الأربعاء، 25 مارس 2015

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)

سورة البقرة (من اية 253 الى آخر السورة)

آيـة الكـرسـيّ :
إذَا أَجْريْنَـا المُقَـارَنَةَ التَـالِـيَةَ :
بين : ( اللَّهُ نُورُ الـسَـمَـاواتِ وَالأرْضِ)[ النور 35 ] وَ : ( وَسِـعَ كُـرْسِيُّهُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ )[ البقرة 255 ] ، و بين : ( إنَّ اللّـهَ يُمْـسِـكُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ أنْ تَزولاَ ) [ فاطر 41 ] و : ( وَلا يَؤُودُهُ حِـفْظُـهُـمَـا )[ البقرة 255 ] .
يَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ : الكُرْسيّ هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ
إذَاً الكُرْسِـيّ : هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ التي يَحْفَظُ بِهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ السَماواتِ وَ الأَرْضِ مِنَ الزَوالِ عَنْ طَريقِ [ الأَمْـرِ ] : الذي يُمَثِّلُ الطَـاقَةَ الهَـائِلَةَ الكُلّيَةَ التي يُحَرِّكُ بِهَا الخَالِقُ كُلَّ مَـا خَلَقَ ، لِذَلِكَ : ( أَلاَ لَـهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الـعَـالَـمينَ )[ الأعراف 54 ] .
وَ عَنْ طَريقِ الأَمْـرِ [ القُدْرَةُ الكليّةُ ] يُديرُ اللّهُ أُمُورَ الكَوْنِ : ( وَ أَوْحَـى فـي كُـلِّ سَـمَـاءٍ أَمْـرَهَـا )[ فصلت 12 ] ، وَ عَنْ طَريقِ الأَمْرِ يَكُونُ [ كُنْ ] : ( إنَّمَـا أمْــرُهُ إذا أرَادَ شَـيْئـاً أَنْ يَقُولَ لَـهُ كُـنْ فـَيَكُـونُ )[ يس 82 ] ، ( وَ يَوْمَ يَقُـولُ كُـنْ فَيَـكُـونُ قَـوْلُــهُ الـحَـقُّ )[ الأنعام 72 ] ،لأنَّ : اللّهَ سُبحَانَهُ مُمْسِـكٌ بِكُلِّ خُـيُوطِ الطَـاقَةِ في الكَونِ ، لِذَلِكَ يَسْتَطيعُ اللّهُ وَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْ يُوجِدَ مَا يَشَاءُ بِأَجْزاءٍ مِنَ الثَانِيَةِ ، حَيْثُ الحَقيقَةُ العِلْمِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الإرادَةَ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ [ الكَافِ وَ النُونِ بِكَلِمَةِ كُنْ ] ، وَ لَيْسَ بَيْنَ [ الكَافِ وَ النُونِ ] ، لأَنَّ لَفْظَ حَرْفِ الكَافِ يَأْخُذُ ثانِيَةً ، وَ هَذَا زَمَنٌ طَويلٌ جِدَّاً بالنِسْبَةِ لِسُرْعَةِ الضَوْءِ .
.
مَدينَـةُ بـابِـلْ
مَدينَةٌ قديمةٌ تَقَعُ عَلى بُعْدِ 90 كيلو متْراً جنُوبَ غَرْبِ بَغْدادَ في العِراقِ ، وَ مَعْـنى اسْمها : [ بابُ الإلهِ _ بابُ إيلْ ] ، وَ قَدْ وَرَدَ اسْمها في القرْآنِ الكريمِ بَقَوْلِهِ تعالى : ( وَ مَا أُنْزِلَ عَـلى الـمَـلَـكَـيْنِ بِـبَابِـلَ )[ البقرة 102 ] ، وَ يُنْسَبُ لها أُسْـطورَةُ التَكْوين البابليّ .
مِنْ أشْـهَرِ مُلوكِهـَا نَمْـرود الذي كانَ صَيَّـاداً في بدايَـةِ حياتِـهِ ، ثُـمَّ عْطاهُ اللهُ المُلْكَ ، فأسَّـسَ الإمبراطوريّةَ البابليّةَ ، وَ هُوَ الذي حَاجَّ إبْراهيمَ علَيْهِ السلامُ في رَبِّهِ : ( أَ لَـمْ تـَرَ إلى الـذّي حَـاجَّ إبراهـيمَ في رَبِّـهِ أَنْ آتاهُ اللَّـهُ الـمُـلْـكَ ... قالَ أنَا أُحْـيـي وَ أُمِـيْـتُ )[ البقرة 258 ] ، فَقَدْ كانَ جَبّاراً و كافراً .
.
( فَـبُهِـتَ الـذي كَـفَرَ )[ البقرة 258 ]
مِنَ المُثِيرِ لِلدَهْشَةِ أَنَّ إبراهيمَ عليهِ السلام ، كَانَ أَوَّل مَنْ أَدْرَكَ الحَقيقَةَ العِلمِيَّةَ : [ مَـبْدَأَ العَطَالَةِ وَ القُصُورِ الذَاتيِّ ] ، وَ ذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ حَديثِهِ مَعَ الكَافِرِ الذي حَاجَّهُ في رَبِّهِ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ فَإنَّ اللّـهَ يَأْتي بِالـشَـمْـسِ مِـنَ الـمَـشْـرِقِ فَأْتِ بِهَـا مِـنَ الـمَـغْـرِبِ فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ )[ البقرة 258 ]
أيْ طَلَبَ مِنْهُ إبراهِيمُ أنْ يَعْكِسَ دَوران الأَرْضِ كَيْ تَأْتي الشَمْسُ مِنَ المَغْرِبِ ، فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ لأَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعَ الأَرْضِ جُمْلَةً فيزيائِيَّةً وَاحِـدَةً فَمْهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإنَّهَا قُوَّةٌ دَاخِلِيَّةٌ بالنِسْبَةِ للجُمْلَةِ الفيزيَائِيَّةِ ، وَ مُحَصِّلَتُهَا = 0 ،
نُلاَحِظُ أَنَّ الذي كَفَرَ ، بُهِتَ فَقَطْ عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ إبراهيمُ عَكْسَ اتِّجَاهِ دَورانِ الأَرْضِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُبْهَتْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إبْراهيمُ : ( إنَّ رَبِّي يُحْـيي وَ يُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، بَلْ قَالَ : ( أنَا أُحْـيي وَ أُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، فَأحْضَرَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِإعْدَامِ أَحَدِهِمَا وَ إبْقَاءِ الآخَرَ حَيَّاً ، وَ قَالَ لإبْراهِيم : هَكَذَا أَنـا أُحْيي وَ أُمِيْتُ ، لِذَلِكَ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ رَبِّ أَرِني كَــيْفَ تُحْـيي الـمَـوتـى )[ البقرة 260 ] ، كَيْ يَرى هَذا الكَافِرُ كَيْفَ يَكُونُ إحْيَاءُ الموتى ، فكان الردّ الإلهيّ : ( قال فَخُـذْ أَرْبَعَـةً مِـنَ الـطَـيْرِ فَصُـرْهُـنَّ إلَـيْكَ ثُمَّ اجْـعَـلْ عَـلـى كُـلِّ جَـبَلٍ مِـنْهُـنَّ جُـزْءاً ثُمَّ ادْعُـهُـنَّ يَأْتِيْنَكَ سَـعْـيَاً )[ البقرة 260 ] .
.
الـقُـدْسُ وَ الـمُـقَـدّسُ :
تَعْـني مَنْ يَمْنَحُ الحَيَاةَ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ عَجَبَ أنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْضَرَ مُوسى إلى الوادِي المُقَدَّسِ : ( إنَّكَ بالـوادِ الـمُـقَدَّسِ طُـوى )[ طه 12 ] ، حَيْثُ تَحَوَّلتِ العَصَـا إلى حَيَّةٍ تَسْعَى ، وَ حِيْنَ هَدَّمَ القُدْسَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ [ نَبُو خَذِّ نَصَّرْ ] عَام 585 قبل الميلادِ ، مَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ فاسْتَغْرَبَ عَوْدَتَها للحَيَاةِ : ( أوْ كَـالـذي مَـرَّ عَـلـى قَـرْيَةٍ وَ هِـيَ خَـاوِيَةٌ عَـلى عُـروشِهَـا فَقَالَ أنَّى يُحْي هَذِهِ اللّـهُ بَعْـدَ مَـوْتِهَـا فَأمَـاتَهُ اللّـهُ مِـئَةَ عَـامٍ ثُمَّ بَعَـثَهُ ) [ البقرة 259 ] ، لِيَرى أنَّ القُدْسَ قَدْ عَادَتْ للحَياةِ ، كَمَا أنَّ القُدْسَ وَالمُقَدَّسَ يَمْنَحُ البَرَكَةَ حَوْله : ( الـمَـسْـجِـدِ الأقْصَـا الـذي بَارَكْـنَا حَـوْلَـهُ )[ الإسراء 1 ] .
.
( الـشَـيْطَـانُ يَعِـدُكُـمُ الـفَقْـرَ )[ البقرة 268 ]
وَ الفَقْـرُ لَـهُ أَشْكَالٌ عَديدَةٌ : المَاليّ وَ العِلْميَّ وَ الصِحيّ وَ الإجتماعيّ 000 ، وَ كُلُّ أنْواعِ الفَقْر ِهَذه مَوْجُودَةٌ مَعَ الأَسَفِ في المُجْتَمَعِ العربيّ و الإسْلاميِّ .
وَ الـذي لاَ يَعِيشُ عَصْـرَهُ وَ يَتَفاعَـلُ مَعَـهُ ، هُوَ في خُـسْرٍ : ( وَ الـعَـصْـرِ إنَّ الإنْسَـانَ لَـفـي خُـسْـرٍ )[ العصر 1 ] ، و العصـرُ هو : العصر الذي يَعيشُ بِـهِ الإنْسَانُ .
وَ نِسْـبَةُ الأُمِيَّـةِ في المُجْتَمَعِ العَربيِّ مُخِيفَـةٌ ، وَ نظـافةُ النَصّ المحفوظِ [ القُرآنُ الكريمُ ] ، لـمْ تنتقلُ إلى [ نظـافَةِ الفهْـم ] ، وَ نظـافَةِ الأخلاقِ و البيْئةِ و السلوكِ ، فبقيَتْ هذه الأمّة في [ فقْـرهـا ] العلميّ و الحضاريّ ... ، و هـذا مَا يُريْدُه الشـيْطانُ .
.
فَـنَـظِـرةٌ إلى [ مَـيْسَـرة ] :
( وَ إنْ كَـانَ ذُو عُـسْـرَةٍ فَنَظِـرَةٌ إلـى مَـيْسَـرَةٍ )[ البقرة 280 ] ، وَ [ مَيْسَرَة ] مُنْتَهى اليُسْـرِ وَ لَيْسَ اليُسْرُ العَاديُّ ، فعلى الدائن انتظار المدين حتى يُصبح في ميسَرة و يحلّ جميع مشاكله المالية ، ثُمّ يُطالبه بالدين .
يُصَاغُ الاسْمُ في اللُّغَةِ عَلى وَزْنِ [ مَفْعَلَة ] لِلدَلاَلَةِ عَلى الكَثْرَةِ ، فَحَيْثُ تَكْثُرُ الدِراسَةُ
[ مَدْرَسَة ] ، وَ حَيْثُ يَكْثُرُ العِراكُ [ مَعْرَكَة ] وَ حَيْثُ تَكْثُرُ القُبُورُ [ مقْبَرَة ] وَ حَيْثُ يَكْثُرُ الطَحْنُ [ مَطْحَنَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الكُتُبُ [ مَكْتَبَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الطِباعَةُ [ مَطْبَعَة ] ، وَ هَكَذَا نَجِدُ في القُرْآنِ الكَريمِ ، الكَثيرَ مِنَ الأَمْثِلَةِ :
( أَوْ إطْـعَـامٌ في يَوْمٍ ذِي مَـسْـغَـبَةٍ )[ البلد 14 ] وَ المَسْغَبَةُ : الجُوعُ الشَديدُ ، وَ المَخْمَصَةُ : المَجَاعَةُ ( فَمَـنِ اضْـطُـرَّ في مَـخْـمَـصَـةٍ )[ المائدة 3 ] ، وَ كَثْرَةُ الرَحْمَةِ [ مَرْحَمَة ] : ( الـذينَ آمَـنُوا وَ تَواصَـوْا بِالـصَـبْرِ وَ تَواصَـوْا بِالـمَـرْحَـمَـةِ )[ البلد 17 ] ، كَمَا أنَّ كَثْرَةَ الشُؤْمِ [ مَشْأَمَة ] : ( وَ الذينَ كَفَروا بِآيَاتِنَا هُـمْ أصْـحَـابُ الـمـَشْأَمَةِ )[ البلد 19 ] .
.
المُحكـمـات و الـمـتشـابهات :
( هُـوَ الـذي أنْزَلَ عَـلَـيْـكَ الـكِـتَابَ مِـنْهُ آيَاتٌ مُـحْـكَـمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الـكِـتَابِ وَ أُخَـرُ مُـتَشَـابِهَـاتٌ فَأمَّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُـونَ مَـا تَشَـابَهَ مِـنْهُ )[ آل عمران 7 ]
نُلاَحِظُ أنَّ بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، قَدْ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأُولى أنَّهَا تُعَارِضُ بَعْضَهَا بَعْضَاً مِثْل : ( فَيَوْمَـئِـذٍ لاَ يُسْـأَلُ عَـنْ ذَنْبِهِ إنْـسٌ وَ لاَ جَـانٌ )[ الرحمن 39 ] ، وَ بَيْنَ : ( فَوَ رَبِّكَ لَـنَسْـأَلَـنَّهُـمْ أَجْـمَـعِـينَ )[ الحجر 92 ] ، وَ لَكِنْ : الآية الثانية هي [ مُحْكمة ] و الأولى [ مُتشابهة ] ، أيْ لا بُدّ من سؤال جميع الناس عن أعمالهم ، و الآية الأولى تتحدّث عن [ بداية ] يوم الحساب ، و لكن بعد ذلك سيتمّ سؤال الجميع ، فلا تعارض بين الآيتين الكريمتين ، لذلك يجب ردّ الآيات [ المُتشابهات ] إلى الآيات [ المُحكمات ] ، فالذينَ في عقولهم [ زيْغٌ = نقص ] هُم وحدهُم الذين يتّبعون فقط الآيات [ المُتشابهات ] من أجْل إثارة الفتنة .
.
شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ :
إنَّ شَهَادَةَ : [ لا إلـهَ إلاَّ اللّـهُ ] هيَ أسَاسُ إسْلاَمِ الإنْسَانِ ، وَ بِدُونِهَا يَكُونُ الإنْسَانُ مُشْرِكَاً ، وَهِيَ شَـهَادَةٌ يَشْهَدُهَا المُسْـلِمُ عَلى أَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ كُلِّهِ إلاَهَـاً آخَـرَ ، و بمـا أنّ : [ اللّـهُ أَكْـبَرُ ، اللّـهُ أَكْـبَرُ ] ، لِذَلِكَ فَإنَّ اللّهَ وَحْدَهُ قد أعطانا هَذِهِ الحَقيقَةَ بِأَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ إلَهٌ سِواهُ ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ شَـهِدَ بِذَلِكَ : ( شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ وَ الـمَـلائِـكَـةُ وَ أُولـُوا الـعِـلْـمِ قَائِـمَـاً بالـقِسْـطِ )[ آل عمران 18 ] ، إذَاً نَحْنُ نَشـهَدُ على شَـهَادَةِ اللّه بِأنَّـهُ : [ لا إلـهَ في الوجودِ كلِّـهِ إلاَّ اللّـهُ ] ، وَ لَمَّـا وَصَلَتْنَـا هَذِهِ الحَقيقَةُ عَنْ طَريقِ الرَسُولِ صلى الله عليه و سلم ، فَلاَ بُـدَّ مِنْ إتْمَـامِ الشَـهَادَةِ بالاعْتِرافِ بِـهِ رَسُـولاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ، فَكَانَتِ الشَهَادَّةُ التَـامَّةُ : [ أَشـهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ وَ أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللّهِ ] .

كل هذا والله اعلم .