أو محاولة التضييق في أمرٍ فيه سعة .

وإذا نظرت إلى منهج الصحابة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أسئلتهم على قسمين :

القسم الأول : السؤال عما قد وقع لهم ، أو أشكل عليهم ، فمثل هذه الأسئلة مأمور بها شرعا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أمر عباده بسؤال أهل العلم ، وها هم الصحابة رضوان الله عليهم قد ترجموا هذا الأمر عمليا ، فقد سألوا عن الفأرة التي سقطت في سمن ، وسألوا عن متعة الحج ، وسألوا عن حكم اللقطة ، إلى غير ذلك .

القسم الثاني : سؤالهم عما يتوقعون حصوله فعلا ، ومن ذلك : ما رواه الإمام مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مُدى ، فقال : ( ما أنهر الدم ، وذكر عليه اسم الله فكُل ، ليس السن والظفر ) ، ومن ذلك أيضا سؤالهم عن الصلاة أيام الدجال ، عندما يكون اليوم كالسنة ، فأجابهم : ( اقدروا له قدره ) .
وفي الحديث إرشاد للمسلم إلىكيفية التعامل مع الأحكام والنصوص الشرعية ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) أمر باجتناب كل ما نهى عنه الشرع ، سواء أكان محرما أم مكروها ، وتأكيدا للمعنى السابق جاء التعبير بلفظة ( اجتنبوا ) ، فهي لفظة تعطي معنى المباعدة ، فكأنك تكون في جانب ، والمعاصي في الجانب الآخر ؛ لذلك هي أبلغ في معنى الترك .

أما فيما يتعلق بالأوامر ، فلم نُكلف إلا بما نستطيع ، وما يدخل في حدود الطاقة ، فإذا عجز المكلّف عن أمرٍ ، جاءه الشرع بالتخفيف ، وهذا يدل على يسر الإسلام وسماحته ، كما قال الله عزّوجل : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ( البقرة : 185 ) ، وانطلاقا من هذا المعنى ، استنبط العلماء قاعدة فقهيّة مهمة ، وهي قاعدة : ( المشقة تجلب التيسير ) ، وجعلوها مبدأ ترتكز عليه كثير من الأحكام الفقهيّة .

والملاحظ هنا أن الشريعة قد شددت في جانب المنهيات أكثر من المأمورات ، فعلقت تنفيذ الأوامر على الاستطاعة ، بخلاف النهي ، وذلك لأن الشريعة الغرّاء تسعى دائما للحد من وقوع الشر ، والحيلولة دون انتشاره ، ولا يكون ذلك إلا بالابتعاد عما حرّم الله عزوجل ، ولذلك يقول الله تعالى في محكم تنزيله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } ( النور : 21 ) ، فحرّم الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الحرام ،ومن باب أولى تحريم الحرام نفسه.

ومن خلال ما سبق ، يتبين لك أيها القاريء الكريم خطأ كثير من المسلمين ، الذين يجتهدون في فعل الطاعات ، مع تساهل عظيم في ارتكاب المحرمات ، فتراه يصوم مع الناس إذا صاموا، فإذا جنّ عليه الليل لم يتورّع عن مقارفة الذنوب ، وارتكاب المعاصي ، ناسيا - أو متناسيا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرشدا أمته : ( اتق المحارم تكن أعبد الناس ) رواه الترمذي ، ولا يعني ذلك التهوين من أمر الطاعة ، أو التساهل في أمرها ، لكن كما قال الحسن البصري رحمه الله : " ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه " .

ومن دلالات هذا الحديث أنه يربي المسلم على الجدية في التعامل مع هذا الدين ، كما قال الله عزوجل : { إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل } ( الطارق : 13-14 ) ، وهذه الجدّية تدعوه إلى أن يقبل بكليّته على تعلّم ما ينفعه من العلم ، ويجتهد في تربية نفسه وتزكيتها ، مجرّدا قلبه عن كل ما يشغله عن هذا الهدف الذي جعله نُصب عينيه.

وحتى يرسّخ النبي صلى الله عليه وسلم فيهم هذا المبدأ ؛ بيّن لهم خطورة الحيدة عن هذا المنهج الدقيق ، وأثر ذلك في هلاك الأمم السابقة ، والتي تكلّفت في أسئلتها ، واختلفت على أنبيائها ، فكان سؤالهم تشديدا عليهم ، وكان اختلافهم سببا لهلاكهم ، وخير مثال على ذلك ، ما كان عليه قوم موسى عليه السلام ، فإنهم لما طُلب منهم ذبح بقرة ، تنطّعوا في السؤال عن أوصافها ، وتكلّفوا في ذلك ، وكان في سعتهم أن يأتوا بأي بقرة ، ولكنهم أبوا ذلك ، فشدّد الله عليهم ، ولما اختلفوا على أنبيائهم ، لم تقبل منهم التوبة إلا بقتل أنفسهم ، وعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة ، والجزاء من جنس العمل .

وأخيراً : نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، والحمد لله أولا وآخرا .

الحديث الثامن

عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى ) رواه البخاري ومسلم .

الشرح
بعث الله سبحانه وتعالى الرسل الكرام ، وأنزل معهم الكتب العِظام ، لينشروا الدين في أرجاء المعمورة ، فيكون ظاهرا عاليا على سائر الأديان والملل ، كما بيّن سبحانه ذلك في قوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ( البقرة : 193 ) .

وكانت هذه المهمة محور دعوة كل أنبياء الله ، فقاموا جميعا لتحقيق هذه الغاية ، باذلين في ذلك الغالي والنفيس ، والمال والنفس ، داعين إلى الله بالليل والنهار ، والسرّ والعلانية ، فانقسم الناس عند ذلك إلى فريقين : فريق قذف الله في قلبه أنوار الحق ، فانشرح صدره للإسلام ، فوحّد ربّه ، واتّبع شريعته ، وفريق طمس الله بصيرته ، وجعل على قلبه غشاوة ، فأظلم قلبُه ، وأبى أن يقبل دعوة الحق ، ولقد أوضح الله تعالى حقيقة الفريقين في قوله تعالى : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } ( محمد : 3 ) .

إن انقسام الناس إلى مصدّق ومكذّب ، ومؤمن وكافر ، أمر حتمي تجاه كل ما هو جديد ، وتجاه كل دين أو معتقد ، وإذا كان انقسامهم أمرا لازما ؛ فإنه يجب على ذلك الدين أو ذلك المعتقد أن يتعامل مع كلا الفريقين ، وجميع الطائفتين ، وهذا عين ما جاءت به شرائع الله عزوجل ، ومنها الإسلام .

لقد أمرنا الله تعالى في دين الإسلام أن ندعو المعرضين والمكذبين بالحسنى ، وأن نجتهد في ذلك ، بل أن نجادلهم بالتي هي أحسن ، فإن أبوا ، كان لزاما عليهم ألا يمنعوا هذا الخير من أن يصل إلى غيرهم ، ووجب عليهم أن يفسحوا لذلك النور لكي يراه سواهم ، فإن أصروا على مدافعة هذا الخير ، وحجب ذلك النور ، كانوا عقبة وحاجزاً ينبغي إزالته ، ودفع شوكته ، وهذا مما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ) ، فهو صلى الله عليه وسلم مأمور بنشر دين الإسلام ، واستئصال شوكة كل معاند أو معارض ، وتلك هي حقيقة الدين وغايته .

لكن ما سبق لا يدل على أن دين الإسلام دينٌ متعطشٌ للدماء ، وإزهاق أرواح الأبرياء ، بل هو دين رحمةٍ ورأفةٍ ، حيث لم يكره أحدا على الدخول فيه ، بشرط ألا يكون عقبةً أو حاجزاً كما تقدم ، وقد قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي } ( البقرة : 256 ) .

ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا ، الأمور التي تحصل بها عصمة الدم والنفس ، وهي : النطق بالشهادتين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فمن فعل ذلك ، فقد عصم نفسه وماله ، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه العصمة المطلقة ، أو العصمة بالإسلام ، وحقيقتها : أن يدخل المرء في دين الإسلام ، ويمتثل لأوامره ، وينقاد لأحكامه ، فمن فعل ذلك كان مسلما ، له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم .

أما العصمة المقيّدة أو العصمة لغير المسلمين ، فحقيقتها : أن كل كافر غير محارب ، أي : المُستأمن والذميّ والمعاهَد ، فإنه معصوم الدمّ ، بشروط معينة وضّحها العلماء في كتبهم .

وإذا أردنا أن نوضّح حقيقة العصمة بالإسلام فنقول : إن من تلفّظ بالشهادتين ، فإننا نقبل منه ظاهر قوله ، ونكل سريرته إلى الله تعالى ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا أن ننقب عن قلوب الناس ، أونبحث في مكنونات صدروهم ، أسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لا يعني ترك الانقياد للدين أو العمل بأحكامه ، فإن من شروط لا إله إلا الله الانقياد لها ، والعمل بمقتضياتها .

أما إقامة الصلاة ، فهي من أعظم مظاهر الانقياد والعبودية، بل إن تاركها ليست له عصمة ، يشهد لذلك قوله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ( التوبة : 11 ) ، فدل على أنهم إن لم يصلوا فلا أخوة لهم ، ولما أراد خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يضرب عنق ذي الخويصرة - الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للمال - نهاه عن ذلك قائلا : ( لا ؛ لعله أن يكون يصلي ) رواه البخاري و مسلم ، وهذا يقتضي أنه لو كان تاركا للصلاة لما منع خالدا من قتله .

وإيتاء الزكاة المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ويؤتوا الزكاة ) ، هي من مظاهر الانقياد المالية لله تعالى ، ولا يعني ذكرها في الحديث أن مجرد الامتناع عن أدائها كفر مخرج من الملة ، بل في ذلك تفصيل آخر ليس هذا مجال بسطه.

وإذا تحققت هذه الأمور الثلاثة في شخص أو فئة ، حصلت لهم العصمة التامة ، فتصان دماؤهم وأموالهم وأنفسهم ، إلا بسبب حق من حقوق الإسلام ، وذلك بأن يرتكب الإنسان ما يبيح دمه ، كالقتل بغير حق ، والزنى مع الإحصان ، والردة بعد الإسلام.

وبذلك يتبين لنا أن الإسلام دين يدعوا الناس جميعا إلى الالتزام بأحكام الله تعالى ، فإذا أدوا ما عليهم من واجبات ، فقد كفل لهم حقوقهم ، وصان أعراضهم وأموالهم .

السبت، 28 مارس 2015

الحديث السابع

عن تميم بن أوس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه البخاري ومسلم .

الشرح
حديثنا الذي نتناوله في هذ المقال حديث عظيم ، ويكفيك دلالة على أهميته أنه يجمع أمر الدين كله في عبارة واحدة ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) ، فجعل الدين هو النصيحة ، كما جعل الحج هو عرفة ، إشارةً إلى عظم مكانها ، وعلو شأنها في ديننا الحنيف .

والنصيحة ليست فقط من الدين ، بل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم قد بعثوا لينذروا قومهم من عذاب الله ، وليدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته ، فهذا نوح عليه السلام يخاطب قومه ، ويبين لهم أهداف دعوته فيقول : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم }( الأعراف : 62 ) ، وعندما أخذت الرجفة قوم صالح عليه السلام ، قال : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ( الأعراف : 79 ) .

ويترسّم النبي صلى الله عليه وسلم خطى من سبقه من إخوانه الأنبياء ، ويسير على منوالهم، فيضرب لنا أروع الأمثلة في النصيحة ، وتنوع أساليبها ، ومراعاتها لأحوال الناس واختلافها ، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد موقفه الحكيم عندما بال الأعرابي في المسجد ، فلم ينهره ، بل انتظره حتى فرغ من حاجته ، يروي أبو هريرة رضي الله عنه تلك الحادثة فيقول : " بال أعرابيٌ في المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوه ، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ، أو سجلا من ماء ؛ فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .

وفي الحديث الذي بين أيدينا ، حدد النبي صلى الله عليه وسلم مواطن النصيحة ، وأول هذه المواطن : النصيحة لله ، وهناك معان كثيرة تندرج تحتها ، ومن أعظمها : الإخلاص لله تبارك وتعالى في الأعمال كلها ، ومن معانيها كذلك : أن يديم العبد ذكر سيده ومولاه في أحواله وشؤونه ، فلا يزال لسانه رطبا من ذكر الله ، ومن النصيحة لله : أن يذبّ عن حياض الدين ، ويدفع شبهات المبطلين ، داعيا إلى الله بكل جوارحه ، ناذرا نفسه لخدمة دين الله ، إلى غير ذلك من المعاني .

وأصل النصيحة : من الإخلاص ، كما يقال : " نصح العسل " أي : خلصه من شوائبه ، وإذا كان كذلك فإن إخلاص كل شيء بحسبه ، فالإخلاص لكتاب الله أن تحسن تلاوته ، كما قال عزوجل : { ورتل القرآن ترتيلا } ( المزمل : 4 ) ، وأن تتدبر ما فيه من المعاني العظيمة ، وتعمل بما فيه ، ثم تعلمه للناس .

ومن معاني النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تصديقه فيما أخبر به من الوحي ، والتسليم له في ذلك ، حتى وإن قصُر فهمنا عن إدراك بعض الحقائق التي جاءت في سنّته المطهّرة ؛ انطلاقا من إيماننا العميق بأن كل ما جاء به إنما هو وحي من عند الله ، ومن معاني النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طاعته فيما أمر به ، واتباعه في هديه وسنته، وهذا هو البرهان الساطع على محبته صلى الله عليه وسلم .

ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ولأئمة المسلمين ) ، والمراد بهم العلماء والأمراء على السواء ، فالعلماء هم أئمة الدين ، والأمراء هم أئمةٌ الدنيا ، فأما النصح للعلماء : فيكون بتلقّي العلم عنهم ، والالتفاف حولهم ، ونشر مناقبهم بين الناس ، حتى تتعلّق قلوب الناس بهم، ومن النصح لهم : عدم تتبع أخطائهم وزلاتهم ، فإن هذا من أعظم البغي والعدوان عليهم، وفيه من تفريق الصف وتشتيت الناس ما لا يخفى على ذي بصيرة .

وأما النصيحة لأئمة المسلمين فتكون بإعانتهم على القيام بما حمّلوا من أعباء الولاية ، وشد أزرهم على الحق ، وطاعتهم في المعروف .

والموطن الرابع من مواطن النصيحة : عامة الناس ، وغاية ذلك أن تحب لهم ما تحب لنفسك، فترشدهم إلى ما يكون لصالحهم في معاشهم ومعادهم ، وتهديهم إلى الحق إذا حادوا عنه ، وتذكّرهم به إذا نسوه ، متمسكا بالحلم معهم والرفق بهم ، وبذلك تتحقق وحدة المسلمين ، فيصبحوا كالجسد الواحد : ( إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .

فهذه هي مواطن النصيحة التي أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا عملنا بها حصل لنا الهدى والرشاد ، والتوفيق والسداد .

الاثنين، 23 مارس 2015

الحديث السادس

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وأن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم


الشرح 
جاء الكلام في هذا الحديث العظيم عن قضيّتين أساسيّتين ، هما : " تصحيح العمل ، وسلامة القلب " ، وهاتان القضيّتان من الأهمية بمكان ؛ فإصلاح الظاهر والباطن يكون له أكبر الأثر في استقامة حياة الناس وفق منهج الله القويم .

وهنا قسّم النبي صلى الله عليه وسلم الأمور إلى ثلاثة أقسام ، فقال : ( إن الحلال بيّن ، والحـرام بيّن ) فالحلال الخالص ظاهر لا اشتباه فيه ، مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وغير ذلك ، وكذلك فالحرام المحض واضحةٌ معالمه ، لا التباس فيه ، كتحريم الزنا والخمر والسرقة إلى غير ذلك من الأمثلة .

أما القسم الثالث ، فهو الأمور المشتبهة ، وهذا القسم قد اكتسب الشبه من الحلال والحرام ، فتنازعه الطرفان ، ولذلك خفي أمره على كثير من الناس ، والتبس عليهم حكمه.

على أن وجود هذه المشتبـهات لا ينـافي ما تقرر في النصوص من وضوح الدين ، كقول الله عزوجل : { ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } ( النحل : 69 ) ، وقوله : { يبيّن الله لكم أن تضلّوا والله بكل شيء عليم } ( النساء : 176 ) ، وكذلك ما ورد في السنّة النبويّة نحو قوله صلى الله عليه وسلم : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) رواه أحمد و ابن ماجة ، فهذه النصوص وغيرها لا تنافي ما جاء في الحديث الذي بين أيدينا ، وبيان ذلك : أن أحكام الشريعة واضحة بينة ، وبعض الأحكام يكون وضوحها وظهورها أكثر من غيرها ، أما المشتبهات فتكون واضحة عند حملة الشريعة خاصة ، وخافية على غيرهم ، ومن خلال ذلك يتبيّن لك سر التوجيه الإلهي لعباده في قوله : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( الأنبياء : 7 ) ؛ لأن خفاء الحكم لا يمكن أن يعم جميع الناس ، فالأمة لا تجتمع على ضلالة .

وفي مثل هذه المشتبهات وجّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى سلوك مسلك الورع ، وتجنب الشبهات ؛ فقال : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ، فبيّن أن متقي الشبهات قد برأ دينه من النقـص ؛ لأن من اجتنب الأمور المشتبهات سيجتنب الحرام من باب أولى ، كما في رواية أخرى للبخاري وفيها : ( فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم ، كان لما استبان أترك ) ، وإضافةً إلى ذلك فإن متقي الشبهات يسلم من الطعن في عرضه ، بحيث لا يتهم بالوقوع في الحرام عند من اتضح لهم الحق في تلك المسألة ، أما من لم يفعل ذلك ، فإن نفسه تعتاد الوقوع فيها ، ولا يلبث الشيطان أن يستدرجه حتى يسهّل له الوقوع في الحرام .
وبهذا المعنى جاءت الرواية الأخرى لهذا الحديث : ( ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان ) ، وهكذا فإن الشيطان يتدرّج مع بني آدم ، وينقلهم من رتبة إلى أخرى ، فيزخرف لهم الانغماس في المباح ، ولا يزال بهم حتى يقعوا في المكروه ، ومنه إلى الصغائر فالكبائر ، ولا يرضى بذلك فحسب ، بل يحاول معهم أن يتركوا دين الله ، ويخرجوا من ملة الإسلام والعياذ بالله ، وقد نبّه الله عباده وحذّرهم من اتباع خطواته في الإغواء فقال عزوجل في محكم كتابه : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } ( النور : 21 ) ، فعلى المؤمن أن يكون يقظا من انزلاق قدمه في سبل الغواية ، متنبها إلى كيد الشيطان ومكره .

وفيما سبق ذكره من الحديث تأصيل لقاعدة شرعية مهمة ، وهي : وجوب سد الذرائع إلى المحرمات ، وإغلاق كل باب يوصل إليها ، فيحرم الاختلاط ومصافحة النساء والخلوة بالأجنبية ؛ لأنه طريق موصل إلى الزنا ، ومثل ذلك أيضاً : حرمة قبول الموظف لهدايا العملاء سدا لذريعة الرشوة .

ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لإيضاح ما سبق ذكره ، وتقريباً لصورته في الأذهان، فقال : ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) ، أي : كالراعي الذي يرعى دوابّه حول الأرض المحمية التي هي خضراء كثيرة العشب ، فإذا رأت البهائم الخضرة في هذا المكان المحمي انطلقت إليها ، فيتعب الراعي نفسه بمراقبة قطعانه بدلاً من أن يذهب إلى مكان آخر ، وقد يغفل عن بهائمه فترتع هناك ، بينما الإنسان العاقل الذي يبحث عن السلامة يبتعد عن ذلك الحمى ، كذلك المؤمن يبتعد عن ( حمى ) الشبهات التي أُمرنا باجتنابها ، ولذلك قال : ( ألا وأن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ) ، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقاً ، وقد حمى الشريعة بسياج محكم متين ، فحرّم على الناس كل ما يضرّهم في دينهم ودنياهم .

ولما كان القلب أمير البدن ، وبصلاحه تصلح بقية الجوارح ؛ أتبع النبي صلى الله عليه وسلم مثله بذكر القلب فقال : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) .
وسمّي القلب بهذا الاسم لسرعة تقلبه ، كما جاء في الحديث : ( لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا ) رواه أحمد و الحاكم ؛ لذلك كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي : ( يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك ) ، وعلاوة على ما تقدّم : فإن مدار صلاح الإنسان وفساده على قلبه ، ولا سبيل للفوز بالجنة ، ونعيم الدنيا والآخرة ، إلا بتعهّد القلب والاعتناء بصلاحه :{ يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم }( الشعراء : 88-89 ) ، ومن أعجب العجاب أن الناس لا يهتمون بقلوبهم اهتمامهم بجوارحهم ، فتراهم يهرعون إلى الأطباء كلما شعروا ببوادر المرض ، ولكنهم لايبالون بتزكية قلوبهم حتى تصاب بالران ، ويطبع الله عليها ، فتغدو أشد قسوة من الحجارة والعياذ بالله .

والمؤمن التقي يتعهد قلبه ، ويسد جميع أبواب المعاصي عنه ، ويكثر من المراقبة ؛ لأنه يعلم أن مفسدات القلب كثيرة ، وكلما شعر بقسوة في قلبه سارع إلى علاجه بذكر الله تعالى ؛ حتى يستقيم على ما ينبغي أن يكون عليه من الهدى والخير ، نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا ، ويصرّفها على طاعته ، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، والحمد لله رب العالمين .

السبت، 21 مارس 2015

الحديث الخامس

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .

الشرح
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدين خاتم الأديان ، وآخر الشرائع ، ليتخذه الناس منهاجا لهم ، وسبيلا إلى ربهم ، ومن هنا جاءت تعاليمه شاملة لجوانب الحياة المختلفة، فلم تترك خيرا إلا دلت البشريّة عليه ، ولا شرا إلا حذّرت منه ، حتى كملت الرسالة بموت نبينا صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ( المائدة : 3 ) .
وبتمام هذا الدين ، لم يعد هناك مجال للزيادة فيه ، أو إحداث شيء في أحكامه ؛ لأن الشارع قد وضّح معالم الدين ، وجعل لأداء العبادات طرقا خاصة في هيئتها وعددها ، وفي زمانها ومكانها ، ثم أمر المكلّف بالتزام هذه الكيفيات وعدم تعدّيها ، وجعل الخير كل الخير في لزوم تلك الحدود والتقيد بتلك الأوامر ، حتى تكون العبادة على الوجه الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى .
إن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لم يتركا سبيلا لقول قائل أو تشريع مشرّع، ومن رام غير ذلك ، وزعم قدرته على الإتيان بما هو خير من هدى الوحيين مما استحسنه عقله ، وأُعجب له فكره ، فهو مردود عليه .
هذه هي القضية التي تناولها الحديث ، وأراد أن يسلط الضوء عليها ، فكان بمثابة المقياس الذي يُعرف به المقبول من الأعمال والمردود منها ، مما جعل كثيرا من العلماء يولون هذا الحديث اهتماماً ودراسةً ، ويعدّونه أصلا من أصول الإسلام .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ) ، إنه النهي عن كل طريقة مخترعة في الدين ، والتحذير من إدخال شيء ليس فيه من الأمور العباديّة ؛ ولذلك قال هنا : ( في أمرنا ) ، فأمر الله : هو وحيه وشرعه ، كما قال الله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } ( الشورى : 52 ) .
وعليه : فإن كل عبادة لا بد أن تكون محكومة بالشرع ، منقادة لأمره ، وما سوى ذلك فإنه مردود على صاحبه ، ولو كان في نظره حسنا ، إذ العبرة في قبول العمل عند الله أن يكون صواباً موافقاً لأمره ، وهذا الاعتبار يدلّ عليه قول الله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) ، يقول الفضيل بن عياض : " إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا ، ولا يقبله إذا كان خالصا له إلا على السنة " .
وفي ضوء ذلك ، فليس أمام المكلّف سوى أحد طريقين لا ثالث لهما : طريق الوحي والشرع ، وطريق الضلال والهوى .
إن من ضلّ وابتدع ، وأدخل في دين الله ما ليس منه ، هو في حقيقته قادح في كمال هذا الدين وتمامه ، لأن مقتضى الزيادة في الدين الاستدراك على ما حوته الشريعة ، فكأنه جاء بفعله هذا ليكمل الدين .
ومن ناحية أخرى فإن من أتى ببدعة محدثة لم يحقّق شهادة أن محمدا رسول الله - والتي تقتضي اتباع سنته وعدم الحيدة عنها -، كما قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } ( الأنعام : 153 ) .
وثمّة ملمح مهم في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ) ، وهو أن البدعة هي ما كانت في العبادات ، بخلاف ما أُحدث في حياة الناس من أمور الدنيا كالصناعات والمخترعات ، وتدوين الكتب وإصلاح الطرق ، وما أشبه ذلك من أمور الدنيا ، فهي وإن كانت " محدثة " من ناحية اللغة ، ولكنها لا تدخل في الإحداث المذموم ، بدلالة القيد المذكور في نص الحديث : ( أمرنا ) .
كذلك في قوله : ( ما ليس منه ) إيماء إلى أن الإحداث المنهيّ عنه هو ما كان خارجا عن الهدي والسنة ، بخلاف ما ظنّه الناس بدعة مذمومة بينما هو سنّة مهجورة ، وهذا يحدث كثيرا لاسيما مع وجود الجهل بين الناس وغربة الدين ، وهذا يدعونا إلى عدم التسرّع في إطلاق الحكم على العبادات حتى نتأكّد من عدم ورود الدليل المعتبر على فعلها .
وختاما : فسبيل الله واحد ، واضح المعالم ، كالمشكاة المنيرة ، إذا اقتربت منها أحدٌ أنارت له السبيل ، وتبيّنت له معالم الطريق ، وإن ابتعد عنها تخبّط في ظلمات الجهل ، وتردّى في دركات الهوى ، فما على المسلم إلا أن يتعلّم الدين ويتقيّد بتعاليمه إن أراد النجاح والفلاح .

الحديث الرابع

عن أبي عبد الرحمـن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً ، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد . فوالله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ) رواه البخاري ومسلم .


الشرح
أورد الإمام النووي - رحمه الله - هذا الحديث لتعريف المسلم بحقيقة الإيمان بالقضاء والقدر ، فقد دار الحديث حول التقدير العمري للإنسان ، وما يشمله ذلك من ذكر مراحل خلقه وتصويره، ليعمّق بذلك إدراكه وتصوّره لحقائق الموت والحياة ، والهداية والغواية ، وغيرها من الأمور الغيبية ، فيتولّد في قلبه الشعور بالخوف من سوء العاقبة ، والحذر من الاستهانة بالذنوب والمعاصي ، ومن الاغترار بصلاح العمل والاتكال عليها . 

ولما كان سياق الحديث يذكر شيئا مما لا تُدركه حواس البشر ولا إمكاناتهم في ذلك الزمان - مما يتعلق بعلم الأجنة وأطوارها -، اعتبر العلماء هذا الحديث عَلَما من أعلام نبوته ، ودليلاً على صدق رسالته ؛ لأن هذا الوصف التفصيلي المذكور هنا ما كان ليُعرف في ذلك الوقت ، وإنما عٌرف في الأزمنة المتأخرة بعد تطور العلوم وآلاتها ، وهذا الذي جعل ابن مسعود رضي الله عنه يصدّر حديثه بقوله : " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " فهو الذي ما أخبر بشيء على خلاف الواقع ، وما جُرّب عليه كذب قط ، ولا يُوحى إليه من ربّه إلا الحق .
وقد جاء ذكر مراحل تطوّر خلق الإنسان في بطن أمه على مراحل أربعة ، أولها : ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً ) ، إنها مرحلة التقاء ماء الرجل بماء المرأة ، ويظل هذا الماء المهين على حاله ، قبل أن يتحوّل إلى طور آخر ، وهو طور العلقة ، ويٌقصد بها قطعة الدم الجامدة ، وسُمّيت بذلك لأنها تعلق في جدار الرحم .
ومع مرور الأيام تزداد تلك العلقة ثخونة وغلظة حتى تتم أربعيناً أخرى ، لتتحوّل إلى قطعة لحم صغيرة بقدر ما يُمضغ – ومن هنا جاء اسمها - ، وقد ذكر الله تعالى وصفها في قوله :{ مضغة مخلقة وغير مخلقة } ( الحج : 5 ) ، وتظلّ تلك المضغة تتشكل تدريجياً ، حتى إذا أتمت مائة وعشرين يوما ، عندها تأتي المرحلة الرابعة : فيرسل الله سبحانه وتعالى الملك الموكّل بالأرحام ، فينفخ فيها الروح ، فعندها تدب فيها الحركة ، وتصبح كائناً حياً تحس به الأم .
ونجد هذه الصورة التفصيلية المذكورة في الحديث مواقفة لكتاب الله ، في مثل قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } ( المؤمنون : 12-14 ) ، وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا } ( الحج : 5 ) .
ولك أيها القاريء الكريم أن تلتمس الحكمة من خلق الإنسان طورا بعد طور - وهو القادر سبحانه على أن يقول للشيء كن فيكون -، إنها تربية إيمانية على التأني في الأمور ، وعدم استعجال النتائج ، كما أنها توضيح للارتباط الوثيق الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين الأسباب والمسبّبات ، والمقدمات والنتائج ، ومراعاة نواميس الكون في ذلك .
وبعد هذا الوصف العام لتلك الأطوار ، يحسن بنا أن نسلط الضوء على بعض القضايا المتعلقة بهذه المراحل ، فنقول وبالله التوفيق : لم يختلف العلماء على أن نفخ الروح في الجنين إنما يكون بعد مائة وعشرين يوماً ، وهو ما دلت عليه الأدلة ، وحينئذ فقط تتعلق به الأحكام الفقهية ، فإذا سقط الجنين في ذلك الوقت صُلّي عليه - كما هو في مذهب الإمام أحمد -، وكذلك تجري عليه أحكام الإرث ووجوب النفقة وغيرهما ، لحصول الثقة بحركة الجنين في الرحم ، ولعل هذا يفسّر لنا تحديد عدة المرأة المتوفّى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرة أيام - حيث تتحقق براءة الرحم من الحمل بتمام هذه المدة - .
إلا أنه حصل الخلاف في تحديد المرحلة التي يحصل فيها تقدير أمور الرزق والأجل والشقاء والسعادة ، فظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن ذلك يكون بعد الأربعين الثالثة ، ويخالفه حديث حذيفة بن سعيد الغفاري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة ، بعث الله إليها ملكا ، فصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ ، فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب ، أجله ؟ ، فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب، رزقه ؟ فيقضى ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ) رواه مسلم ، فظاهر الحديث أن تقدير الرزق والأجل يكون في الأربعين الثانية .
وقد سلك العلماء عدة مسالك للجمع بين الحديثين ، وبالنظر إلى ألفاظ حديث حذيفة رضي الله عنه ، نجد أن الجمع بين الحديثين ممكن ، وذلك بأن نجعل المراد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مرّ بالنطفة ) هو مرور زمن يصدق عليه الأربعون - وهو الزمن المذكور في حديث ابن مسعود - ، فهذه الفترة وإن كانت غير محددّة في حديث حذيفة إلا أنها حُددت في حديث ابن مسعود بمائة وعشرين يوماً .
وهناك جمع آخر ، وهو أن نقول : إن قوله صلى الله عليه وسلم : ( فصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجلدها ولحمها وعظامها ) المقصود به تقدير خلق هذه الأعضاء ، وعليه : فالكتابة حاصلة مرتين ، أو أن نقول أن الحديث قد عبّر عن كتابة التصوير والتقدير بالتخليق اعتبارا بما سيؤول إليه الأمر ، والله أعلم .
والذي دعا إلى تأويل حديث حذيفة رضي الله عنه ، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من احتمال اضطراب في ألفاظه ، ومخالفته لظاهر القرآن ، فلا يصلح أن يُعارض به ما ثبت في الصحيحين ، يقول ابن تيمية : " ..ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه ، ولهذا أعرض البخارى عن روايته ، وقد يكون أصل الحديث صحيحا ، ويقع في بعض ألفاظه اضطراب ، فلا يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه الذى لم تختلف ألفاظه ، بل قد صدّقه غيره من الحديث الصحيح " ( مجموع الفتاوى : 4-240 ) .
كما يجدر بنا أن نشير إلى ما يتوهّمه البعض من مخالفة هذا الحديث لظواهر القرآن الكريم ، ويظنون معارضة الحديث لقوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } ( لقمان : 34 ) ، والحق أنه لا تعارض بينها ، فمن المقرّر عند كل مسلم أن الله يعلم الغيب ، ومن هذا الغيب : علم سعادة الإنسان وشقاوته ، وعمره وأجله ، وعمله وسعيه، ومن ذلك أيضا : معرفة جنس المولود قبل الأربعين الثالثة .
أما بعد ذلك فإنه يصبح من علم الشهادة ، أو ما يُطلق عليه الغيب النسبي ، إذ بعد الأربعين الثالثة يُطلع الله الملك على جنس المولود ، بل يُطلعه على شقاوته وسعادته ، فمعرفة الإنسان لجنس المولود في تلك الفترة ما هو إلا انكشاف لغيب نسبي قد عرفه من قبله الملك ، وليس علما بالغيب الحقيقي الذي يكون قبل الأربعين الثالثة ، بل قبل كون الإنسان نطفة .
وإذا عدنا إلى سياق الحديث ، نجد أنه ذكر مراحل الخلق كان تمهيدا لبيان أهمية الثبات على الدين ، وتوضيحاً لحقيقة أن العبرة بالخواتيم ، فربما يسلك الإنسان أول أمره طريق الجادة ، ويسير حثيثا نحو الله ، ثم يسبق عليه الكتاب فيزيغ عن سواء الصراط فيهلك .
بيد أن ضلاله ذلك لم يكن أمرا طارئا ، بل هو حصيلة ذنوب خفيّة ، تراكمت على القلب ، حتى ظهر أثرها في آخر حياته ، فانصرف القلب عن الله تبارك وتعالى ، وخُتم له بتلك الخاتمة السيئة، ويؤكد ما سبق ، ما جاء في الرواية الأخرى لهذا الحديث ( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ) ، وقديما قالوا : الخواتيم ميراث السوابق .
وفي المقابل قد يكون المرء بعيدا عن الله ، متبعا لخطوات الشيطان ، ثم تدركه عناية الله له في آخر حياته ، فيحيي الله قلبه ، وينشرح بالإيمان صدره ، ثم يُختم له بخاتمة السعادة .
وبالجملة فإن السائر إلى الله ينبغي أن يستصحب معه إيمانه بالقضاء والقدر ، ويكون وسطا بين الخوف والرجاء ، حتى يوافيه الأجل.

الحديث الثالث

 عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 
( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان )
 رواه البخاري ومسلم .


الشرح
الإسلام في حقيقته هو اتباع الرسل عليهم السلام فيما بعثهم الله به من الشرائع في كل زمان، فهم الطريق لمعرفة مراد الله من عباده ، فكان الإسلام لقوم موسى أن يتبعوا ما جاء به من التوراة ، وكان الإسلام لقوم عيسى اتباع ما أنزل عليه من الإنجيل ، وكان الإسلام لقومإبراهيم اتباع ما جاء به من البينات والهدى ، حتى جاء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ، فأكمل الله به الدين ، ولم يرتض لأحد من البشر أن يتعبده بغير دين الإسلام الذي بَعث به رسوله ، يقول الله عزوجل : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ( آل عمران : 85 ) ، فجميع الخلق بعد محمد صلى الله عليه وسلم ملزمون باتباع هذا الدين ، الذي ارتضاه الله لعباده أجمعين .

ومن طبيعة هذا الدين - الذي ألزمنا الله باتباعه - أن يكون دينا عالميا ، صالحاً لكل زمان ومكان ، شمولياً في منهجه ، متيناً في قواعده ، راسخاً في مبادئه ؛ ومن هنا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بين أيدينا بالبناء القوي ، والصرح العظيم ، ثم بين في الحديث الأركان التي يقوم عليها صرح الإسلام .

وأول هذه الأركان وأعظمها : كلمة التوحيد بطرفيها: " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " ، فهي المفتاح الذي يدخل به العبد إلى رياض الدين ، ويكون به مستحقاً لجنات النعيم ، أما الطرف الأول منها " لا إله إلا الله " فمعناه أن تشهد بلسانك مقرا بجنانك بأنه لا يستحق أحد العبادة إلا الله تبارك وتعالى ، فلا نعبد إلا الله ، ولا نرجو غيره ، ولا نتوكل إلا عليه ، فإذا آمن العبد بهذه الكلمة ملتزمًا بما تقتضيه من العمل الصالح، ثبته الله وقت الموت، وسدد لسانه حتى تكون آخر ما يودع به الدنيا، و ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة ) .

أما شهادة أن محمداً رسول الله ، فتعني أن تؤمن بأنه مبعوث رحمة للعالمين ، بشيراً ونذيراً إلى الخلق كافة ، كما يقول الله سبحانه : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } ( الأعراف : 58 ) ، ومن مقتضى هذه الشهادة أن تؤمن بأن شريعته ناسخة لما سبقها من الأديان ؛ ولذلك أقسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار ) رواه مسلم ، ومن مقتضاها أن تؤمن وتعتقد أن كل من لم يصدّق بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتّبع دينه ، فإنه خاسر في الدنيا والآخرة ، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، سواء أكان متبعا لديانة منسوخة أو محرفة أخرى ، أم كان غير متدين بدين ، فلا نجاة في الآخرة إلا بدين الإسلام ، واتباع خير الأنام عليه الصلاة والسلام .

ومن الملاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الشهادتين ركنا واحد ؛ وفي ذلك إشارة منه إلى أن العبادة لا تتم إلا بأمرين ، هما : الإخلاص لله : وهو ما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله ، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مقتضى الشهادة بأنه رسول الله .

الركن الثاني : إقامة الصلاة المفروضة على العبد ، فالصلاة صلة بين العبد وربه ، ومناجاة لخالقه سبحانه ، وهي الزاد الروحي الذي يطفيء لظى النفوس المتعطشة إلى نور الله ، فتنير القلب ، وتشرح الصدر .

وللصلاة مكانة عظيمة في ديننا ؛ إذ هي الركن الثاني من أركان الإسلام ، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة ، وقد فرضها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في أعلى مكان وصل إليه بشر ، وفي أشرف الليالي ، ففي ليلة الإسراء في السماء السابعة ، جاء الأمر الإلهي بوجوبها ، فكانت واجبة على المسلم في كل حالاته ، في السلم والحرب ، والصحة والمرض ، ولا تسقط عنه أبداً إلا بزوال العقل .

وكذلك فإنها العلامة الفارقة بين المسلم والكافر ، يدل على ذلك ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) رواه مسلم .

وثالث هذه الأركان : إيتاء الزكاة ، وهي عبادة مالية فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده ، طهرة لنفوسهم من البخل ، ولصحائفهم من الخطايا ، كيف لا ؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } ( التوبة : 103 ) ، كما أن فيها إحسانا إلى الخلق ، وتأليفا بين قلوبهم ، وسدا لحاجتهم ، وإعفافا للناس عن ذل السؤال .

وفي المقابل : إذا منع الناس زكاة أموالهم كان ذلك سببا لمحق البركة من الأرض ، مصداقاً لحديث بريدة رضي الله عنه : ( ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر ) رواه الحاكم والبيهقي ، وقد توعد الله سبحانه وتعالى مانعي الزكاة بالعذاب الشديد في الآخرة ، فقال تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } ( آل عمران : 180 ) ، وقد جاء في صحيح مسلم في شرح قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ( التوبة : 34 ) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة ، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ، فكان عقابه من الله بماله الذي بخل به على العباد .

الركن الرابع : صيام رمضان ، وهو موسم عظيم ، يصقل فيه المسلم إيمانه ، ويجدد فيه عهده مع الله ، وهو زاد إيماني قوي يشحذ همته ليواصل السير في درب الطاعة بعد رمضان ، ولصيام رمضان فضائل عدّة ، فقد تكفل الله سبحانه وتعالى لمن صامه إيمانا واحتسابا بغفران ما مضى من ذنوبه ، ، وحسبُك من فضله أن أجر صائمه غير محسوب بعدد .

أما خامس هذه الأركان : فهو الحج إلى بيت الله الحرام ، ، وقد فرض في السنة التاسعة للهجرة ، يقول الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ( آل عمران : 97 ) ، وقد فرضه الله تعالى تزكية للنفوس ، وتربية لها على معاني العبودية والطاعة، فضلاً على أنه فرصة عظيمة لتكفير الذنوب ، فقد جاء في الحديث : ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه ) رواه البخاري ومسلم .

وعلى هذه الأركان الخمسة ، قام صرح الإسلام العظيم ، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لكل ما فيه رضاه ، وأن يصلح أحوالنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .

الحديث الثاني

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : " يا محمد أخبرني عن الإسلام " ، فقال له : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) ، قال : " صدقت " ، فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : " أخبرني عن الإيمان " قال ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، قال : " صدقت " ، قال : " فأخبرني عن الإحسان " ، قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، قال : " فأخبرني عن الساعة " ، قال ( ما المسؤول بأعلم من السائل ) ، قال : " فأخبرني عن أماراتها " ، قال : ( أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان ) ثم انطلق فلبث مليا ، ثم قال : ( يا عمر ، أتدري من السائل ؟ ) ، قلت : "الله ورسوله أعلم " ، قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .


الشرح
هذا الحديث عظيم القدر ، كبير الشأن ، جامع لأبواب الدين كله ، بأبسط أسلوب ، وأوضح عبارة ، ولا نجد وصفا جامعا لهذا الحديث أفضل من قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) .

وقد تناول الحديث الذي بين أيدينا حقائق الدين الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان ، وهذه المراتب الثلاث عظيمة جدا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق عليها السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة ، وبين هذه المراتب ارتباط وثيق ، فدائرة الإسلام أوسع هذه الدوائر ، تليها دائرة الإيمان فالإحسان ، وبالتالي فإن كل محسن مؤمن ، وكل مؤمن مسلم ، ومما سبق يتبيّن لك سر العتاب الرباني على أولئك الأعراب الذين ادّعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، وهو لم يتمكّن في قلوبهم بعد ، يقول الله في كتابه : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ( الحجرات : 14 ) ، فدل هذا على أن الإيمان أخصّ وأضيق دائرةً من الإسلام .

وإذا أردنا التعمّق في فهم المراتب السابقة ، فإننا نجد أن الإسلام : هو التعبد لله سبحانه وتعالى بما شرع ، والاستسلام له بطاعته ظاهرا وباطنا ، وهو الدين الذي امتن الله به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وجعله دين البشرية كلها إلى قيام الساعة ، ولا يقبل من أحد سواه ، وللإسلام أركان ستة كما جاء في الحديث ، أولها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وفي الجمع بينهما في ركن واحد إشارة لطيفة إلى أن العبادة لا تتم ولا تُقبل إلا بأمرين : الإخلاص لله تعالى ، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في قوله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }( الكهف : 110 ) .

والملاحظ هنا أن الحديث فسّر الإسلام هنا بالأعمال الظاهرة ، وذلك لأن الإسلام والإيمان قد اجتمعا في سياق واحد ، وحينئذ يفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة كما أشرنا ، ويفسر الإيمان بالأعمال الباطنة من الاعتقادات وأعمال القلوب .

أما الإيمان فيتضمن أمورا ثلاثة : الإقرار بالقلب ، والنطق باللسان ، والعمل بالجوارح والأركان ، فالإقرار بالقلب معناه أن يصدق بقلبه كل ما ورد عن الله تعالى ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرع الحكيم ، ويسلّم به ويذعن له ، ولذلك امتدح الله المؤمنين ووصفهم بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } ( الحجرات : 15 ) ، ويقابل ذلك النفاق ، فالمنافقون مسلمون في الظاهر ، يأتون بشعائر الدين مع المسلمين ، لكنهم يبطنون الكفر والبغض للدين .

والمقصود بالنطق باللسان هو النطق بالشهادتين ، ولا يكفي مجرد الاعتراف بوجود الله ، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يتلفّظ بالشهادتين ، بدليل أن المشركين كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر ، كما قال عزوجل : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } ( يونس : 31 ) ، ولكنهم امتنعوا عن قول كلمة التوحيد ، واستكبروا : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } ( الصافات : 35 ) ، وها هو أبوطالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقر بنبوة ابن أخيه ، ويدافع عنه وينصره ، بل كان يقول:
                        ولقد علمت بأن ديـن محمد   من خير أديان البريّة دينـا
                        لولا الملامة أو حذار مسبّة   لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فلم ينفعه ذلك ، ولم يخرجه من النار ؛ لأنه لم يقبل أن يقول كلمة الإيمان ومفتاح الجنة ، ولهذا كانت هذه الكلمة هي التي تعصم أموال الناس ، وتحقن دماءهم ، ففي الحديث الصحيح : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله ) متفق عليه ، وقد أجمع العلماء على أن من لم ينطق الشهادتين بلسانه مع قدرته ، فإنه لا يُعتبر داخلاً في الإسلام .

أما العمل بمقتضى هذا الإيمان ، فهو قضية من أعظم القضايا التي غفل الناس عن فهمها ، فالإيمان لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل ، والشريعة مليئة بالنصوص القاطعة الدالة على ركنيّة العمل لصحّة الإيمان ، فقد قال تعالى : { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } ( النور : 47 ) ولا شك أن ترك العمل بدين الله من أعظم التولي عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وبهذا يتبين لك ضلال من ابتعد عن نور الله ، وترك العمل بشريعته ، فإذا نصحته بصلاة أو زكاة احتج لك بأن الإيمان في القلب ، ونسي أن العمل يصدق ذلك أو يكذبه - كما قال الحسن البصري رحمه الله - ، إذ لو كان إيمانه صادقا لأورث العمل ، وأثمر الفعل ، كما قيل :
                         والدعاوى ما لم يقيموا عليها   بينـاتٍ أصحابها أدعياء

وإذا كان الإيمان متضمنا لتلك الأمور الثلاثة ، لزم أن يزيد وينقص ، وبيان ذلك : أن الإقرار بالقلب يتفاوت من شخص لآخر ، ومن حالة إلى أخرى ، فلا شك أن يقين الصحابة بربهم ليس كغيرهم ، بل الشخص الواحد قد تمرّ عليه لحظات من قوة اليقين بالله حتى كأنه يرى الجنة والنار ، وقد تتخلله لحظات ضعف وفتور فيخفّ يقينه ، كما قال حنظلة رضي الله عنه : " نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا " ، إذاً فإقرار القلب متفاوت ، وكذلك الأقوال والأعمال ؛ فإن من ذكر الله كثيرا ليس كغيره ، ومن اجتهد في العبادة ، وداوم على الطاعة ، ليس كمن أسرف على نفسه بالمعاصي والسيئات.

وأسباب زيادة الإيمان كثيرة ، منها : معرفة أسماء الله وصفاته ؛ فإذا علم العبد صفة الله " البصير " ابتعد عن معصية الله تعالى ، لأنه يستشعر مراقبة الله له ، وإذا قرأ في كتاب الله قوله : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } اطمأن قلبه ، ورضي بقضاء الله وقدره ، ومنها : كثرة ذكر الله تعالى ؛ لأنه غذاء القلوب ، وقوت النفوس ، مصداقا لقوله تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ( الرعد : 28 ) ، ومن أسباب زيادة الإيمان : النظر في آيات الله في الكون ، والتأمل في خلقه ، كما قال تعالى : { وفي الأرض آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ( الذاريات : 20 - 21 ) ، ومنها : الاجتهاد في العبادة، والإكثار من الأعمال الصالحة .

ثم تناول الحديث - الذي بين أيدينا - مرتبة الإحسان ، وهي أعلى مراتب الدين وأشرفها ، فقد اختص الله أهلها بالعناية ، وأيدهم بالنصر ، قال عزوجل : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ( النحل : 128 ) ، والمراد بالإحسان هنا قد بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، وهذه درجة عالية ولا شك ، لأنها تدل على إخلاص صاحبها ، ودوام مراقبته لله عزوجل .

ثم سأل جبريل عليه السلام عن الساعة وعلاماتها ، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مما اختص الله بعلمه ، وهي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ، لكنه بين شيئا من أماراتها ، فقال : ( أن تلد الأمة ربتها ) ، يعني أن تكون المرأة أمة فتلد بنتا ، وهذه البنت تصبح سيدة تملك الإماء ، وهذا كناية عن كثرة الرقيق ، وقد حصل هذا في الصدر الأول من العهد الإسلامي .
أما العلامة الثانية : ( وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان ) ، ومعناه أن ترى الفقراء الذين ليسوا بأهل للغنى ولا للتطاول ، قد فتح الله عليهم فيبنون البيوت الفارهة ، والقصور الباهرة ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا علما نافعا ، وعملا صالحا متقبلا ، والحمد لله رب العالمين .


الحديث الاول

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : 
( إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امريء مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) 
رواه البخاري ومسلم في صحيحهما .


الشرح
لقد نال هذا الحديث النصيب الأوفر من اهتمام علماء الحديث ؛ وذلك لاشتماله على قواعد عظيمةٍ من قواعد الدين ، حتى إن بعض العلماء جعل مدار الدين على حديثين : هذا الحديث ، بالإضافة إلى حديث عائشة رضي الله عنها : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ؛ ووجه ذلك : أن الحديث السابق ميزان للأعمال الظاهرة ، وحديث الباب ميزان للأعمال الباطنة .

والنيّة في اللغة : هي القصد والإرادة ، فيتبيّن من ذلك أن النيّة من أعمال القلوب ، فلا يُشرع النطق بها ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلفظ بالنية في العبادة ، أما قول الحاج : " لبيك اللهم حجًّا " فليس نطقاً بالنية ، لكنه إشعارٌ بالدخول في النسك ، بمعنى أن التلبية في الحج بمنـزلة التكبير في الصلاة ، ومما يدل على ذلك أنه لو حج ولم يتلفّظ بذلك صح حجه عند جمهور أهل العلم .

وللنية فائدتان : أولاً : تمييز العبادات عن بعضها ، وذلك كتمييز الصدقة عن قضاء الدين ، وصيام النافلة عن صيام الفريضة ، ثانياً : تمييز العبادات عن العادات ، فمثلاً : قد يغتسل الرجل ويقصد به غسل الجنابة ، فيكون هذا الغسل عبادةً يُثاب عليها العبد ، أما إذا اغتسل وأراد به التبرد من الحرّ ، فهنا يكون الغسل عادة ، فلا يُثاب عليه ، ولذلك استنبط العلماء من هذا الحديث قاعدة مهمة وهي قولهم : " الأمور بمقاصدها " ، وهذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه .

وفي صدر هذا الحديث ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) ، أي : أنه ما من عمل إلا وله نية ، فالإنسان المكلف لا يمكنه أن يعمل عملاً باختياره ، ويكون هذا العمل من غير نيّة ، ومن خلال ما سبق يمكننا أن نرد على أولئك الذين ابتلاهم الله بالوسواس فيكررون العمل عدة مرات ويوهمهم الشيطان أنهم لم ينووا شيئا ، فنطمئنهم أنه لا يمكن أن يقع منهم عمل باختيارهم من غير نيّة ، ما داموا مكلفين غير مجبرين على فعلهم .
ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإنما لكل امريء ما نوى ) وجوب الإخلاص لله تعالى في جميع الأعمال ؛ لأنه أخبر أنه لا يخلُصُ للعبد من عمله إلا ما نوى ، فإن نوى في عمله اللهَ والدار الآخرة ، كتب الله له ثواب عمله ، وأجزل له العطاء ، وإن أراد به السمعة والرياء ، فقد حبط عمله ، وكتب عليه وزره ، كما يقول الله عزوجل في محكم كتابه : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) .

وبذلك يتبين أنه يجب على الإنسان العاقل أن يجعل همّه الآخرةَ في الأمور كلها ، ويتعهّد قلبه ويحذر من الرياء أو الشرك الأصغر ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى ذلك : ( من كانت الدنيا همّه ، فرّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له ، ومن كانت الآخرة نيّته ، جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ) رواه ابن ماجة .

ومن عظيم أمر النيّة أنه قد يبلغ العبد منازل الأبرار ، ويكتب له ثواب أعمال عظيمة لم يعملها، وذلك بالنيّة ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما رجع من غزوة تبوك : ( إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيراً ، ولا قطعتم وادياً ، إلا كانوا معكم ، قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة ، حبسهم العذر ) رواه البخاري .
ولما كان قبول الأعمال مرتبطاً بقضية الإخلاص ، ساق النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ليوضح الصورة أكثر ، فقال : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، وأصل الهجرة : الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أو من دار المعصية إلى دار الصلاح ، وهذه الهجرة لا تنقطع أبداً ما بقيت التوبة ؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي في السنن ، وقد يستشكل البعض ما ورد في الحديث السابق ؛ حيث يظنّ أن هناك تعارضاً بين هذا الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ) كما في " الصحيحين " ، والجواب عن ذلك : أن المراد بالهجرة في الحديث الأخير معنىً مخصوص ؛ وهو : انقطاع الهجرة من مكة ، فقد أصبحت دار الإسلام ، فلا هجرة منها .
على أن إطلاق الهجرة في الشرع يراد به أحد أمور ثلاثة : هجر المكان ، وهجر العمل ، وهجر العامل ، أما هجر المكان : فهو الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وأما هجر العمل : فمعناه أن يهجر المسلم كل أنواع الشرك والمعاصي ، كما جاء في الحديث النبوي : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) متفق عليه ، والمقصود من هجر العامل : هجران أهل البدع والمعاصي ، وذلك مشروط بأن تتحقق المصلحة من هجرهم ، فيتركوا ما كانوا عليه من الذنوب والمعاصي ، أما إن كان الهجر لا ينفع ، ولم تتحقق المصلحة المرجوّة منه ، فإنه يكون محرماً .
ومما يُلاحظ في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصّ المرأة بالذكر من بين متاع الدنيا في قوله : ( أو امرأة ينكحها ) ، بالرغم من أنها داخلة في عموم الدنيا ؛ وذلك زيادة في التحذير من فتنة النساء ؛ لأن الافتتان بهنّ أشد ، مِصداقاً للحديث النبوي : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) متفق عليه ، وفي قوله : ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، لم يذكر ما أراده من الدنيا أو المرأة ، وعبّر عنه بالضمير في قوله : ( ما هاجر إليه ) ، وذلك تحقيراً لما أراده من أمر الدنيا واستهانةً به واستصغاراً لشأنه ، حيث لم يذكره بلفظه .