الثلاثاء، 17 مارس 2015

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)




ســورة البـقـرة (من اية 1 الى 141)

هِيَ أطْوَلُ السُوَرِ المَدَنيَّةِ ، ترتيبُهَا في المُصْحَفِ [ 2 ] ، وَ تَرْتيبُ نُزُولِهَـا [ 87 ] حيثُ نزلت قبل سورة الأنفال و بعد سورة المطففين ، وَ عَدَدُ آيَاتِهَا [ 286 ] آيَة ،

إنّ بداية سورة البقرة و خاصّةً الصفحة المُقابلة لسورة الفاتحة ، تُحدّد صفات [ المتّقين ] الذين سيكونون هُم [ المفلحون ] يوم الحساب ، و الكَلِمَاتِ الأولى مِنْ كِتَابِ اللّهِ هيَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ لاَ رَيْـبَ فِـيـهِ )[ البقرة 2 ] ، نُلاحِظُ أنَّهُ قَالَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ ) ، وَ لَمْ يَقُلْ : [ هَـذا الكِتَابُ ] ، لأنَّ : ( ذلِكَ ) تُفيدُ البُعْـدَ ، أيْ أنَّ : كِتَابَ القُرْآنِ الكريمِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ( لا رَيْبَ فِيهِ ) ، وَ لَنْ يَسْتَطيعَ أحَدٌ إيجَادَ أيِّ رَيْبٍ فيهِ ، حَتَّى في رَسْمِ كَلِمَاتِهِ كَكِتابٍ ، بالرَغْمِ مِنْ تَنَوّعِ مَواضِيعِهِ في شَتّى المَجالاتِ كالتَشْريعِ وَ الفَلَكِ وَ الطبِّ وَ الطبيعَةِ .... .

و تُعتبر سورة البقرة [ مُلَخَّصَاً ] لِكُلِّ القُرْآنِ الكَريمِ ، لِذَلِكَ كَانَ الصَحَابَةُ الكِرامُ عليهم رضوان الله جميعاً ، يَحْرَصُونَ عَلى حِفْظِهَا غَيْبَاً وَ كَانُوا يُدْعَوْنَ : [ أصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ ] ، وَ تَبْدَأُ السُورَةُ بِبِيَانِ سُبُلِ الهِدايَةِ [ الآيات مِنْ 1 إلى 8 ] ، ( بَعْدَ أنْ وَرَدَ في سُورَةِ الفَاتِحَةِ آية : ( اِهْدِنا الصِراطَ المُسْتَقيمَ ) .

ثُمَّ تُوضِحُ السُورَةُ أنَّهُ سَيَكُونُ هُناكَ مُنافِقُونَ يَتَظَاهَرونَ بالإيْمَانِ ، وَ أنَّ هُناكَ طَائِفَة إيْمَانُهَا ضَعيفٌ تُحَاوِلُ إقَامَةَ عَلاقَاتٍ سِرِيَّةٍ مِعَ هَؤلاَءِ المُنافِقِينَ [ الآيات مِنْ 9 إلى 21 ] ، وَ أنَّ عَلى كُلِّ شَخْصٍ أنْ يَصِلَ بِمَعُونَةِ القُرْآنِ إلى رَبِّهِ ، وَ إذَا كَانَ يَتَّبِعُ غَيْرَ دِينِ القُرْآنِ ، فَعَليْهِ أنْ يُقَارِنَ دِينَهُ مَعَ دِينِ القُرْآنِ ، وَ إذَا رَفَضَ المُقَارَنَةَ وَ الحُجَّةَ وَ قِياسَ صِدْقِ القُرْآنِ مَعَ صِدْقِ الكُتُبِ السَماويَّةِ السَابِقَةِ ، فَلاَ مَفَرَّ مِنْ عَذَابِ النَارِ ، فَلِمَاذَا يَخْلُقُونَ الأَعْذَارَ لِعَدَمِ قَبُولِ الحَلَقَةِ الأَخيرَةِ لِنِظَامِ الارْتِقَاءِ الإيْمَانيِّ [ الآيات مِنْ 22إلى 30 ] ، ثُمَّ تَذْكُرُ الحَلَقَةَ الأولى مِنَ السِلْسِلَةِ وَهُوَ آدَمُ عليه السلام ، فالذينَ احْتَرَمُوا آدَمَ مَلاَئِكَةٌ ، وَ الذينَ لَمْ يَحْتَرِمُوه ُشَيَاطِينٌ [ الآيات مِنْ 31 إلى 40 ] ، وَ أنَّ اللّهَ قَدْ أرْسَلَ رُسُلاً تَتْـرا ، وَ مِثَالُ مُوسى عليه السلام لَيْسَ بِبَعيدٍ ، ثُمَّ تُفَنِّدُ السُورَةُ حُجَجَ وَ جِدَالَ المنافقين عَلى تَحْويلِ القِبْلَةِ وَ غَيْرِهَا ، [ الآيات مِنْ 123إلى 153 ] ، وَ في النِصْفِ الثَاني مِنَ السُورَةِ تَتَوَضَّحُ جَميعُ الأَحْكَامِ وَ العِبادَاتِ الإسْلاَمِيَّةِ بَدْأً مِنَ الآيَةِ 214 : ( يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ ) ، ثُمَّ تُخْتَتَمُ السُورَةُ بِأفْضِلِ الأدْعِيَةِ .

.

اسـتوقـد نـاراً :

إنّ كلمة [ استوقد ] تختلف عن كلمة [ أوقد ] ، فكلمة [ أوقد ] تُستخدم للنار المعروفة : ( فَـأَوْقِـدْ لِـي يَا هَـامَـانُ عَـلـى الـطِـيْنِ )[ القصص 38 ] ، أمّـا كلمة [ استوقد ] فهي لنـار [ الحقد و الكراهية ] للآخرين ، و هذا يضع الجسم في حالَةِ [ الحُموضَةِ ] وَ يُذْهِبُ الطاقَة للشخص والذين يُحيطون بـه ، لذلك تقول الآية : ( مَـثَلُـهُـمْ كَـمَـثَلِ الـذي اِسْـتَوْقَـدَ نَاراً فَلَـمَّـا أَضَـاءَتْ مَـا حَـوْلَـهُ ذَهَـبَ اللّـهُ بِنُورِهِـمْ )[ البقرة 17 ] ، و لم تقُل : [ بنـوره ] .

.

جـاعـل في الأرض خـليفة :

كَانَ الملائكَـةُ يُراقِبُـونَ مَـا يَجْري عَلى الأرض ، دُونَ أيِّ سؤالٍ لِلخالِـقِ عَمّـا يَجْري فيهَـا ، إلى أنْ : ( قالَ ربُّكَ لِلـمَـلائِـكَـةِ إنّي جَـاعِـلٌ في الأَرْضِ خَـلـيفَةً ) [ البقرة 30 ] و كلمة [ جَـاعِـلٌ ] بِصِيغَةِ [ فاعِـلْ ] ، للدَلاَلَةِ على أنَّ الأمْرَ قَدْ أصْبَحَ واقِعَاً ، فالخَليفَةُ مَوْجُودٌ فِعْـلاً وَ يَحْتَاجُ فَقَطْ للتكليف ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ : سَـأجْعَلُ ، أيْ : قاصِداً آدَمَ عليه السلام مِنْ بَيْنِ كُلِّ المخْلوقاتِ الأُخْرى عَلى الأرْضِ ، فَقَدِ اخْتَـارَ اللهُ آدَمَ اِخْتياراً مِنْ بَيْنِها : ( إنَّ اللَّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ )[ آل عمران 33 ] ، عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَغْرَبَ الملائِكَةُ هَذا الاخْتِيَارَ : ( قَالوا أَتَجْـعَـلُ فيهَـا مـَنْ يُفْسِـدُ فيهَـا وَ يَسْـفِكُ الـدِمَـاءَ )[ البقرة 30 ] ، و كلمتيْ : [ يُفْسِـدُ ] و [ يسفك ] فعل مضارع يدل على الحاضر و ليس على المستقبل ، لأَنّهمْ كانوا يُراقِبونَ تَصَرّفاتِ آدَمَ عَلى الأرْضِ مِنْ تَخريبٍ للبيئَـةِ ، وَ لَمْ يكُنِ الأمْرُ غيبيًا علَيهم لأنّـهُ لاَ يعْلَمُ الغَيْبَ إلاّ اللّـه سُبْحَانَهُ : ( وَ عِـندَهُ مَـفَاتِحُ الـغَـيْبِ لاَ يَعْـلَـمُـهَـا إلاَّ هُـوَ ) [ الأنعام 59 ] ، وَ لأنَّ الفَسَادَ في الأرْضِ سَبَبُهُ الإنْسَانُ فَقـطْ : ( ظَـهَـرَ الـفَسَادُ في الـبَرِّ والـبَحْـرِ بِمَـا كَـسَـبَتْ أَيْدي الـنَاسُ) [ الروم 41 ] ، أيْ أنَّ ظُهورَ الفَسَـادِ في الأرْضِ تَـوافَقَ مَعْ ظُهُورِ الإنْسَـانِ عليْهَا .

و معنى كلمة [ خليفةً ] ، أيْ : يخلُفُ بعضه بعضاً ، و ليس خليفة لله سبحانه ، لأنّ سبحانه ليس له خليفة .

.

علّم آدم الأسماء كلّهـا :

إنَّ أهَمَّ مَا نُقَابِلُ مِنَ المُفْرَداتِ اللّغَويَّةِ ، هيَ : [ الأسْـماءُ ] ، وَ التَسْـمِيَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اعْتِباريّةٍ ، فَيُمْكِنُنا إطْلاقُ أيِّ رَمْـزٍ أَوْ مُصْطَلَحٍ [ اسْم ] نُريْدُ عَلى عُنْصُـرٍ مَـا ، مِثْلَ تَسْـمِيَةِ الأوْلادِ المَواليْد ، وَ مِنَ الأفْضَلِ أنْ يَدُلَّ الاسْـمُ على تَعْريْفِ المُسَـمّى ، لِذَلِكَ يَجِبُ أنْ يُعَلَّـمَ الاسْمُ تَعْليْمـاً : ( وَ عَـلَّـمَ آدَمَ الأسْـمَـاءَ كُـلَّـهَـا )[ البقرة 30 ] ، فَاللّـهُ سُبْحانَهُ قد [ عَلَّمَ ] وَ لَيْسَ [ لَقَّنَ ] آدَمَ : [ الإنْسانُ الأوَّلُ ] جَميعَ الأسْماءِ ، لأنَّ الأسْـماءَ [ فِطْرِيَّـةٌ ] لَدى الإنْسَانِ ، وَ لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً ، فاللّغَةُ مَوْجُودَة في الطَبيعَةِ وَ لَوْ لَمْ يُوجَدُ الإنْسَانُ ، فَكُلُّ طِفْلٍ وَ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ يَكُونُ مُزَوَّداً بِمبادىءِ النَحْوِ العالميِّ ، وَهَذَا مَا يَسْمَحُ لَهُ بِتَعَلُّمِ أيِّ لُغَـةٍ يَحْتَكُّ بِها في مُحيطِهِ الإنْسانيِّ ، وَ هَذِهِ المَبادىءُ جُزْءٌ مِنَ [ الطبيْعَةِ الإنْسانيَّةِ ] التي تَنْتَقِلُ وِراثِيّاً مِنَ الآباءِ إلى الأبْناءِ : ( وَاخْـتِلافُ ألْـسِـنَتِـكُـمْ وَألْـوانِـكُـمْ إنَّ في ذَلِـكَ لآيَاتٍ لِلْـعَـالَـمِـيْن )[ الروم 22 ] .

فالمَطْلُوبُ هُوَ إيْجادُ [ نظريّة لُغَويّة ] جديْدة تُضِيْفُ أسْماءً وَ معان جديْدة ، وَ لِكُلِّ الأفعالِ اللغويّة ، عِنْدَ ذَلِكَ نَجِدُ أنَّ اللّغَةَ العربيّةَ وَحْدها القادِرَة على اسْتيعابِ جَميعِ الأسْماءِ وَ المُصْطلحاتِ التي تَظْهَرُ مَعَ التَقَدُّمِ العِلميِّ الهائِلِ ، وَ هَذا ما أدْرَكَهُ بِوَعْيٍ شَاعِرُ النيلِ [ حافِظ إبراهيم ] قائِلاً باسمِ اللّغَةِ العربية :

فَكَيْفَ أَضِيْقُ اليَـوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَـةٍ وَ تَنْسِـيْقِ أسْـماءٍ لِمُخْتَـرعـَاتِ

دعـاء إبراهيم عليه السلام :

لَقَدْ كَانَ دُعَـاءُ أبينَـا إبراهيمُ عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَـثْ فِيْهِـمْ رَسُـولاً مِـنْهُـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـكَ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَالـحِـكْـمَـة وَ يُزَكِّـيْهِـمْ )[ البقرة 129 ] ، وَ لكِنَّ اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ على هَذِهِ الأُمَّةِ : ( لَـقَـدْ مَـنَّ اللّـهُ عَـلَـى الـمُـؤْمِـنينَ إذْ بَعَـثَ فِيهِـمْ رَسُـولاً مِـنْ أَنْفُسِـهِـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـهِ وَ يُزَكِّـيْهِـمْ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَ الـحِـكْـمَـةَ )[ آل عمران 164 ] ، حَيْثُ نُلاحِظُ أنَّ اللّهَ اسْتَجابَ دُعَاءِ إبراهيمَ ، لَكِنَّهُ جَعَلَ [ التَزكِيَةَ ] ثانيـاً .

كلّ هـذا و اللـه أعْلم .