‏إظهار الرسائل ذات التسميات علم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات علم. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 19 أبريل 2015

(سورة الأعراف) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

            ســورة الأعراف (من اية 88 الى اخرها)

( فَأخَـذَتْهُـمُ الـرَجْـفَةُ فَأصْـبَحُوا فـي دَارِهِـمْ جَـاثِمِـينَ )[ الأعراف 91 ] :

مَدْيَنْ اسْمٌ مَعْناهُ : مَحْكَمَة ، وَ تَقَعُ مَدْيَنَ في أرْضِ [ مَعَانَ ] شَرْقَ خَليجِ العَقَبَةِ ، وَ سَكَنَها قَوْمُ مَدْيَنَ وَ رَسُولُهُمْ هُوَ شُعَيْبٌ : ( وَ إلـى مَـدْيَنَ شُـعَـيْباً )[ الأعراف 85 ] قـال أخَـاهُمْ : لأنَّ شُـعَيْباً كانَ من قَـوْمِ مَـدْيَن ، وَ لَمّا كَذّبوا شُعَيْباً أُهْلِكُوا بالصَيْحَةِ وَ الرَجْفَةِ مَعَاً ، مِثْلَ قَوْمِ ثَمُودَ : ( وَ إلـى مَـدْيَنَ أَخَـاهُـمْ شُـعَـيْبَاً فَقَالَ يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّـهَ وَ لاَ تَعْـثَـوْا فـي الأرْضِ مُـفْـسِـدينَ فَـكَـذَّبُوه ُفَأخَـذَتْهُـمُ الـرَجْـفَةُ فَأصْـبَحُوا فـي دَارِهِـمْ جَـاثِمِـينَ )[ العنكبوت 36 / 37 ] ، هنا قال : فـي دَارِهِـمْ بالمفـرد ، بينمـا في آية أخرى : ( وَ لَـمَّـا جَـاءَ أَمْـرُنَا نَجَّـيْنَا شُـعَـيْباً وَ الـذينَ آمَـنوا  وَ أَخَـذَتِ الـذينَ ظَـلَـمُـوا الـصَـيْحَـةُ فَأَصْـبَحُـوا فـي دِيَارِهِـمْ جَاثِمِـينَ أَلاَ بُعْـداً لـمَـدْيَنَ كَـمَـا بَعِـدَتْ ثَمُـودُ )[ هود 94 / 95 ] ، هنـا قال : فـي دِيَارِهِـمْ بالجمـع ، و قال : بُعْـداً لـمَـدْيَنَ كَـمَـا بَعِـدَتْ ثَمُـودُ : أيْ بِنَفْسِ الطَريقَةِ التي أُهْلِكَتْ بِهَـا ثَمُـودُ ، وَ هيَ الصَـيْحَةُ وَ الرَجْفَة ُ مَعَـاً ، وَ هَذه كانَتْ لِقَوْمِ مَـدْيَنَ فَقَطْ ، وَ لَيْسَ لأصْحَـابِ الأيْكَـةِ .

( أ وَ أمِـنَ أهْـلُ القُـرى أنْ يأتيهُم بأسُـنا )[ الأعراف 98 ] :

القَرْيـةُ : سُكَّانُهَا مُتَّفِقُـونَ عَلى أفْكَارٍ وَاحِدَةٍ ، أوْ عَلى مِهْنَةٍ واحِدَةٍ ، وَ نَقُولُ : القَرْيَةُ السِيَاحِيَّةُ وَ القَرْيَةُ الرِيَاضِيَّةُ وَ القَرْيَةُ الزِراعِيَّةُ  ، وَ حينَمَا اتَّفَـقَ قوْمُ لُوطٍ عَلى فِعْلِ اللُّواطَـةِ أسماهـا قرية : ( وَ نَجَّـيْـنَاهُ مِـنَ الـقَرْيَـةِ الـتي كَـانَتْ تَعْـمَـلُ الـخَـبَائِـثَ )[ الأنبياء 74 ] ، ( وَ مَـا كَـانَ جَـوابُ قَوْمِـهِ إلاَّ أنْ قَالُـوا أخْـرِجُـوهُـمْ مِـنْ قَرْيَتِـكُـمْ إنَّهُـمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّـرونَ )[ الأعراف 82 ] ، وَ في سُورَةِ الكَهْفِ حينَمَا اتَّفَقَ السُكَانُ عَلى البُخْلِ : ( حَـتّى إذَا أتَيَا أهْـلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْـعَـمَا أهْـلَـهَـا فَأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُـمَا )[ الكهف 77 ] ، وَ في سُورَةِ يس حينَمَا اتَّفَقَ السُكَانُ عَلى الكُفْرِ: ( وَ اضْـرِبْ لَـهُـمْ مَـثَلاً أصْـحَـابَ الـقَرْيَةِ إذْ جَـاءَهَـا الـمُـرْسَـلُـونَ إذْ أرْسَـلْـنَا إلَـيْهِـمُ اثْنَيْنِ فَـكَـذَّبُوهُـمَـا )[ يس 13 ] ، لذلك في كل القرآن الكريم كان [ الهـلاك ] للقرى ، و ليس للمدن .


( وَ إنْ وجـدْنا أكـثرهُـم لـفـاسـقين )[ الأعراف 102 ] :

إنَّ الفِسْقَ هُوَ : قَلْبُ الحَقائِقِ إلى بَاطِلٍ ، عَنْ سَـابِقِ مَعْرِفَةٍ وَ تَصْميمٍ ، أيْ هُوَ مُخَـالَفَةُ المنطِقِ وَ الحقّ : ( إنَّ كَـثِـيْراً مِــنَ الـنَـاسِ لَـفَـاسِــقُونَ )[ المائدة 49 ] ، أيْ يَقْلِبُونَ الحَقَّ إلى باطِلٍ وَ كَذِبٍ ، و منهـم : ( وَ مَـا يُضِـلُّ بِهِ إلاَّ الـفَاسِـقِـينَ الـذينَ يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَ اللَّـهِ مِـنْ بَعْـدِ مِـيْثَاقِهِ وَ يَقْطَـعُـونَ مَـا أَمَـرَ اللَّـهُ بِهِ أنْ يُوصَـلَ وَ يُفْسِـدونَ فـي الأَرْضِ أُولَـئِـكَ هُـمُ الـخَـاسِـرونَ )[ البقرة 26 / 27 ] ، ( وَ الـذينَ يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَ اللَّـهِ مِـنْ بَعْـدِ مِـيْثَاقِهِ وَ يَقْطَـعُـونَ مَـا أَمَـرَ اللَّـهُ بِهِ أنْ يُوصَـلَ وَ يُفْسِـدونَ فـي الأَرْضِ أُولَـئِـكَ لَـهُـمُ اللَّـعْـنَةُ وَ لَـهُـمْ سُـوءُ الـدَارِ )[ الرعد 25 ] ، وَ الذينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ هُمْ فَاسِـقُونَ : ( وَ الـذينَ يَرْمُـونَ الـمُـحْـصَـنَاتِ ثُمَّ لَـمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَـةِ شُـهَـداءَ فَاجْـلِـدُوهُـمْ ثَمَـانِينَ جَـلْـدَةً وَ لاَ تَقْبَلُـوا لَـهُـمْ شَـهَـادَةً أَبَدَاً وَأُولَـئِـكَ هُـمُ الـفَاسِـقُونَ )[ النور 4 ] ، لأنّهم يقلبون الحقّ إلى باطل ، وَ الذينَ يُمَارِسُونَ اللُّواطَةَ فاسِقُونَ أيضَاً : ( وَ لُـوطَـاً آتَيْنَاهُ حُـكْـمَـاً وَعِـلْـمَـاً وَ نَجَّـيْنَاهُ مِـنَ الـقَـرْيَةِ الـتي كَـانَتْ تَعْـمَـلُ الـخَـبَائِـثَ إنَّهُـمْ كَـانُوا قَوْمَ سُـوءٍ فَاسِـقِـيْنَ ) [ الأنبياء 74 ] ، لأنهم يقلبون الحقائق الجنسية ، وَ الذينَ نَسُوا اللَّهَ فاسقون : ( وَ لاَ تَكُـونُوا كَـاللَّـذينَ نَسُـوا اللَّـهَ فَأَنْسَـاهُـمْ أَنْفُسَـهُـمْ أُولَـئِـكَ هُـمُ الـفَاسِـقُونَ )[ الحشر 19 ]، ( إلـى فِرْعَـوْنَ وَ قَوْمِـهِ إنَّهُـمْ كَـانُوا قَوْمَـاً فَاسِـقِيْنَ )[ النمل 12 ] ، وَ المُنَافَقُونَ فاسِـقُونَ أيْضَاً : ( الـمُـنَافِـقُـونَ وَ الـمُـنَافِـقَاتُ بَعْـضُـهُـمْ مِـنْ بَعْـضٍ يَأْمُـرونَ بِالـمُـنْـكَـرِ وَ يَنْهَـوْنَ عَـنِ الـمَـعْـروفِ وَ يَقْبِضُـونَ أَيْدِيَهُـمْ نَسُـوا اللّـهَ فَنَسِـيَهُـمْ إنَّ الـمُنَافِقِيْنَ هُـمُ الـفَـاسِـقُونَ )[ التوبة 67 ] ، وَ عَمَلُهُمْ مَرْفُـوضٌ : ( قُلْ أَنْفِقُوا طَـوْعَـاً أَوْ كَـرْهَـاً لَـنْ يُتَقَبَّلَ مِـنْكُـمْ إنَّكُـمْ كُـنْتُمْ قَوْمَـاً فَاسِـقِيْنَ ) [ التوبة 53 ] ، وَ لاَ تَجُوزُ الصَلاَةُ عَلَيْهِمْ : ( وَ لاَ تُصَـلِّ عَـلـى أَحَـدٍ مِـنْهُـمْ مَـاتَ أَبَدَاً وَ لاَ تَقُمْ عَـلـى قَبْرِهِ وَ مَـاتُوا وَهُـمْ فَاسِـقُونَ )[ التوبة 84 ] .


( فَأَلْـقَـى عَـصَـاهُ فَإِذَا هِـيَ ثُعْـبَانٌ مُـبيْنٌ )[ الأعراف 107 ] :

لاَ بُدَّ في هَذَا السِيَاقِ مِنْ شَرْحِ مَوْضُوعِ [ الحَيَّـةِ وَ الثُعْبـَان وَ الجَـانَّ ] ، فَفي هَذَا المَوْضُوعِ ، أوْرَدَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ مُسَمَّىً واحِدَاً مَعَ أَسْماءَ مُخْتَلِفَة لَـهُ ، وَ هُوَ أَحَدُ أنْواعِ البلاغَةِ القُرْآنِيَةِ الرائِعَةِ ، وَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَنَوُّعِ ، لَيْسَ في الجُمَلِ وَ الأَسَالِيْبِ فَحَسْبُ ، بَلْ وَ في المُفْرداتِ أَيْضَاً ، حَيْثُ ذَكَرَ القُرْآنُ [ الحَيَّـةَ ] في بَعْضِ المَواقِفِ ، بَيْنَمَا ذَكَرَ [ الثُعْبـَان ] في مَواقِفَ أُخْرى ، فَعْنْدَما كَانَ مُوسى لِوَحْدِهِ قُرْبَ جَبَلِ الطُورِ : ( وَ مَـا تِلْـكَ بِيَمِـيْنِـكَ يَا مُـوسَـى قَالَ هِـيَ عَـصَـايَ أتَوَكَّـأُ عَـلَـيْهَـا وَ أَهُـشُّ بِهَـا عَـلـى غَـنَمِـي وَ لِـيَ فِيْهَـا مَـآرِبُ أُخْـرى قَالَ أَلْـقِـهَـا يَا مُـوسَـى فَأَلْـقَـاهَـا فَإِذَا هِـيَ حَـيَّةٌ تَسْـعَـى )[ طه 17 / 20 ] ، ( فَلَـمَّا رَآهَـا تَهْـتَزُّ كَـأَنَّهَـا جَـانّ وَلّى مُـدْبِراً وَ لَـمْ يُعَـقِّبْ )[ النمل 10 ][ القصص 31 ] ، ( يَا مُـوسَـى أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَـفْ إنَّكَ مِـنَ الآمِـنِيْنَ )[ القصص 31 ] ، فالحَيَّةُ اسْمُ جِنْسٍ ، يَقَعُ عَلى الذَكَرِ وَ الأُنثى وَ الصَغِيْرِ وَ الكَبيْرِ ، أمَّا [ الجَـانّ ] فَهُوَ النَوْعُ الصَغِيْرُ مِنَ الحَيَّاتِ ، وَ قَدْ يَكُونُ فَرْخُ الحَيَّةِ ، وَ نُلاَحِظُ أنَّ عَصَـا مُوسى عليه السلام قَدِ اتَّخَذَتْ أوَّلَ أَشْكَالِهَا عَلى صُورَةِ [ حَيَّـةٍ ] ، بَيْنَمَا اهْتِزَازُهَا كَانَ يُشْـبِهُ اهْتِزَازُ الجَـانّ ، لِمَا لِذِكْرِ الجَـانّ مِنْ أَثَرٍ مُرْعِبٍ في النُفُوسِ ، وَ دَلِيْلٍ نَفْسِيٍّ يَبْعَثُ عَلى الهَـرَبِ .

أمَّا عِنْدَ فِرْعَوْنُ ، وَ أمَامَ حَشْدٍ ضَخْمٍ مِنَ الناسِ وَ السَحَرَةِ ، فَإنَّ حَيَّةً صَغِيْرَةً لَنْ تُخِيْفَ هَذَا الجَمْعِ لِذَلِكَ تَحَوَّلَتِ العَصَا إلى ثُعْبَـانٍ مُبِيْنٍ أَخَافَ الجَمِيْعَ : ( فَأَلْـقَـى عَـصَـاهُ فَإِذَا هِـيَ ثُعْـبَانٌ مُـبيْنٌ )[ الأعراف 107 ][ الشعراء 32 ] ، وَ كَانَ قَادِراً عَلى ابْتِـلاَعِ كُلِّ أَدَواتِ السِـحْرِ وَ الشَعْوَذَةِ وَ الكَذِبِ ، ( وَ أَلْـقِ مَـا في يَمِـيْنِـكَ تَلْـقَفُ مَـا صَـنَعُـوا إنَّمَـا صَـنَعُـوا كَـيْدُ سَـاحِـرٍ )[ طه 69 ] ، ( وَ أوْحَـيْنا إلـى مُـوسَـى أَنْ أَلْـقِ عَـصَـاكَ فَإِذَا هِـيَ تَلْـقَفُ مَـا يَأْفِـكُـونَ )[ الأعراف 117 ] ، ( فَألْـقَى مُـوسَـى عَـصَـاهُ فَإِذَا هِـيَ تَلْـقَفُ مَـا يَأْفِـكُـونَ ) [ الشعراء 45 ] ، وَ هَذِهِ بلاغَةُ القُرْآنِ .


( سَـحَـروا أَعْـيُنَ الـنَاسِ وَ اسْـتَـرْهَـبُوهُـمْ )[ الأعراف 116 ] :

وَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الخِداعِ البَصَريِّ : ( سَـحَـروا أَعْـيُنَ الـنَاسِ وَ اسْـتَرْهَـبُوهُـمْ )[ الأعراف 116 ] ، وَ بِسَبَبِ خَوْفِ مُوسى عليه السلام : ( فَأَوْجَـسَ فـي نَفْسِـهِ خِـيْفَـةً مُـوسَـى )[ طـه 67 ] ، ظَنَّ أَنَّهَا تَسْعى ، فَكَانَ الحَلُّ الإلَهيُّ : ( قُلْـنَا لاَ تَخَـفْ إنَّكَ أَنْتَ الأَعْـلى )[ طـه 68 ] ، الذي كَشَفَ كَذِبَهُمْ : ( وَ أَوْحَـيْنَا إلـى مُـوسَـى أَنْ أَلْـقِ عَـصَـاكَ فَإذَا هِـيَ تَلْـقَفُ مَـا يَأْفِـكُـونَ )[ الأعراف 117 ] ، ( فَأَلْـقَـى مُـوسَـى عَـصَـاهُ فَإذَا هِـيَ تَلْـقَفُ مَـا يَأْفِـكُـونَ )[ الشعراء 45 ] ، لأَنَّ سِحْرَهُمْ خَديعَةٌ فيزيَـائِيَّةٌ : ( وَأَلْـقِ مَـا فـي يَمِـيْنِـكَ تَلْـقَفُ مَـا صَـنَـعُوا إنَّمَـا صَـنَعُـوا كَـيْدُ سَـاحِـرٍ وَ لاَ يُفْلِـحُ الـسَـاحِـرُ حَـيْثُ أَتى )[ طـه 69 ] ، لاَ يُفْلِـحُ الساحر : النتيجة خاسـرة ، حَـيْثُ أَتى : مَهْما عَمِـلَ .


( عِـجْــلاً جَـسَـداً )[ الأعراف 148 ] :

التَجَسُّـدُ : هُوَ الظُهُورُ عَلى هَيْئَـةِ أجْـسَادٍ ، مِثْلَ ظُهُورِ جِبريل إلى مَرْيَمَ عليها السلام عَلى هَيْئَةٍ بَشَرٍ سَـوِيِّ : ( فَأرْسَـلْـنَا إلَـيْهَـا رُوحَـنا فَـتَمَـثَّـلَ لَـهَـا بَشَـراً سَـوِيَّاً )[ مريم 17 ] ، بينمـا : [ الأجْسَادُ : هيَ شَكْلٌ خَارجيٌّ فَقَطْ ، أمَّا الأجْسَـامُ : مِثْلَنَـا ، فَهيَ كتْلَةٌ كامِلَةٌ مَعَ الأحْشَاءِ الداخليةِ ] : ( وَ إذا رأيْتَهُـمْ تُعْـجِـبُـكَ أجْـسَـامُـهُـمْ )[ المنافقون 4 ] ، وَ عَنْ طَبيعَةِ الأجْسَـادِ قَالَ تعالى : ( وَ مَـا جَـعَـلْـنَاهُـمْ جَـسَـداً لاَ يَأْكُـلُـونَ الـطَـعَـامَ )[ الأنبياء 8 ] ، وَ السَامِريُّ أَخْرَجَ لِـبَني إسْرائيلَ جَسَداً فَقَطْ ، لأنَّهُ مِنَ المُسْتحيلِ عَليْهِ أَنْ يُكوِّنَ جِسْـماً كامِلَ الأحْشَاءِ : ( فَأخْـرَجَ لَـهُـمْ عِـجْـلاً جَـسَـداً )[ طه 88 ] ، ( وَ اتَّخَـذَ قَـوْمُ مُـوسَـى مِـنْ بَعْـدِهِ مِـنْ حُـلِـيِّـهِـمْ عِـجْــلاً جَـسَـداً )[ الأعراف 148 ] .


( غَـضْـبَانَ أسِـفَاً )[ الأعراف 150 ] :

فَأصْبَحَ مُوسَى أسِـفَاً [ بِكسْرِ حَرْفِ السينِ ] وَ مَعْناهُ : الغَضَبُ الشَـديدُ : ( فَرَجَـعَ مُـوسَـى إلـى قَوْمِـهِ غَـضْـبَانَ أسِـفَاً )[ طه 86 ] ، ( رَجَـعَ مُـوسَـى إلـى قَوْمِـهِ غَـضْـبَانَ أسِـفَاً )[ الأعراف 150 ] .


[ انفجـرت ، انبجسـتْ ] :

( وَ إذِ اسْـتَسْـقَـى مُـوسَـى لِـقَـوْمِـه فَقُلْـنَا اضْـرِبْ بِعَصَـاكَ الـحَـجَـرَ فَانْفَجَـرَتْ مِـنْهُ اثْنَتا عَـشَـرَةَ عَـيْنَاً قَـدْ عَـلمَ كُـلُّ أُنَاسٍ مَـشْـرَبَهُـمْ )[ البقرة 60 ] ، هنا ( اسْـتَسْـقَـى مُوسَـى ) مِنَ اللّهِ ، لذلك : ( فَانْفَجَـرَتْ ) دليلُ كَثْرَةِ المَـاءِ وَ الكَرَمِ الإلَهيّ ، لأنَّ مُوسـى يَطْلُبُ مِنَ اللّـهِ مُباشَـرَةً ، بينمـا الآية الأخـرى : ( وَ أوْحَـيْنا إلـى مُـوسَـى إذِ اسْـتَسْـقَاهُ قَوْمُـهُ أَنِ اضْـرِبْ بِعَصَـاكَ الـحَـجَـرَ فَانْبَجَـسَـتْ مِـنْهُ اثْنَتا عَـشَـرَةَ عَـيْنَاً قَـدْ عَـلـمَ كُـلُّ أُنَاسٍ مَـشْـرَبَهُـمْ )[ الأعراف 160 ] ، هنـا ( اسْـتَسْـقَاهُ قَوْمُـهُ ) أي القَوْمُ يطلبون من موسى ، لذلك : ( فَانْبَجَـسَـتْ ) و الإنبِجـاسُ أقَلُّ مِنَ التَفْجير لأنَّ الطَلَبَ من موسى و ليْس من اللّهِ ، وَ تدْعى حتى الآنَ : [ عُـيُونُ مُوسى ] عَلى خليجِ السويسِ .


( يَنْـزَغَـنَّـكَ مِـنَ الـشَـيْطَـانِ نـَزْغٌ )[ الأعراف 200 ] :

النَــزْغُ : وَ هُوَ وَسْـوَسَـةٌ خَطِيرَةٌ تُوصِلُ لِلشَـكِّ في العَقِـيدَةِ : ( وَ إمَّـا يَنْزَغَـنَّـكَ

مِـنَ الـشَـيْطَـانِ نـَزْغٌ فَـاسْــتَعِـذْ بِاللّـهِ )[ الأعراف 200 ] ، وَ قَالَ صلى الله عليه و سلم : [ يَأْتي الشَيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ : مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا ، حَتّى يَقُولُ مَنْ خَلَقَ رَبُّكَ ؟ ! ، فَإذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ ][ رواه البخاري ، وَ مُسْلم في الإيمان عن أبي هُريرة رضي الله عنه ] ، وَ النَـزْغُ هُوَ أَيْضَاً إفْسَـادُ العَلاَقَـاتِ ، يَقُولُ يُوسُفَ عليه السلام : ( مِـنْ بَعْـدِ أَنْ نَزَغَ الـشَـيْطَـانُ بَيْني وَ بَيْنَ إخْـوَتي )[ يوسف 100 ] .


( فَاسْـتَمِـعُـوا لَـهُ وَ أنْصِـتُوا )[ الأعراف 204 ] :

فالمَطْلُوبُ هُوَ الاسْتِمَاعُ [ فَهْمُ المَسْمُوعِ ] لِلقُرْآنِ بَعْدَ الإنْصَاتِ [ السُكُوتُ مِنْ أجْلِ السَمَاعِ ] : ( فَإذَا قُـرِىءَ الـقُـرْآنُ فَاسْـتَمِـعُـوا لَـهُ وَ أنْصِـتُوا )[ الأعراف 204 ] .


كل هـذا و اللـه أعـلم .

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

(سورة الأعراف) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

            ســورة الأعراف (من اية 1 الى 87)


( مَـا مَـنَعَـكَ أَلاَّ تَسْـجُـدَ إذْ أَمَـرْتُكَ )[ الأعراف 12 ] :
( وَ إذْ قَالَ رَبُّـكَ لِلـمَـلاَئِـكَـةِ إنِّي خَـالِـقٌ بَشَـراً مِـنْ صَـلْـصَـالٍ مِـنْ حَـمَـأٍ مَـسْـنُونٍ فَإذا سَـوَّيْتُهُ وَ نَفَخْـتُ فِيْهِ مِـنْ رُوحِـي فَـقَـعُـوا لَـهُ سَـاجِـدينَ )[ الحجر 28 ] ، ( فَـسَجَـدَ الـمَـلاَئِـكَـةُ كُـلُّـهُـمْ أَجْـمَـعُـونَ )[ ص 71 ] ، وَ بِسُجُودِ جَميعِ المَلاَئِكَةِ بِلاَ اسْتِثْنَاءٍ ، تَآلَفَتْ وَ تَوافقَتْ طَـاقَةُ المَلاَئِكَـةِ الكِرامِ مَعَ طَاقَةِ وَ رُوحِ الإنْسَانِ التي نَفَخَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ فيـهِ ، بَيْنَمَا بَقِيَتْ طَاقَةُ إبليس الشَيْطَانُ الجَنَّي مُتَنَافِرَةً مَعَ طَـاقَةِ وَ رُوحِ الإنْسَانِ ، عِنْدَمَـا رَفَضَ السُجُودَ لآدَمَ عليه السلام ، حيث سأله الله تعالى : ( قَالَ مَـا مَـنَعَـكَ أَلاَّ تَسْـجُـدَ إذْ أَمَـرْتُكَ)[ الأعراف 12 ] ، أَلاَّ تَسْـجُـدَ : وَ ضَعَ [ ألاَّ ] لِتَوْكِيدِ طَلَبِ السُجُودِ فلأنَّ التَوْكيدَ شَديدٌ اقْتَضى وُجُودَ [ لاَ ] المُؤكِّدَة ، وَ فِعْلاً ذَكَرَ مُخَالَفَةَ إبْليسَ للأمْرِ فَقَالَ : إذْ أَمَـرْتُكَ .
بَيْنَمَـا قَوْلُهُ تعالى : ( قَالَ يَا إبْلِـيسُ مَـا مَـنَعَـكَ أَنْ اسـتَـكْـبَرْتَ أَمْ كُـنْتَ مِـنَ الـعَـالِـينَ ) [ ص 75 ] ، أَنْ تَسْـجُـدَ : هُنَـا المَنْـعُ بِدُونِ وُجُودَ [ لاَ ] المُؤكِّدَة ، وَ كَأنَّ سَـبَبَاً مَـا مَنَعَ إبْليسَ مِنَ السُـجُودِ ، وَ هَذا السَبَبُ هُوَ : اسـتَـكْـبَرْتَ أَمْ كُـنْتَ مِـنَ الـعَـالِـينَ ، فالسَبَبُ مِنْ دَاخِلِ نَفْسِ إبْليسَ وَ لَيْسَ مُؤَثِّراً خَارجيّاً : ( إلاَّ إبْلِـيسَ أبـى )[ البقرة 34 ] ، أبـى : أي امْتَنَعَ ذاتِيَاً دُونَ تأثيرٍ خارجيّ ، أمَّا قَوْلُهُ تَعَالى ( وَ إذْ قُـلْـنَا لـِلْـمَـلاَئِـكَـةِ اسـجُـدُوا لآدَمَ فَـسَـجَـدوا إلاَّ إبْلِـيسَ )[ البقرة 34 ] ، فَلاَ يَعْني أنَّ إبْليسَ كَانَ مِنَ المَلاَئِكَـةِ ، لأنَّ عِبَارَةَ : ( إلاَّ إبْلِـيسَ) هِيَ مُسْتَثْنى عَلى الانْقِطَاعِ ، أيْ أنَّ [ المُسْتَثْنى مِنْـهُ لَيْسَ مِنْ نَوْعِ وَ جِنْسِ المُسْـتَثْنى ] .
.
( خُـذُوا زِيْنَتَـكُـمْ عِـنْدَ كُـلِّ مَـسْـجِـدٍ وَ كُـلُـوا وَ اشْـرَبوا )[ الأعراف 31 ] :
إنَّ أفْضَلَ الأوْقاتِ لِتَناوُلِ الطَعَامِ هُوَ أوْقـاتُ الصَلاةِ الخَمْسَـةِ : ( يَا بَني آدَمَ خُـذُوا زِيْنَتَـكُـمْ عِـنْدَ كُـلِّ مَـسْـجِـدٍ وَ كُـلُـوا وَ اشْـرَبوا وَ لاَ تُسْـرِفُوا )[ الأعراف 31 ] ، يَا بَني آدَمَ : النِداءُ لِجميْعِ الناسِ وَ ليْسَ للّذيْنَ آمَنـوا فقطْ ، إذَاً المُوْضـُوعُ يَهُمُّ جَميْعَ الناسِ ، وَ الزِيْنَةُ التي هيَ الراحَةُ النَفْسيَّةُ لَها ارْتِبـاطٌ وَثِيْقٌ بالطَعـامِ ، عِـنْدَ كُـلِّ مَـسْـجِـدٍ : أيْ ارْتاحُوا وَ افْرَحُوا وَ تَخَلَّصُوا مِنْ ضُغُوطِ الحَيـاةِ ، خَمْسَ مَرَّاتٍ في اليَوْمِ ، التي هيَ أوْقاتُ الصَلاةِ الإسْلاميّةِ ، وَ كُـلُـوا وَ اشْـرَبوا : أي في أوقات الصلاة حصْـراً ، وَ لاَ تُسْـرِفُوا : أيْ خَمْسَ وَجَبـاتٍ خَفيفَـةٍ في اليَـوْمِ : ( قُلْ مَـنْ حَـرَّمَ زِيْنَةَ اللّـهِ الـتي أَخْـرَجَ لِـعِـبَادِهِ وَ الـطَـيِّباتِ مِـنَ الـرِزْقِ )[ الأعراف 33 ] ، وَ بَعْدَ الطَعامِ الطيِّبِ أيْ الحَلال وَ الغَيْرِ مُلَوّث ، يَجِبُ تَنظِيم الطـاقَة وَ الحالَةِ النَفْسيّةِ السَعيدة ، وَ ذَلِكَ عَنْ طَريْقِ العَمَلِ الصَالِحِ : ( يَا أَيُّهَـا الـرُسُـلُ كُـلُـوا مِـن الـطَيِّباتِ وَاعْـمَـلُـوا صَـالِـحَـاً )[ المؤمنون 51 ] ، ( مَـنْ عَـمِـلَ صَـالِـحَــاً مِـنْ ذَكَـرٍ أوْ أُنْثى وَ هُـوَ مُـؤْمِـنٌ فَـلَـنُحْـيِيَنَّهُ حَـيَاةً طَـيِّبَةً )[ النحل 97 ] .
.
( الـجَـمَـلُ فـي سَـمِّ الـخـِيَاطِ )[ الأعراف 40 ] :
( إنَّ الـذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا وَ اسْـتَكْبروا عَـنْهَـا لاَ تُفَتَّحُ لَـهُـمْ أَبْوابُ الـسَـمـَاءِ وَلاَ يَدْخُـلُـونَ الـجَـنَّةَ حَـتّى يَلِجَ الـجَـمَـلُ في سَـمِّ الـخـِيَاطِ وَ كَـذَلِـكَ نَجْـزي الـمُـجْـرِمِـيْنَ )[ الأعراف 40 ] ، سَـمِّ : ثقب ، الـخـِيَاطِ : الإبرة .
[ الجَـمَـلُ ] : في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ الحَيَوانُ المَعْـروفُ ، بَلْ هُوَ : حَبْـلُ السَـفينَةِ الغَليظ ،
لأنَّ الحيوانَ المَعْـروفَ يُسَـمّى البَعيـرُ : ( وَ لِـمَـنْ جَـاءَ بِـهِ حِـمْلُ بَعـيـرٍ )[ يوسف 72 ] ، ( وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعيرٍ )[ يوسف 65 ] ، فَأصْبَحَ مَعْنى الآيَةِ : حتّى يَدْخُلَ حَبْلُ السَـفينةِ الغليظِ في ثُقْبِ الإبْرَةِ ، وَ جَمْعُ الجَمَلِ : جِمَـالةٌ ( كَأنَّـهُ جِمَـالَةٌ صُـفْرٌ )[ المرسلات 33 ] ، بَيْنَما جَمْعُ البَعيرِ : إبِـلٌ ( أفَـلا يَنْظُـرونَ إلى الإبِـلِ كَيْفَ خُلِقَـتْ )[ الغاشية 17 ] .
.
( أفيضـوا علـينا منَ الـمـاء )[ الأعراف 50 ] :
إنَّ الجِنـَانُ مُشْـرِفَةٌ عَلى النـَارِ ، و التَخاطُبُ بَيْنَ أَصْحَاب الجنّـةِ وَ أَصْحَابِ النـَارِ مُمْكِنٌ وَ حـاصِلٌ فِعْـلاً : ( وَ نَادى أَصْـحَـابُ الـنَارِ أَصْـحَـابَ الـجَـنَّـةِ أَنْ أَفـيضـوا عَـلَـيْـنَا مِـنَ الـمَـاءِ أوْ مِـمَّـا رَزَقَكُــمُ اللَّـهُ قَالُـوا إنَّ اللَّـهَ حَـرَّمَـهُـمَـا عَـلـى الـكَـافِـرينَ)[ الأعراف 50 ] ، ( وَ نَادى أَصْـحَـابُ الـجَـنَّـةِ أَصْـحَـابَ الـنَارِ أَنْ قَـدْ وَجَـدْنَا مَـا وَعَـدَنَا رَبُّنَـا حَـقّـاً فَـهَـلْ وَجَـدْتُمْ مَـا وَعَـدَ رَبُّكُـمْ حَـقّـاً قَـالـوا نَعَـمْ )[ الأعراف 44 ] ، ( قَالَ قَائـِلٌ مِـنْهُـمْ إنّي كَـانَ لـِي قَـرينٌ ..... فَأطَّـلَـعَ فَرآهُ في سَـواءِ الـجَـحـيمِ )[ الصافات 51 ] .
.
( الـبَلَـدُ الـطَـيِّبُ يَخْـرُجُ نَبَاتُهُ )[ الأعراف 58 ] :
إن عَلاَقَةُ النَبَـاتِ وَ الطَاقَةِ التي يَحْتَويهَا ، عَلاَقَةٌ وَثِيقَةٌ جِـدَّاً مَعَ الطَاقَةِ الخَيِّرَةِ لَدى سُكَّانِ البَلَدِ الذي يَنْبُتُ فـيهِ ، وَ مَدى قِيَامِ السُكَّانِ بِتَلْويثِ البِيئَـةِ وَ بالتَالي تَلْويثِ الطَعَامِ خَاصَّةً بالمُرَكَّباتِ الكيميائِيَّةِ : ( وَ الـبَلَـدُ الـطَـيِّبُ يَخْـرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَ الـذي خَـبُثَ لاَ يَخْـرُجُ إلاَّ نَكِـدَاً )[ الأعراف 58 ] ، فَيَجِبُ الانْتِبَاهُ حَتَّى عِنْدَ [ التَداوي بِالأعْشَابِ الطَبيعِيَّةِ ] لِحَالِ سُكَّانِ البَلَدِ وَ مَدى تَلْويثِهِمْ لِلبيئَةِ .
.
( اعْـبُـدوا اللّهَ مَا لَـكُمْ مِـنْ إلَهٍ غَـيْرُه ) :
مِمّا يُقَوّي العَقيدَةَ الصحيحة ، الخَبَرُ الصَادِقُ الذي يَتَجلّى في وِحْدَةِ الرِسالاتِ ، فَجميعُ الرُسُلِ على اخْتلافِ أزْمِنَتِهِمْ وَ ألْسِنَتِهِمْ وَ شُعُوبِهِمْ وَ أماكِنِهمْ ، قالوا عِبارَةً واحِدَةً هي : ( اعْبُدوا اللّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُه ) ، أوضحتهـا سورة الأعراف :
نوحٌ : ( لَـقَـدْ أَرْسَـلْـنَا نُوحَـاً إلـى قَوْمِـهِ فَقَالَ : يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّـهَ مَا لَـكُـمْ مِنْ إلهٍ غَـيْرُهُ )[ الأعراف 59 ] .
هودٌ : ( وَ إلـى عَــادٍ أَخَـاهُـمْ هُــودَاً قَالَ : يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّـهَ مَـا لَـكُـمْ مِـنْ إلـهٍ غَـيْرُهُ ) [ الأعراف 65 ] .
صالحٌ : ( وَ إلـى ثَمُـودَ أَخَـاهُـمْ صَالِـحَاً قَالَ : يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّهَ مَا لَـكُـمْ مِـنْ إلـهٍ غَـيْرُهُ )[ الأعراف 73 ] .
شُعَيْبٌ : ( وَ إلـى مَدْيَنَ أَخَاهُـمْ شُـعَـيْباً قَالَ : يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّـهَ مَـا لَـكُـمْ مِـنْ إلـهٍ غَـيْرُهُ )[ الأعراف 85 ] .
كل هـذا و اللـه أعـلم .




(سورة الأنعام) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

            ســورة الأنعام (من اية 120 الى اخرها)

( وَإنَّهُ لَـفِسْـق )[ الأنعام 121 ] :

إنَّ ذِكْرَ اسْمَ اللهِ عَلى الطَعامِ أمْرٌ بالِغُ الأهَميَّةِ ، فَذِكْرُ اسْم اللهِ يُعَقِّـمُ الطعامَ مِنَ الجَراثيمِ وَ الفيروساتِ وَ الكريّاتِ البَيْضَاءِ الالْتِهابيّةِ الخَطِرَةِ عَلى الصِحَّةِ الإنْسانيّةِ : ( وَ لاَ تَأْكُـلُـوا مِـمّـا لَـمْ يُـذْكَـرِ اسْـمُ اللّـهِ عَـلَـيْهِ وَ إنَّهُ لَـفِسْـق )[ الأنعام 121 ] ، الفِسْـقُ هُوَ : الفاسِـدُ في أصْلِهِ ، لأنَّ اسْمَ اللّهِ اسْمٌ مُبَارَكٌ : ( تَبَارَكَ اسْـمُ رَبِّكَ ذِي الـجَـلاَلِ وَ الإكْـرامِ )[ الرحمن 78 ] ، وَ يُضْفي البَرَكَةَ عَلى الطَعامِ فَيَجْعَلَهُ نافِعَاً .
فَبَعْد إجْراءِ عَمليَّاتِ الاسْتِنْباتِ الجُرْثُوميِّ مِنْ قِبَلِ فَريقٍ طبّي وَ صَيْدَلانيّ مُخْتَص لِمُدَّةِ 48 سَاعة ، بَـدا لَوْنُ اللحْمِ المُكَبَّرِ عليْهِ زَهْريّاً فاتِحاً [ مِمّا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ نُمُوِّ الجَراثيمِ العُنقوديَّةِ عليْهِ ] ، وَ اللحْمُ غَيْرِ المُكَبَّرِ عليْهِ أصبحَ أحْمَرَ قاتِماً يَميلُ للزُرْقَةِ [ نُمُوٌّ غَزيرٌ للمُكَوَّراتِ العُنْقُوديّةِ وَ الحَالّةِ للدَمِ ] ، وَ الأمْرُ صَريحٌ بالأكْلِ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليْهِ : ( فـَكُـلُـوا مِـمَّـا ذُكَـرَ اسْـمُ اللّـهِ عَـلَـيْهِ إنْ كُـنْتُمْ بِآياتِهِ مُـؤمِـنينَ مَـالَـكُـمْ لاَ تَأكُـلُـونَ مِـمَّـا ذُكَـرَ اسْـمُ اللّـهِ عَـلَـيْهِ )[ الأنعام 118 / 119 ] ، وَ عَدَمُ ذِكْرِ اسْم اللهِ عَلى الذَبائِحِ هُوَ افْتِراءٌ عَلى اللهِ : ( وَ أنْعَـامٌ لاَ يَـذْكُـرونَ اسْـمَ اللّـهِ عَـلَـيْهَـا افْـتِراءً عَـلَـيْهِ )[ الأنعام 138 ] ، وَ هيَ غَيْرُ قابِلَةٍ للتَزْكِيَةِ : ( حُـرِّمَـتْ عَـلِـيْكُـمْ الـمَـيْتَةُ وَ الـدَمُ وَ لَـحْـمُ الـخِـنْزيرِ وَ مَـا أُهِـلَّ لِـغَـيْر اللَّـهِ بِهِ وَ الـمَـوْقُوذَةُ وَ الـمُـتَرَدِّيَةُ وَ الـنَطِـيحَـةُ وَ مَـا أكَـلَ الـسَـبْعُ إلاّ مَـا ذَكَّـيْتُمْ وَ مَـا ذُبِحَ عَـلـى الـنُصُـبِ )[ المائدة 3 ] ، ( قُـلْ لاَ أَجِـدُ فـي مَــا أُوحِـيَ إلَـيَّ مُـحَـرَّمَـاً عَـلَـى طَـاعِـمٍ يَـطْـعَـمَـهُ إلاّ أنْ يَـكُـونَ مَـيْتَـةً أوْ دَمَـاً مَـسْـفُوحَـاً أوْ لَـحْـمَ خِـنْـزيرٍ فَـإنَّـهُ رِجْـسٌ أوْ فِـسْـقَـاً أُهِـلَّ لِـغَـيْرِ اللّـهِ بِهِ )[ الأنعام 145 ] ، ( أُحِـلَّـتْ لَـكُـمْ بَهِـيمَـةُ الأنْعَـامِ إلاَّ مَـا يُتْلـى عَـلَـيْـكُـمْ )[ المائدة 1 ] ، ( وَ أُحِـلَّـتْ لَـكُـمُ الأنْعَـامُ إلاَّ مَـا يُتْلـى عَـلَـيْـكُـمْ )[ الحج 30 ] ، إلاَّ مَـا يُتْلـى عَـلَـيْـكُـمْ : إلاَّ مَا حُرِّمَ بِنَصٍّ صَريحٍ .

( كَـانَ مَـيْتَاً فَأَحْـيَيْناهُ )[ الأنعام 122 ] :
مَيَّزَ القُرْآنُ الكريْمُ بَيْنَ إنْسَـانٍ [ يَحْـيَ ] وَ بَيْنَ إنْسَـانٍ [ يَعِيْـشُ ] ، فالحَيَـاةُ تَكُونُ دَوْماً [ طَيِّبَةً ] ، بَيْنَمَا المَعيْشَةُ لاَ تَكونُ إلاَّ [ ضَنْكاً ] ، فالعَيْـشُ هُوَ نِظامٌ حَركيٌّ يَصْلُحُ لِلعَيْشِ وَ لَيْسَ لِلحَيَاةِ : ( أَمْـواتٌ غَـيْرُ أحْـيَاءٍ وَ لَـكِـنْ لاَ يَشْـعُـرون)[ النحل 21 ] ، وَ أصْحَابُ جَهَنَّمَ يَعِيْشُونَ دُونَ حَياةِ : ( الـذي يَصْـلَـى الـنَارَ الـكُـبْرى ثُـمَّ لاَ يَمُـوتُ فِيْهَـا وَ لاَ يَحْـيَ ) [ الأعلى 13 ] ، لَكِنَّهُ يَعْيْشُ فيها وَ يَأْكُلُ الزَقُّومَ وَ يَشْرَبُ الحَميْمَ ، وَ قَدْ قالَ السَيِّدُ المَسيْحُ عليه السلام : [ دَعِ المَـوْتى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ ][ إنْجِيْل مَتّى 22 ] .
أمّا الحَيَـاةُ : هيَ أيْضَاً نِظَامٌ حَرَكيٌّ ، لكِنْ مَعَ وُجُودِ [ النُـورِ ] الإلَهيِّ لِتَحْقِيْقِ هَدَفٍ سَـامٍ : ( أ َوَمَـنْ كَـانَ مَـيْتَاً فَأَحْـيَيْناهُ وَ جَـعَـلْـنا لَـهُ نُوراً يَمْـشِـيِ بِهِ في الـنَاسِ )[ الأنعام 122 ] ، وَ تَكُونُ الحـيَاةُ بالعَمَلِ الصَالِحِ : ( مَـنْ عَـمِـلَ صَـالِـحَـاً مِـنْ ذَكَـرٍ أوْ أُنْثَى وَ هُـوَ مُـؤْمِـنٌ فَلَـنُحْـيِيَنَّهُ حَـيَاةً طَـيِّبَةً )[ النحل 97 ] ، وَ اخْتارَ اللّهُ اسْمَ النبي [ يَحْيَ ] : ( إنَّا نُبَشِّـرُكَ بِغُـلامٍ اسْـمُـهُ يَحْـيَ لَـمْ نَجْـعَـلْ لَـهُ مِـنْ قَبْلُ سَـمِـيّاً )[ مريَم 7 ] ، ( وَ إنَّ الـدارَ الآخِـرَةَ لَـهِـيَ الـحَـيَوانُ )[ العنكبوت 64 ] ، الحيوان : صيغة المبالغة من الحياة السامية .
( اسْـتَمْـتَعَ بَعْـضُـنَا بِبَعْـضٍ )[ الأنعام 128 ] :
إنّ جهنم هي لإبْليسَ وَ أتْبَاعَهُ مِنَ الجِنَّ وَالإنْسِ [ فَقَطْ ] ، فُهُمُ المَجْمُوعَةُ الكافِيَةُ لِمَلْءِ جَهَنَّمَ : ( وَ يَوْمَ يَحْـشُـرُهُـمْ جَـمِـيعَـاً يَا مَـعْـشَـرَ الـجِـنِّ قَـدِ اسْـتَـكْـثَرْتُمْ مِـنَ الإنْسِ ... وَ قَالَ أَوْلِـيَاؤُهُـمْ مِـنَ الإنْسِ : رَبَّنَا اسْـتَمْـتَعَ بَعْـضُـنَا بِبَعْـضٍ وَ بَلَـغْـنَا أَجَـلَـنَا الـذي أَجَّـلْـتَ لَـنَا قَالَ الـنَارُ مَـثْواكُـمْ خَــالِــدينَ فِـيْهَـا إلاَّ مَـا شَـاءَ اللَّـهُ )[ الأنعام 128 ] ، فَهيَ إذَاً لإبْليسَ وَ أتْبَاعَهُ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ فَقَطْ ، اسْـتَـكْـثَرْتُمْ مِـنَ الإنْسِ : أي بالضَـلالِ ، أَوْلِـيَاؤُهُـمْ : أي أوليـاءُ الشَـياطينِ مِـنَ الإنْسِ ، اسْـتَمْـتَعَ : أي تَجَاوَبْنَـا مع شياطين الجنّ و اتّبعناهم .

( قَـتْـلَ أوْلادِهِـمْ )[ الأنعام 137 ] :
كان الإنْسَانُ القديم يَنْذُرُ ذَبْحَ أَحَـدِ أبْنَائِهِ [ خَاصَّةً البِكْرَ مِنْهُمْ ] كَقُرْبانٍ للآلِهَةِ ، وَ القِصَّةُ الشَهِيْرَةُ عَنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، عِنْدَمَا نَذَرَ ذَبْحَ أَحَدِ أبْنائِهِ ، إذَا رَزَقَهُ اللّهُ / 12 / وَلَدَاً ذَكَراً ، وَ التَضْحِيَةُ في الأسَاسِ هيَ التَخَلِّي عَنْ شَيْءٍ ذِي قِيْمَةٍ ، وَ قَدْ بنيت في السابق مَحَارِقَ لِحَرْقِ أوْلادِهِمْ أحْيـاء ، وَ كَانَتِ الطُبُولُ تُدَقُّ بِقُوَّةٍ ، كَيْ يَطْغَى صَوْتُهَا عَلى صُراخِ الأَطْفالِ ، وَ هُمْ يُحْرَقُونَ أحْياء حتّى الموتُ : ( وَ كَـذَلِـكَ زَيَّنَ لِـكَـثِيْرٍ مِـنَ الـمُـشْـرِكِـيْن َ قَتْلَ أوْلادِهِـمْ ... فَذَرْهُـمْ وَ مَـا يَفْتَرونَ )[ الأنعام 137 ] ، ( الـذيْنَ اتَّخَـذُوا مِـنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانَاً آلِهَـةً )[ الأحقاف 28 ] ، وَ عِنْدَ الشُعُوبِ القَدِيْمَةِ [ الفينيقِيَّونَ ] مَثَلاً ، كَانَتْ التَضْحِيَةُ بِالوَلَدِ البِكْرِ ، وَ قَدْ وُجِدَ الكَثِيْرُ مِنْ عِظَامِ الأطْفالِ تَحْتَ أسَاسَاتِ المَنازِلِ وَ المَعَابِدِ ، حَيْثُ كَانَ الأطْفالُ يُقَدَّمُونَ ضَحَايَا عِنْدَ تَأْسِيْسِ البِنَاءِ ، وَ في قِرْطَاجَة أُحْرِقَ / 200 / طِفْل في وَقْتٍ واحِدٍ ، كَقُرْبانٍ للآلِهَةِ ، مِنْ أَجْلِ فَكَّ الحِصَـارِ عَنْهَـا .



الاثنين، 30 مارس 2015

(سورة الأنعام) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

            ســورة الأنعام (من اية 1 الى 110)

أسَـاطـير الأوّلـين :

( يَقُولُ الـذينَ كَـفَروا إنْ هَـذا إلاَّ أَسَـاطِـيرُ الأوَّلـينَ )[ الأنعام 25 ] :
وَ قَدْ أَهْمَلَتِ العُلُومُ الشَرْعيَّةُ دِراسَةَ الأُسْطُورَةِ ، لأَنَّ الأَسَاطيرَ تُعْنى بالخُرافَاتِ وَ اللاَّ مَعْقُول وَ حَكايَا الآلِهَـةِ المُتَعَدِّدَةِ ، فاعْتَبَرَهَا عُلَمَاءُ الشَريعَةِ أباطِيْـلاً ، وَ قَدْ سَـاعَدَ هَذا لإهْمَالَ ، البُعْـدُ الزَمَنيُّ مَـا بَيْنَ التُراثِ القديمِ وَ بَيْنَ اليَوْمِ ، حَيْثُ لَمْ يَعُدْ للتُراثِ القَديمِ أيَّ تَأثيرٍ يُذْكَرُ في حَيَاةِ النَاسِ هَذِهِ الأيَّامَ ، وَالسُؤالُ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ بِقُوَّةٍ : هَلْ يَجُوزُ إهْمَالُ دِراسَةِ التُراثِ المِصْريِّ العَريق جِدّاً ، مِنْ أجْلِ فِرْعَوْنٍ طَغى : ( اِذْهَـبْ إلـى فِرْعَـوْنَ إنَّهُ طَـغَـى )[ طه 24 ] وَ غَرِقَ مَعَ جَيْشِهِ في البَحْرِ ، وَ انْتَهى الأَمْرُ ، أمْ أنَّ دِراسَـةَ التَاريخِ القَديمِ دُونَ أسَاطيرِهِ ، هيَ دِراسَةٌ مَبْتُورَةٌ ناقِصَةٌ .
وَ تَخْتَلِفُ الأسْطورَةُ عَنِ التعاليمِ الدينيّةِ ، بِأنَّ الأسَـاطيرَ لاَ تَهْتَمُّ بِإرْشَـادِ البَشَرِ ، مِثْلَمـَا التعاليمُ الدينيّةُ ، وَ الناسُ يَخْتَبرونَ الحياةَ عَلى جانبيْنِ : العِـلْمُ وَ الأُسْطورَةُ ، وَ بِمَـا أنَّ العِلْـمَ يَزْدادُ سَـيْطَرَةً ، فَإنَّ الـوَعْيَ الأُسْـطوريَّ اللاَّعَقْـلانيَّ يَتَراجَعُ ، لأَنَّ الوَعْيَ الأُسْطوريَّ لاَ يَظهَرُ إلاَّ عِنْدَمـَا يَنْهَارُ المجْتَمَعُ العَقْلانيُّ العِلْميُّ .
وَ قَدْ كَانَ سَرْدُ الأَسَـاطيرِ ضَرورَةً حَيَويَّـةً لِلناسِ في الماضي ، لِشَحْـذِ المواهِبِ الروحيَّـةِ التي جَعَلَـتْ الإنسَان يَبْتَكـرُ أَسَاطيرَهُ لِفَهْمِ الكثيرِ مِنَ المعَـاني مِثْلَ : مَعْنى الوِلادَةِ وَ الموْتِ وَ مَا بَعْدَ الموتِ ، وَ مَعنى القَضَـاءُ وَ القَدَرُ وَ الوجُودُ ، وَ الخِصْبُ وَ البُطُولَةُ وَ قيامَـةُ الأمْواتِ وَ الخلودُ ... ، فَلِكلِّ سُـؤالٍ أُسْـطورَةٌ تُجيبُ عليـهِ ، كمَا أنَّ لِكُلِّ مَـزاجٍ أُسْطورَةٌ تُلائمُـهُ ، فبَعيداً عَنِ السُـلوكيّاتِ الدينيّةِ وَ جَدَ الإنْسانُ سُلوكيّاتٍ لاَ مَعْقولَة ٍ وَلاَ مُبَرّرَة إلاَّ عَنْ طَريقِ الأَسَـاطيرِ ، فأبْطالُ الأسَـاطيرِ عِنْدَهُ كانوا يَقومُونَ بأعْمالٍ خَارِقَةٍ ، وَ يُحَقِّقُون كافّةَ الرَغَباتِ وَ الأمَـانيِّ ، وَ يَهْزِمُونَ حتّى الآلِهَـةَ ، مِمّـا يُشِـيرُ إلى انْفِـلاتٍ لِمَكْـبوتاتِ اللاّوَعي الشَـعْبيِّ .
وَ قَدْ أغْنى القُرْآنُ الكَـريمُ العَقْلَ البَشَـريَّ بِمَـواضيعَ تَفوقُ مَـدى التَصَـوُّرِ البَشَـريِّ الذي تَحُـدّهُ قوانينُ الطَبيعَـةِ ، مِثْلَ النَاقَةِ التي خَرَجَتْ مِنَ الصَخْرِ [ ناقَةُ النبي صَـالح ] ، وَ البُراقُ الذي يَسْـتَحيلُ تَصْـنيفَهُ ضِمْنَ أيِّ فَصِيلَةٍ حَيوانيّـةٍ مَـعْروفةٍ ، كُلُّ هَذا كَيْ يَتْرُكَ للفِكْيرِ البشَـريِّ حُـرِيّةَ الانْطِلاقِ وَالتَصَوُّرِ لِمَـا وَراءِ الطَبيعَـةِ وَ قَوانينِهـَا ، بَعْدَ الإيمَـانِ بِهَذِهِ الأحْـداثِ ، وَ نَحْنُ كَمُؤمِنِينَ نَبْحَـثُ عَنِ العَـوامِل المَوْضُـوعيّةِ للحَـدَثِ الدينيِّ مثل [ الإسْـراءِ وَ المِعْـراجِ ] ، وَ نَتركُ اللاَّ مَوْضُوعيَّ فيهِ لِجـانِبِ الإيْمَـانِ ، دُونَ أنْ نكُـونَ قَدِ ارتكبْنـا خَطَـأً في حَـقِّ العِـلْمِ وَ الدينِ مَعَـاً .
وَ الأدْيـَانُ قَدْ جَاءَتْ رَدّاً عَلى الجَهْلِ المَعْـرِفيِّ [ عَصْر الجاهليّةِ ] ، وَ الحديثُ الشَريفُ : [ اللهُمَّ اهْـدِ قَوْمي فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُـونَ ] ، فالأَسَـاطيرُ أوَّلَ مَـا نَشَـأتْ في المَعَـابِدِ ، وَ كانَتْ مُهِمّتهَا تَقْـديمَ تَفْسِـيرٍ للظَـواهِرِ التي عَجِزَ الإنْسَـانُ عَنِ الوُصُـولِ لإجاباتٍ صَـادِقَةٍ عَنْهـَا ، فَجَـاءَتِ الأُسْـطُورَةُ لِتُفَسِّـرَ الحاضِرَ وَ تُعْطي الأمَـلَ في مُسْـتَقْبَلٍ أفْضَـلَ ، وَ قَـدْ قَسَّـمَتِ الأُسْـطُورَةُ العَمَـلَ إلى يَدَويٍّ وَ ذِهْنيٍّ ، وَ لِهَذا كانَتِ الأَسَـاطيرُ جـزْءاً مِنْ بُنْيَـةِ الأَدْيانِ وَ طُقُوسِ العِبَـادَةِ ، لكنَّهـَا لَـمْ تتّخِذْ صِـفَةَ الإلْـزامِ ، مِمّـا جَعَلَهـَا عُرْضَـةً دائِمَـةً للتَغْـييرِ ، وَ كَذا كانَ مَعَ الأدْيانِ وَ الرِسَـالاَتِ السَـماويّةِ التي كانَ الناسُ يُحَـرِّفونَهَا بلْ وَ يَبْتَدِعُونَ كُتُـباً سَـماويّةً مِنْ تأليفِهِـمْ : ( فَـوَيْـلٌ لِـلّـذينَ يَـكْــتُبُـونَ الـكِـتَابَ بأيْـديهِـمْ ثُـمَّ يَقُـولُـونَ هَـذا مِـنْ عِـنْـدِ اللَّـهِ )[ البقرة 79 ] ، وَ بِسَـبَبِ تَداخُلِ الأَسَـاطيرِ مَعَ الأَدْيانِ فَقَدْ بَدَأتِ المُعْتَقَداتُ بِعِبـادَةِ ظَواهِرِ الطبيعَـةِ : ( وَجَدْتُهَـا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدونَ لِلشَمْسِ مِنْ دُونِ اللَّـهِ )[ النمل 24 ] ، لذلك يقول تعالى : ( لاَ تَـسْجُدوا لِلشَمْـسِ وَ لاَ لِلقَـمَـرِ وَ اسْـجُـدوا لِلَّـذي خَـلَـقَـهُـنَّ )[ فصلت 37 ] ، ثُمَّ انتقلت المعتقدات إلى عِبادَةُ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَدَأتْ إنـاثَاً أوَّلاً : ( أَ فَـرَأيْتُمُ الـلاّتَ وَ الـعُـزَّى وَ مَـنَاتَ الـثَـالِـثَـةَ الأُخْـرى)[ النجم 19 ] ، ثُمَّ ذُكُوراً : ( فَراغَ إلـى آلِـهَـتِهِـمْ فَقَـالَ أَلاَ تَأْكُـلُـونَ )[ الصافات 93 ] ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الحُكَّامُ إلى آلِهَةٍ ، فَفِرْعَوْنُ : ( قَـالَ مَـا عَـلِـمْـتُ لَـكُـمْ مِـنْ إلَـهٍ غَـيْـري )[ القصص 38 ] .
كل هـذا و اللـه أعلـم .




(سورة المائدة) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

              ســورة المائدة (من اية 82 الى اخرها)

الخَـمْـرُ وَ المَيْسِـرُ وَالأَنْصَـابُ وَ الأزْلاَمُ :
( إنَّمَـا الـخَـمْـرُ وَالـمَـيْـسِـرُ وَالأَنْصَـابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْـسٌ مِـنْ عَـمَـلِ الـشَـيْطَـانِ فَاجْـتَنِبُوهُ )[ المائدة 90 ] ، الـخَـمْـرُ هو : كُلُّ أنْواعِ المُسْكِراتِ مَهْمَا كَانَتْ أسْمَاؤُهَا وَ أنْواعُهَا ، الـمَـيْـسِـرُ هو : كُلُّ أَنْواعِ القِمَارِ وَ المُراهَـنات ، الأَنْصَـابُ هي : هيَ كُلُّ الأشْكَالِ وَ الهَياكِلِ التي تُعْبَـدُ حَصْراً ، وَ تُقَدَّمُ لِهَـا القَرابينُ : ( وَ مَـا ذُبِحَ عَـلـى الـنُصُـبِ )[ المائدة 3 ] ، حَتَّى أَنَّ مَا يُذْبَحُ عَلى النُصُبِ غَيْرُ قَابِلٍ للتَزْكِيَةِ ، لأَنَّهُ قَدْ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله : ( أُهِـلَّ لِـغَـيْرِ اللّـهِ بِهِ )[ المائدة 3 ] ، ( فِسْـقَـاً أُهِـلَّ لِـغَـيْرِ اللّـهِ بِهِ )[ الأنعـام 145 ] ، الأَزْلاَمُ هي : كُلُّ وَسَائِلِ ضَرْبِ الحَـظِّ .
_ الرِجْـسُ : هُـو اخْتِـلاَطُ الأُمُـورِ ، وَ ضَـياعُ الصَحيحِ مِنْهَا : ( إنَّمَـا يُريدُ اللـّهُ لِـيُذْهِـبَ عَـنْكُـمُ الـرِجْـسَ أَهْـلَ الـبَيْتِ وَ يُطَـهِّـرَكُـمْ تَطْـهِـيراً ) [ الأحزاب 33 ] ، ( فَاجْـتَنِبوا الـرِجْـسَ مِـنَ الأَوْثَانِ )[ الحج 30 ] ، ( فَاعْـرِضُـوا عَـنْهُـمْ إنَّهُـمْ رِجْـسٌ )[ التوبة 95 ] ، ( كَـذَلِـكَ يَجْـعَـلُ اللّـهُ الـرِجْـسَ عَـلـى الـذينَ لاَ يُؤْمِـنُونَ )[ الأنعام 125 ] ، ( وَ أمّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ مَـرَضٌ فَزَادَتْهُـمْ رِجْـسَـاً إلـى رِجْـسِـهِـمْ )[ التوبة 125 ] .
أمَّا الرِجْـزُ : الكَسَلُ وَ العَـذَابُ وَ المُعَاناةُ : ( لَـهُـمْ عَـذَابٌ مِـنْ رِجْـزٍ أَلـيمٍ )[ سبأ 5 ][ الجاثية 11 ] ، ( وَ لَـمّـا وَ قَـعَ عَـلَـيْهِـمُ الـرِجْـزُ )[ الأَعراف 134 ] ، ( فَـأنْزَلْـنَا عَـلـى الـذينَ ظَـلَـمُـوا رِجْـزَاً مِـنَ الـسَـمَـاءِ )[ البقرة 59 ] ، ( و يُذْهِـبَ عَـنْـكُـمْ رِجْـزَ الـشَـيْطَـانِ ) [ الأنفال 11 ] ، فالشَـيْطَانُ إذَاً : لَدَيْهِ الرِجْسُ وَ الرِجْـز ُمَعَاً ، وَ اللّهُ بِكَرَمِهِ يُريدُ أَنْ يُذْهِبَهُمَا مَعَاً عن الناسِ .

( جَـعَـلَ اللّـهُ الـكَـعْـبَةَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] :
تُعْتَبَرُ الكعبَـةُ مَرْكَزاً لِلحـقِّ في الأرضِ : ( جَـعَـلَ اللّـهُ الـكَـعْـبَةَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ قِيامَـاً لِلـنَاسِ )[ المائدة 97 ] ، وَ الاتجاهُ نَحْوَ الكعْبَـةِ في الصَلَواتِ مِنْ كلِّ بِقاعِ الأرضِ ، يَجْعَلُ الكعْبَةَ في المركَـزِ ، وَ المصَلِّينَ مِنْ كُلِّ بِقاعِ الأرْضِ يُشَكِّلونُ حَلَقاتٍ دائِريَّةٍ حَوْلَهَا : ( وَ مِـنْ حَـيْـثُ خَـرَجْـتَ فَـوَلِّ وَجْـهَـكَ شَـطْـرَ الـمَـسْـجِـدِ الحَـرامِ وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُمْ فَوَلّـوا وُ جـوهَـكُـم شَـطْـرَهُ ) [ البقرة 150 ] ، مِـنْ حَـيْـثُ خَـرَجْـتَ : في الصـلاةِ وَغَيْرِ الصَـلاَةِ لِلتَزَوُّدِ بالطَاقَةِ الصَادِرَةِ عَنْهُ .
لِذَلِكَ كانَتِ الكعبَـةُ مَرْكَزَ الحَـقِّ في الأرْضِ ، وَ بِما أنَّها تَتَوَسّـطُ اليابِسـَةَ فَيُمْكِنُ اعتِبارُهَا
مَركَزَ الأرضِ الجغرافيّ ، وَ قَدْ ذُكِرَتْ مَكّةُ في القرآنِ الكريمِ باسمها الصريح بِقَوْلِهِ تعالى : ( وَ هـوَ الـذي كَــفَّ أَيدِيَهُـمْ عَـنْكُمْ وَأَيْدِيَكُـمْ عَـنْهُـمْ بِبَطْـنِ مَـكَّـةَ )[ الفتح 24 ] .
وَ مَكّةُ : اسـمٌ يَخُصّ الحَرَمَ المَكيّ ، وَ يَمتَدُّ حَوالي [ 13 كم ] حَوْل المسجدِ الحَرامِ .
وَ إذا تَأَملْنا قَوْلَهُ تَعالى : ( جَـعَـلَ اللّـهُ الـكَـعْـبَةَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ قِيَامَـاً لِلـنَاسِ )[ المائدة 97 ] ، لَبَـدا لَنـا أنَّ الكَعْبَـةَ هيَ أسَـاسُ المَنَـافِعِ بالنسبَةِ للنَاسِ عامَّـةً ، وَ للمسلمينَ خاصَّـةً وَ للحُجَّاجِ منْهمْ بوَجْهٍ أخَصُّ : ( لِـيَشَـهَـدوا مَـنَافِـعَ لَـهُـمْ )[ الحج 28 ] ، وَ أهَمُّ هذهِ المنافِعِ هيَ الحَنيـنُ للموْطِنِ الأصْليِّ ، فَلَدى جميعِ الكائناتِ الحيّةِ وَ مِنْها الإنسَانُ حَنينٌ عَجيبٌ لِمَوْطِنهَا الأصْليِّ ، فالسَلاحِفُ وَ سَـمَكُ السَلَمونِ وَ الطيورُ المهَـاجرةُ مَثَلاً ، كُلُّهَا تَعودُ لِموطِنِهَا الأصليِّ بَعْدَ طُـولِ هجْرَةٍ ، فَالناسُ في الحَـجِّ وَ العُمْرَةِ يَذْهبونَ إلى حَيْثُ يَشُدُّهُمُ الحنـينُ إلى المَوْطِنِ الأوَّلِ للإنسانيَّةِ إلى مَكَّـةَ : ( أُمَّ الـقُرى )[ الأنعام 92 ][ الشورى 7 ] ، فَمِنْ مَوْقِعِ مكَّةَ انتَشَرَتِ الإنسَانيةُ في الأرضِ ، وَإلى هَذا الموقِعِ تَعودُ بالحَـجِّ يَشُدُّها الحنينُ إلى نُقْطَةِ البَدْءِ هذهِ : ( وَ إذْ جَـعَـلْـنَا الـبَيْتَ مَـثَابَةً لِلّـنَاسِ وَ أَمْـنَاً )[ البقرة 125 ] ، مَـثَابَةً لِلّـنَاسِ : مَرْجِعـاً يرجعـونَ إليْـه .
لِذا يَكْفي إعْلانُ الحَـجِّ فَقَطْ حَتَّى يَتَوافَدَ الناسُ غَيْرَ عابِئـينَ بالمَشَقَّةِ وَ مَخَاطِرِ السَفَرِ وَ بُعْدِ المسَافَةِ : ( وَ أَذِّنْ فـي الـنَاسِ بالـحَـجِّ يَأْتُوكَ رِجَـالاً وَ عَـلـى كُـلِّ ضَـامِـرٍ يَأْتِيْنَ مِـنْ كُـلِّ فَجٍّ عَـمـِيقٍ )[ الحج 27 ] ، رِجَـالاً : مُشَـاةً على أرْجُلِهِمْ مُتَحَمِّلينَ مَشَـاقَّ السـيرِ ، وَ عَـلـى كُـلِّ ضَـامِـرٍ : رُكوباً على الحيواناتِ الضامِـرَةِ مِنْ طولِ السَفَرِ ، يَأْتِيْنَ مِـنْ كُـلِّ فَجٍّ عَـمـِيقٍ : دليلَ بُـعْدِ المسَـافَةِ مِنْ جهَةٍ ، وَ عُمْقِها مِنْ جِهَـةٍ أخْرى ، فَكلِمَةُ [ عميق ] دَليلُ كرويَّـةِ الأرْضِ .
و الكَـعْبَةُ هيَ رَمْـزُ وَحْـدَةِ المسلمينَ ، فَبِدونِهَـا لاَ يَقومُ لَـهُمْ ذِكْرٌ وَ لا شَـأْنٌ وَ لا حَيَـاةٌ ، وَ لَنْ تَنْمـو لَهمْ قـوَّةٌ إذا لَمْ يُعْطـوا هذا البَيْتَ العَـتيقَ قيمَتَهُ الحَقيقيّةُ ، وَ إعطاءَ شَعَـائِرِهِ أبْعادَهـَا الإنسانيـّةَ العامّـةَ : ( وَ مَـنْ يُـعَـظِّـمْ شَـعَـائِـرَ اللّـهِ فَـإنَّـها مِـنْ تَـقْـوى الـقُـلوبِ ) [ الحج 32 ] ، فَكُلُّ إنْسانٍ مُسْلِمٍ في العَـالَمِ ، يَسْتَطيعُ عِبادَةَ اللهِ الواحِدِ و الصلاةِ لَـهُ دونَ الخَوْفِ مِنْ أحَدٍ ، وَ يَتَوَجَّهُ إلَيْها وَ يَقْصدُهـَا المؤمِنونَ مِنْ كُلِّ بِلادِ العَالَمِ ، لِيَجِدوا فيها الأمْنَ وَ السلامَ المفْقودَيْنِ بيْنَ شُعوبِ الأرْضِ : ( أَ وَ لَـمْ يَـرَوْا أنَّا جَـعَـلْـنَا حَـرَمـاً آمِــناً وَ يُـتَـخَــطَّـفُ الـنَاسُ مِـنْ حَـوْلِـهـمْ )[ العنكبوت 67 ] ، ( أَ وَ لَـمْ نُـمَـكِّـنْ لَـهُـمْ حَـرَمـاً آمِـنـاً يُجْـبى إلَـيْهِ ثَمَـراتُ كُـلِّ شَـيْءٍ رِزْقَـاً مِـنْ لَـدُنَّـا )[ القصص 57 ] ، ( وَ مَـنْ دَخَـلَـهُ كَـانَ آمِـناً )[ آل عمران 97 ] ، وَ لِهذا أصْبَحَتْ مَكَّةُ مَرْكَزاً لِلثَقافاتِ العالَميَّةِ المتنوِعَةِ حَيْثُ يَحِجُّ إلَيْها المسلِمونَ مِنْ كلِّ بِلادِ العَالَمِ عَلى اختِلافِ أجْناسِهِمْ فهيَ أهَـمُّ مَرْكَزٍ دِينيٍّ عالَميٍّ .
وَ الكَـعْبَةُ لُغَـةً : هيَ الغُرْفَـةُ المرَبَّـعَةُ ، فَهيَ بِنـاءٌ مُكَـعَّبُ الشَـكْلِ ، ارتِفاعُهَـا 16 متـراً ، وَ طـولُ ضِلْعِهـَا الذي يحـوي البـابَ = 12 متـر ، وَ طولُ ضِلْعِها لذي يّحوي [ الميزابِ و هو مزرابُ السطحِ ] = 10 متر وَ 10 سم ، يَرْتَفِـعُ بابـُها مترَينِ عَن الأرضِ وَ يَتَّجِهُ للشِمالِ الشَرْقيِّ ، وَ تُسَمَّى زَواياهَـا أرْكانٌ ، وَ الركْنُ الذي عَلى يَسَارِ البابِ يَحْتَوي الحَجَـرَ الأسْـوَدَ عَلى ارتفاعِ مترٍ وَ نِصْفٍ ، وَ هيَ بِنـاءٌ مِنَ الحَجَرِ الرَماديِّ ، وَ الزاويةُ الشماليّةُ تُسمّى العراقيّـةُ ، و الغربية تُسَمّى السـوريّةُ ، وَ الجنوبيّـةُ تُسمّى اليمنيّـةُ ، وَ يَقَعُ الحَطيمُ في جِهَتِها الغربيّةِ .
كانَتِ الكعْبَةُ قائِمَةً قَبْلَ إبراهيمَ عليهِ السلام ، لَكِنَّها كانَتْ مُنْدَثِرَةً ، فَأمَرَ اللهُ نَبِيَّـهُ إبراهيمَ بإعادَةِ بِنائِهـا في مَكانِها السابِقِ : ( وَ إذْ بَـوَّأْنَـا لإبـراهـيـمَ مَـكَــانَ الـبَيْـتِ )[ الحج 26 ] ، وَ ذَلِكَ : ( بِـوَادٍ غَـيْـرِ ذي زَرْعٍ )[ إبراهيم 37 ] ، عَلى مُفْتَرَقِ طرُقِ القوافِلِ ، فَبَنى بِمُسَاعَدَةِ ابْنِـهِ إسْماعيل عليهما السلام قَواعِدَهَـا فقطْ : ( وَ إذْ يـرْفَعُ إبراهـيمُ الـقَـواعِـدَ مِـنَ الـبيتِ وَ إسْـمَـاعِـيلَ )[ البقرة 127 ] ، وَ كانتْ بِدونِ سَقْفٍ ، وَ ارتِفاعُهَا حوالي مترين حَتَّـى سَقَفَها [ قُصَيُّ بن كِلاب ] في القرن الثاني قَبْلَ الهجرَة ، وَ رَفَعَ بابَهَا حَوالي مترَين ، وَأخْرَجَ مِنْها حِجْرَ إسْماعيلَ [ الحَطيمُ ] ، وَ قَدْ أعَادَتْ قُرَيْـشُ بِناءَ هَا بَعْدَ أنْ تَصَدَّعَتْ جدْرانُهَا ، بِسَبَبِ سـَيْلٍ جَارفِ أصَابَها مِنْ بَعْـدِ حَريقٍ ، حيثُ شَـارَكَ الرسولُ الكريمُ صلى اللهُ عليهِ وَ سلَّم ببنائِهَا ، وَ وَضَعَ الحجَرَ الأسـوَدَ مَكانَهُ ، وَ كانَ عمرُهُ الشَريفُ وَقْتَ ذاك 35 عَامَاً ، وَ كَانَ آخِرُ بِنَاءٍ للكَعْبَةِ وَ الذي يَطُوفُ حَوْلَهُ المُسْلِمُونَ الآنَ قَدْ تَـمَّ في عَام 1040 هجريّةِ المُوافِقُ عامَ 1630 ميلاديّةٍ

( مَـا جَـعَـلَ اللَّـهُ مِـنْ بَحِـيرَةٍ وَ لاَ سَـائِبَةٍ وَ لاَ وَصِـيْلَـةٍ وَلاَ حَـامٍ )[ المائدة 103 ] :
_ البَحيِـرَةُ : إذا وَلَدَتِ الـدَابَّةُ خَمْسَـةَ أبْطُنٍ ، وَ كَانَ الوَلَدُ الخَامِسُ ذَكَـراً ، ذُبِحَ وَ أكَلَهُ الرِجَالُ وَالنِسَاءُ ، أمَّـا إذا كَانَ الوَلَدُ الخَامِسُ أُنْثى ، بَحَروا - شَقُّوا - أُذُنَهَا وَ يَحْرُمُ أكْلُهَا عَلى النِسَاءِ .
_السَـائِبَةُ : يُنْذَرُ الحَيَوانُ للرَجُلِ إذَا شُـفِيَ مِنَ المَرَضِ أوْ أوْصَلَهُ لِهَدَفِهِ فإنَّ الحَيَوانَ يُتْرَكُ سَـائِبَاً لاَ يُرْكَبُ وَلاَ يُذْبَحُ وَ اَ يُمْنَعُ مِنَ الرَعْي حَيْثُ يَشَـاءُ .
_ الوَصِـيلَةُ : إذا وَلَدَتِ الدَابَّةُ سَـبْعَةُ أبْطُنٍ ، وَكَانَ السَابِعُ ذَكَراً ذَبَحُوهُ ، وَإنْ كَانَتْ أُنْثى تُرِكَتْ ، وَ إنْ كَانَ البَطْنُ السَابِعُ تَوْأمَـاً [ ذَكَراً وَ أُنْثى ] ، قَالُوا : وَصَلَتْ أخَاهَا ، فَلَمْ تُذْبَحْ . _ الحَـامُ : الفَحْـلُ الذَكَرُ ، إذا نَتَـجَ مِنْ صُـلْبِهِ عَشَـرَةُ وِلاَدَاتٍ ، قَالُوا : حَمى ظَهْـرَهُ ، فَلاَ يُذْبَحُ وَ لاَ يُرْكَبُ وَ يُتْرَكُ حُـرّاً .

 كل هذا والله اعلم

الأحد، 29 مارس 2015

(سورة المائدة) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

            ســورة المائدة (من اية 1 الى 81)


أوْفـوا بالعُـقُـودِ :
نُلاَحِظُ عَلى الآيَةِ الأُولى مِنْ سُورَةِ المَائِدَةِ : ( يَا أيُّهَـا الـذينَ آمَـنُوا أَوْفُوا بِالـعُـقُـودِ أُحِـلَّـتْ لَـكُـمْ بَهِـيْمَـةُ الأنْعَـامِ )[ المائدة 1 ] ، العُقُودُ هُنا لَيْسَتْ العُقُودُ التجاريّة ، لأنَّ : [ عَقَدَ ] عُنُقَ الدابّةِ أيْ : لَواهَا وَ هَيَّـأَها لِلْذَبْحِ الحـلالِ ، فأصْبَحَ المَعْنى : يا أيُّهَا الذينَ آمَنوا إذَا ذَبَحْتُمْ على الطريْقَةِ الإسْلاميّةِ [ مِنَ العُنُقِ ] ، سَتَكونُ بَهيمَةُ الأنْعامِ حلالاً عَلَيْكُمْ ، وَ إذا ذَبَحْتُمْ على أيِّ طريقَةٍ أُخْرى كالصَعْقِ الكهْربائِيِّ ، فإنَّ الذبْحَ لَنْ يَكُونَ حلالاً ، وَ لِذَلِكَ نَقُولُ : [ عِقْد المرْأةِ ] لأنَّهُ يُوضَعُ في العُنُقِ ، وَ عَقْدُ الشَيْءِ : وُجُوبُهُ وَ أحْكامُهُ وَ مِنْهُ العَقيـدَةُ ، وَ قَدْ رَكَّزَت الآيَةُ الكريْمَةُ عَلى أنْ يَسِيْلَ الدَمُ مِنَ رَقَبَةِ الدابَّةِ حَصْراً ، وَ لَيْسَ مِنْ أيِّ مَكانٍ آخَرَ مِثْلَ الدابَّةِ التي أكَلَهَا حَيَوانٌ مُفْترِسٌ ، وَ قَدْ تَمَّ إيْضَاحُ تحريم أكل أنواع من الحيوان ماتت بالطرق المختلفة ما عدا الذبح الحلال ، في الآيَةِ الكريمَةِ التالية : ( الـمَـوْقُوذَةُ وَ الـمُـتَرَدِّيَةُ وَ الـنَطِـيحَـةُ وَ مَـا أكَـلَ الـسَـبْعُ إلاّ مَـا ذَكَّـيْتُمْ )[ المائدة 3 ] ، الـمَـوْقُوذَةُ : المضروبة بآلةٍ ثَقيلَة ، الـمُـتَرَدِّيَةُ : سقطت من مكان عالٍ ، الـنَطِـيحَـةُ : ضربها حيوان آخر بِقُرونِـهِ ، مَـا أكَـلَ الـسَـبْعُ : حيوان مفترس ، أيْ لاَ بُدَّ مِنَ التذْكِيَـةِ وَ هي : الذَبْـحُ الحلال ، فالطَعَـامُ الفَاسِـدُ يُفْسِـدُ الجِسْمَ ، وَ يُعْطِيْهِ طَاقَـةَ [ احْـتِراق ] وَ لَيْسَ طَاقَـةَ [ إئْـتِـلاق ] .

( الـهَـدْيَ وَ الـقَـلاَئِـدَ )[ المائدة 97 ] :
الهَـدْيُ : هُوَ الذَبَيحَةُ التي تُهْدى إلى الكَعْبَةِ ، وَ مِثْلُهُ القَلاَئِدُ حَيْثُ تُوضَعُ القِلاَدَةُ للذَبيحَةِ كَإشَارَةٍ : ( يَا أيُّهَـا الـذينَ آمَـنُوا لاَ تَحِـلُّـوا شَـعَـائِرَ اللّـهِ وَلاَ الـشَـهْـرَ الـحَـرامَ وَ لاَ الـهَـدْيَ وَ لاَ الـقَـلاَئِـدَ وَ لاَ آمِّـينَ الـبَيْتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 2 ] ، ( وَ الـهَـدْيَ وَ الـقَـلاَئِـدَ )[ المائدة 97 ] ( هَـدْيَاً بَالِـغَ الـكَـعْـبَةِ )[ المائدة 95 ] ، ( حَـتّى يَبْـلُـغَ الـهَـدْيُ مَـحِـلَّـهُ )[ البقرة 196 ] ، ( هُـمُ الـذينَ كَـفَروا وَ صَـدُّوكُـمْ عَـنِ الـمَـسْـجِــدِ الـحَــرامِ وَ الـهَـدْيَ مَـعْـكُـوفَاً أَنْ يَبْـلُـغَ مَـحِـلَّـهُ )[ الفتح 25 ] ، مَـعْـكُـوفَاً : ثَابِتَـاً مَكَانَهُ ، أَنْ يَبْـلُـغَ : مَمْنُـوعٌ أنْ يَبْلُغَ ، مَـحِـلَّـهُ : مَكانَ ذَبْحِـهِ ، ( فَإنْ أُحْـصِـرْتُمْ فَمَـا اسْـتَيْسَـرَ مِـنَ الـهَـدْيِ )[ البقرة 196 ] ، أُحْـصِـرْتُمْ : مُنِعْتُمْ مِنَ الحَـجِّ أوِ العُمْـرَةِ لأيِّ سَبَبٍ كَانَ .

( فَاغْسِـلُـوا وُجُـوهَـكُـمْ وَ أيْـدِيَكُـمْ إلـى الـمَـرافِقِ وَامْــسَـحُـوا بِـرُؤوسِـكُـمْ وَأرْجُـلَـكُـمْ ) [ المائدة 6 ] :
عِنْدَمَـا يَدْخُلُ ضَوْءُ النَهَـارِ إلى الغِلاَفِ الجَوّي لـلأرْضِ ، فَإنَّ إحْدى هَذه طَبَقَاتِ الغِلاَفِ وَ هيَ طَبَقَةُ الأيونوسفير تَتَأيَّنُ [ تَتَكَهْرَبُ ] ، وَ تَسْتَقْبِلُ الأجْسَامُ المَوْجُودَةُ عَلى سَطْحِ الأرْضِ [ وَ مِنْ بَيْنِهَا الإنْسَانُ ] هَذِهِ الشحْناتُ الكَهْرُبائِيَّةُ ، وَ تَتَكَهْرَبُ بِهَا فَعْنْدَ لِبْسِ أوْ خَلْعِ كَنْزَةٍ صُوفيَّةٍ مَثَلاً ، نُلاَحِظُ ظُهُورَ شَراراتٍ كَهْرُبائِيَّةِ بِيْنَها وَ بَيْنَ شَـعْرِ الإنْسـانِ ، وَ إذَا شُحِنَ جِسْمٌ بِشُـحْنَةٍ كَهْرُبائِيَّـةٍ ، فَإنَّ الشُحْناتِ تَتَمَرْكَزُ عَلى نِهَايَاتِ الجِسْـمِ ، وَ إذَا تَأمَّلْنَا في الوُضُوءِ نُلاَحِظُ بِبَسَـاطَةٍ أنَّـهُ : عَمَلِيَّةُ إيْصَـالِ المَـاءِ إلى نِهَـايَاتِ جِسْـمِ الإنْسَانِ الخَمْسَـةِ فَقَطْ : ( يَـا أيُّـهَـا الـذينَ آمَـنُـوا إذا قُـمْـتُمْ إلـى الـصَـلاة ِ فَاغْسِـلُـوا وُجُـوهَـكُـمْ وَ أيْـدِيَكُـمْ إلـى الـمَـرافِقِ وَ امْـسَـحُـوا بِـرُؤوسِـكُـمْ وَ أرْجُـلَـكُـمْ إلـى الـكَـعْـبَيْنِ )[ المائدة 6 ] ، أرْجُـلَـكُـمْ : معطوفة على الوجوه ، لِذَلِكَ يَجبُ غَسْـلُ الرِجْلَيْنِ لاَ مَسْحِهِما فقط ، و الخلاصة في الوضوء : الجلدُ يُغسل و الشعر يُمسح .
وَ نُلاَحِظُ أنَّ المَناطِقَ الواقِعَة بَيْنَ كَعْبَيْ الإنْسَانِ وَ رَقَبَتِهِ لَيْسَ لَهَا عَلاَقَـةٌ بالوُضُوءِ ،
وَ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا غُبَارٌ أوْ تَعَرُّقٌ مَثَلاً ، و لذلكَ يُمسَحُ أعلى الـخُفّ و لـيْسَ أسـفلَهُ ، لأنّ أسـفلَهُ يُلامسُ الأرْضَ و لا يحـتـوي شحـنات كهـربائيَة .

( مِـيْثَاقَهُ الـذي وَاثَقَـكُـمْ بِهِ إذْ قُلْـتُمْ : سَـمِـعْـنا وَ أَطَـعْـنا )[ المائدة 7 ] :
العَهْـد هو : وَعْدٌ أكِيْدٌ بِتَنْفيذِ أَمْرٍ مَـا ، و المِيْثَـاق هو : تَعْليْمَاتٌ إلهيّـة يُنَفِّذُهَا المُؤْمِنُ بِسَـعادَة ، و هذا ما نجده في الآيات الكريمة التالية :
( وَ الـمُـوفُونَ بِعَـهْـدِهِـمْ إذَا عَـاهَـدوا )[ البقرة 117 ] ، ( وَ أَوْفُـوا بِالـعَـهْـدِ إنَّ الـعَـهْـدَ كَـانَ مَـسْـؤولاً )[ الإسراء 34 ] ، ( مِنَ الـمُـؤْمِنينَ رِجَـالٌ صَـدَقُوا مَا عَـاهَـدوا اللّهَ عَـلَـيْهِ ) [ الأحزاب 23 ] ، ( وَ مَـنْ أوْفـى بِعَـهْـدِهِ مِـنَ اللّـهِ )[ التوبة 111 ] ، ( وَ الـذينَ هُـمْ لأمَـاناتِهِـمْ وَ عَـهْـدِهِـمْ راعُـون )[ المؤمنون 8 ][ المعارج 32 ] ، ( الـذينَ يُوفُونَ بِعَـهْـدِ اللّـهِ وَ لاَ يَنْقُضُـونَ الـمِـيْثَاقَ )[ الرعد 20 ] ، ( وَ مَـنْ أوْفـى بِمَـا عَـاهَـدَ عَـلَـيْهُ اللّـهَ فَسَـيُؤْتيْهِ أَجْـراً عَـظِـيْمَـاً ) [ الفتح 10 ] ، ( وَ أَوْفُوا بِعَـهْـدِ اللّـهِ إذَا عَـاهَـدْتُمْ )[ النحل 91 ] ، ( وَ بِعَـهْـدِ اللّـهِ أَوْفوا ) [ الانعام 152 ] ، ( وَ مَـا وَجَـدْنا لأكْـثَرِهِـمْ مِـنْ عَـهْـدٍ )[ الأعراف 102 ] ، ( أَوَ كُـلَّـمَـا عَـاهَـدوا عَـهْـداً نَبَذَهُ فَـريْقٌ مِـنْهُـمْ )[ البقرة 100 ] ، ( وَ الـذين يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَ اللّـهِ مِـنْ بَعْـدِ مِـيْثَاقِهِ )[ الرعد 25 ] ، ( قَالَ لاَ يَنالُ عَـهْـدي الـظَـالِـمِـيْن )[ البقرة 124 ] ، ( الـذينَ عَـاهَـدْتَ مِـنْهُـمْ ثُمَّ يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَهُـمْ فـي كُـلِّ مَـرَّةٍ )[ الأنفال 56 ] ، ( وَ كَـانَ عَـهْـدُ اللّـهِ مَـسْـؤولاً )[ الأحزاب 15 ] ، ( وَ لَـقَـدْ عَـهِـدْنا إلـى آدَمَ مِـنْ قَبْلُ فَنَسِـيَ وَ لَـمْ نَجِـدْ لَـهُ عَـزْمَـاً )[ طـه 115 ] ، وَ المُؤْمِنُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللـهِ مِيْثَـاقٌ عَلى السَـمْعِ وَ الطَـاعَةِ بِرِضى وَ دُونَ نِقَاشِ : ( مِـيْثَاقَهُ الـذي وَاثَقَـكُـمْ بِهِ إذْ قُلْـتُمْ : سَـمِـعْـنا وَ أَطَـعْـنا )[ المائدة 7 ] ، وَ يَأْتي العَهْـدُ بَعْدَ الميْثَـاقِ : ( وَ الـذين يَنْقُضُـونَ عَـهْـدَ اللّـهِ مِـنْ بَعْـدِ مِـيْثَاقِهِ )[ الرعد 25 ] ، ( وَ قَدْ أَخَـذَ مِـيْثَاقَـكُـمْ إنْ كُـنْتُمْ مُـؤْمِـنين )[ الحديد 8 ] ، وَ الميْثـاقُ : سَـمِعْنا وَأطَعْنَـا : ( آمَـنَ الـرِسُـولُ بِمَـا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِـنْ رَبِّهِ وَ الـمُـؤْمِـنُونَ كُـلٌّ آمَـنَ بِاللّـهِ وَ مَـلائِـكَـتِهِ وَ كُـتُبِهِ وَ رُسُـلِـهِ وَ قَالـوا : سَـمِـعْنا وَ أَطَـعْـنَا )[ البقرة 285 ] ، وَ بِدونِ جَدَلٍ أوْ نِقاشٍ أوْ إعْتِراضٍ وَ حتّى التَنْفيذ بِرِضى وَ سَعادَة : ( فَـلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِـنُون حَـتّى يُحَـكِّـمُـوكَ فِيْمَـا شَـجَـرَ بَيْنَهُـمْ ثُمَّ لاَ يَجِـدوا فـي أنْفُسِـهِـمْ حَـرَجٌ مِـمَّـا قَـضَـيْتَ وَ يُسَـلّـمُـوا تَسْـلـيْمَـاً )[ النساء 65 ] ، وَ هَذَا يُظْهِرُ الفَرْقَ بَيْنَ المُـؤْمن وَ المُسْـلِم .

( و كـيْفَ يُـحَـكّـمـونـك و عـندهُم التـوراة فيهـا حُـكْـمُ اللـه )[ المـائدة 43 ] :
القُرْآنُ الكَريمُ يَحْتَوي أيْضَاً على الفُرْقـَانِ ، الذي نَزَلَ مِنْ قَبْلُ عَلى موسى عليه السلام : ( تَبَارَكَ الـذي نَزَّلَ الـفُرْقَانَ عَـلـى عَـبْدِهِ )[ الفرقان 1 ] ، ( وَ أنْزَلَ الـتَوْراةَ وَ الإنْجِـيلَ مِـنْ قَـبْلُ هَـدَىً لِلـناسِ وَ أنْزَلَ الـفُرْقَانَ )[ آل عمران 3 / 4 ] ، ( وَ إذْ آتَيْنَا مُـوسَـى الـكِـتَابَ وَ الـفُرْقَانَ )[ البقرة 53 ] ، ( وَ لَـقَـدْ آتَيْنَا مُـوسَـى وَ هَـارونَ الـفُرْقَانَ )[ الأنبياء 48 ] ، وَ الجِـنّ أيْضَاً عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فَقَطْ بالقُرْآنِ الكَريمِ وَ كِتابِ موسى عليه السلام : ( وَ إِذْ صَـرَفْنَا إلَـيْكَ نَفَراً مِـنَ الـجِـنِّ يَسْـتَمِـعُـونَ الـقُرْآنَ فَلَـمَّـا حَـضَـروهُ قَالـوا أنْصِـتُوا فَلَـمَّـا قُضِـيَ وَلّـوْا إلـى قَـوْمِـهِـمْ مُـنْذِرينَ قَالـوا يَا قَـوْمَـنا إنَّا سَـمِـعْـنا كِـتَاباً أُنْزِلَ مِـنْ بَعْـدِ مُـوسـى )[ الأحقاف 29 / 30 ] .
فَمَا أشْبَهَ كِتابُ مُوسى عليْهِ السَلام بالقُرْآنِ الكَريمِ فَكِلاَ الكِتابَيْنِ فيهِ هُدَىً وَ رَحْمَةً وَ تَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُـوسَـى الـكِـتَابَ تَمَـامَـاً عَـلَـى الـذي أحْـسَـنَ وَ تَفْـصِـيلاً لِـكُـلِّ شَـيْءٍ وَ هُـدَىً وَ رَحْـمَـةً )[ الأنعام 154 ] ، ( وَ كَـتَبْنَا لَـهُ فـي الألْـواحِ مِـنْ كُـلِّ شَـيْءٍ مَـوْعِـظَـةً وَ تَفْـصِـيْلاً لِـكُـلِّ شَـيْءٍ )[ الأعراف 145 ] ، وَ هَذِهِ هيَ صِفَاتُ القُرْآنِ الكَريمِ ، أيْ الهُدى وَ الرَحْمَةُ وَ تَفْصيلُ كُلِّ شَـيْءٍ : ( وَ نَزَّلْـنَا عَـلَـيْكَ الـكِـتَابَ تِبْيَانَاً لِـكُـلِّ شَـيْءٍ وَ هُـدَىً وَ رَحْـمَـةً وَ بُشْـرى لِلـمُـسْـلِـمِـينَ )[ النحل 89 ] ، ( مَـا كَـانَ حَـدِيثَاً يُفْتَرى وَ لَـكِـنْ تَصْـديقَ الـذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِـيلَ كُـلِّ شَـيْءٍ وَ هُـدَىً وَ رَحْـمَـةً لِـقَوْمٍ يُؤْمِـنُونَ )[ يوسف 111 ] .

كل هـذا و اللـه أعـلم .



(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)


ســورة النساء (من اية 124 الى اخرها)

( لا يُحـبّ اللـه الـجـهْـر بالسـوء مـنَ القـول )[ النساء 148 ] :
الكلامُ الفاسِـدُ ، خَاصَّةً [ الخَنـَا ] : أيْ كَلاَمُ العُهْـرِ ، يُفْسِـدُ النَفْسَ ، لِذَلِكَ كَانَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ الذي هُوَ كَلاَمُ اللّهِ ، يُزَوِّدُ النُفُوسَ بِالطَـاقَةِ السَامِيَةِ ، مِثْلَمَا يُزَوِّدُ الطَعَـامُ الصَالِحُ الجِسْمَ بِالطَاقَةِ الحَيَوِيَّةِ ، فَمُتْعَةُ الحَيَـاةِ في لُقْمَةٍ طَيِّبَةِ وَ كَلِمَةٍ طَيِّبَـةٍ ، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لاَ يُخْرِجُكَ [ العُسْرُ وَ اليُسْرُ ] عَنِ الأخْلاقِ ، فالعُسْـرُ وَ اليُسْرُ لَيْسَـا خَيْراً أوْ شَـرَّاً بِحَدِّ ذَاتِهِمَا ، بَلْ قَدْ يَكُونانِ خَيْراً أوْ شَـرَّاً ، وِفْقَـاً لِمَـا يُمْلِيَـانِهِ عَلَيْكَ مِنْ شُـعُورٍ .
وَ الأصَـالَةُ : ضَمِيْرٌ طَاهِرٌ ، وَ فِكْرٌ وامِضٌ ، وَ قَلْبٌ نابِضٌ، وَ قَدَمٌ ثَابِتٌ ، وَ يَدُ مَمْدودَةٌ بِالخَيْرٍ ، فَلاَ يُخْرِجُكَ عَمَلُكَ عَنْ ضَمِيْرُكَ ، وَ الإيْمَـانُ يَحْتاجُ إلى وَعْي ، وَ مُشْكِلَةُ كُلِّ أصْحَـابِ دِيْنٍ ، لاَ يَعُونَ مَا هُمْ مُؤْمِنُونَ بِـهِ ، وَ لَوْ وَعَـوْا لَمَـا تَنازَعُـوا ، وَ كَفَّرَ بَعْضُهُـمْ بَعْضَـاً ، وَ ضَعْفُ النُفُوسِ وَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الدِيْنِ ، هُوَ الذي جَعَلَ مِنْهُ عِلَّـةَ التَفْرِقَـةِ ، فَدَعْ قُـوَّةَ رَأْيِكَ تَفْرِضُ نَفْسَهَا وَ لَيْسَ قُـوَّةَ يَدِكَ ، و [ قوّة المحبة ] أفضل من [ محبة القوة ] .

( وَ الـمُـقِـيمِـينَ الـصَـلاَةَ وَ الـمُـؤْتُونَ الـزَكَـاةَ )[ النساء 162 ] :
نَصَبَ كَلِمَةَ ( المُقيمينَ ) في قَوْلِهِ تَعالى : ( لَـكِـنِ الـراسِـخُـونَ فـي الـعِـلْـمِ مِـنْهُـمْ وَ الـمُـؤْمِـنُونَ يُؤْمِـنُونَ بِمَـا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَ مَـا أُنْزِلَ مِـنْ قَبْلِـكَ و الـمُـقِـيمِـينَ الـصَـلاَةَ وَ الـمُـؤْتُونَ الـزَكَـاةَ )[ النساء 162 ] ، فالسَبَبُ هُوَ أيْضَـاً : أنَّ [ الواو] لَيْسَتْ [ واو العَطْفِ ] بَلْ [ واو المُعْتَرِضَةِ ] ، فَتَمَّ النَصْبُ عَلى المَـدْحِ [ عَلى الاخْتِصَاصِ ] .

( وَ آتَيْنَـا داوودَ زَبُوراً )[ النساء 163 ] :
الـَزبُورِ : هُوَ الكِتَابُ الذي لاَ يَحْتَوي عَلى تَشْريعٍ ، بَلْ عَلى مَعْلومَاتٍ مُجَـرَّدَةٍ ، فأعْمالُ الناسِ مَثَلاً يَجري تَسْجيلُهَا في الزُبُـرِ: ( وَ كُـلُّ شَـيْءٍ فَـعَـلُـوهُ فـي الـزُبُرِ )[ القمر52 ] ، ( أَمْ لَـكُـمْ بَراءَةٌ فـي الـزُبُرِ )[ القمر43 ] ، وَ الكَثيرُ مِنْ كُتُبِ الأوَّلينَ كَانَتْ زُبُـراً : ( وَ إنَّهُ لَـفـي زُبـُرِ الأوَّلـِينَ )[ الشعراء 196 ] ، ( وَإنْ يُكَـذِّبُوكَ فَقَدْ كَـذَّبَ الـذينَ مِـنْ قَبْلِـهِـمْ جَـاءَتْهُـمْ رُسُـلُـهُـمْ بالـبَيِّنَاتِ وِ بِالـزُبُرِ وَ بالـكِتَابِ الـمُـنيرِ)[ فاطر 25 ] ، ( فَإنْ كَـذِّبُوكَ فَقَـدْ كُـذِّبَ رُسُـلٌ مِـنْ قَـبْلِـكَ جَـاءوا بالـبَيِّنَاتِ وِ الـزُبُرِ وَ الـكِـتَابِ الـمُـنيرِ )[ آل عمران 184 ] ، وَ مِن بَيْنِهَا كِتَـابُ داوودَ عليه السلام : ( وَ آتَيْنَـا داوودَ زَبُوراً )[ الإسراء 55 ][ النساء 163 ] ، و في الشـعر نجـد :
لِمَنِ الطَلَلُ أبْصَرْتُهُ فَشَـجَاني .... كَخَطِّ زَبُـورٍ في عَسيْب يَمَـاني
وَ جَلاَ السُيُولِ عَنِ الطُلولِ كَأَنَّها .... زُبُـرٌ تَجِـدُّ مُتُونُهَـا أقْلامُهُ .

كل هذا والله اعلم.




السبت، 28 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

ســورة النساء (من اية 24 الى 124)
(مَـا مَلَكتْ أيمـانكُم)[النساء 24]
يجب التمـييز بين :
إمَـاء : و هُـنّ [ سـبايا الحرْب ] 
أيـامى : و هُـنّ [ غـيـر الـمـتـزوّجـات ] .
مـلْك اليمين : و هُنّ اللواتي [ يعملْن في البيوت مُقابل أجْر ] في العصر الحديث .
.
و قـد طـالب القرآن الكريم بالزواج من [ الإمَـاء = سـبايا الحرب ] زواجـاً شـرعيّاً ، مثل أي فتاة أخرى [ أيّـم = غـير متزوّجة ] في المجتمع ، فقال تعالى : ( و أنكحـوا الأيـامى منكُـم و الصالحين منْ عبـادكم و إمـائكُم )[ النور 32 ] ، و سورة النور هي سورةٌ [ مفروضة ] لقولـه تعالى في بدايتهـا : ( سورةٌ أنزلناهـا و فَرضْناها )[ النور 1 ] .
.
مـلْـك الـيمـين :
ورد ذكـرهُنّ في القرآن الكريم ، في عدّة مواضع هي :
_ ( مَـا مَلَكتْ أيمـانكُم ) 7 مرّات ، في سُوَر النور / النساء / الروم .
_ ( مَـا مَلَـكتْ أيمـانُهُـم ) 4 مرّات ، في سُوَر المؤمنون / الأحزاب / النحل / المعارج . _ _ ( مَـا مَلَكتْ يميـنُك ) 2 مرّة ، في سُورة الأحزاب 50 / 52 .
_ ( مـا ملَكـتْ أيمـانهُنّ ) 2 مرّة ، في سُورتيْ النور 31 و الأحزاب 55 .
فإذا كان مسموحٌ للرجُل إقـامة العلاقات الجنسيّة مع [ ملْك اليمين ] ، فمـاذا سنقول في قولـه تعالى : ( مَـا ملكتْ أيمـانهُنّ ) !!!!!! .
.
الـزواج من [ ملْك اليمـين ] :
إذا أراد الرجُلُ الزواج من اُنثى زواجاً شـرعيّاً [ مهْـر + عقد شرعيّ ] ، فقد وضَع لـه القرآن الكريم احتمـاليْن :
1 _ الزواج من [ مُحصـنة = ابنة عائلة معروفة في البلدة ] ، و إذا كان ذلك يتطلّب تكاليف ماليّة كبيرة [ تأمين السكن و الفرش و تكاليف حفلة الزواج و ارتفاع المهر .. ] ، عند ذلك يُمكنه الزواج من :
2 _ [ مـلْك اليمين = إنسانة تعمل بأجر في بيوت الناس أو بيته ] ، و في هذه الحالة تكون التكاليف المـاليّة أقلّ .
و الدليل على أنّ السبب هو سـببٌ [ مـاليّ ] فقط ، يقول تعالى صراحةً : ( و مَنْ لـم يستطعْ منكُم طَـوْلاً أنْ ينكح المُحصـنات المؤمنات ، فمن مَـا مَلَكت أيمـانكم منْ فتياتكم المؤمنات )[ النساء 25 ] ، إذا : إمّـا الزواج من [ المُحصنة ] ، أو الزواج من [ ملْك اليمين ] ، و ليس الإثنتين معـاً .
و تُتابع الآية الكريمة عن ملْك اليمين : ( فانكحوهُنّ بإذن أهلهنّ ، و آتوهُنّ اُجورهُنّ بالمعروف )[ النساء 25 ] ، أيْ : الزواج بموافقة أهلهـا + المهر الذي تعارف عليه المُجتمع ( بالمعروف ) .
و تُتابع الآية الكريمة : ( مُحصـنات غيْرَ مُسـافحاتٍ و لا مُتّخذات أخدان )[ النساء 25 ] ، أي : تُصبح زوجة مُحصنة ، و ليست [ عشيقة أو صاحبة ] ، لأنّ الله يقول صراحةً : ( و لا تُكـرهوا فتـياتكُم على البغـاء )[ النور 33] .
.
أو :
الله سبحانه يستخدم كلمـة [ أوْ ] ، للدلالة على [ الإختيار ] بين [ المحصنة أو ملْك اليمين ] ، مثال : ( إلاّ على أزواجهم أو مَـا ملَكتْ أيمـانهم )[ المؤمنون 7 / المعارج 3 ] ، ( فواحدة أو مَـا ملَكتْ أيمانكم )[ النساء 3 ]
و قد ذكر القرآن الكريم حرف [ و ] فقط مع الرسول صلى الله عليه و سلّم ، وهذا التخصيص لأنّ الرسول هو [ صاحب الخُلُق العظيم ] ، فقال تعالى : ( يا أيهـا النبيّ إنّا أحْللْنـا لكَ أزواجك اللاّتي آتيْت اُجورهُنّ و مَـا مَلَكتْ يمينُك )[ الأحزاب 50 ] .
لذلك يجب عدَم الاستماع إلى الذين يهمُّم فقط الشهوات : ( و يريد الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً )[ النساء 27 ] ، أيْ : ميلاً عظيماً في فهم الآيات و تسخيرهـا لشهواتهم .
.
( لا تقولـوا : راعـنـا ) :
راعِـنا : هِيَ كَلِمَةٌ خَبيْثَةٌ [ مِنَ الرُعُونَةِ وَ احْتِقارِ المُخَاطَبِ ] تستخدم في الأسْواقِ عِنْدَ البَيْعِ وَ الشِراءِ وَ قَدْ أمَرَ اللّهُ عَدَمَ قَوْلِها : ( يَا أيُّهَـا الـذيْنَ آمَـنُوا لاَ تَقُولُـوا راعِـنَا وَ قُولُـوا انْظُـرْنَا )[ البقرة 104 ] ، لأنَّ هَذِهِ الكلِمة هيَ [ طَعْنٌ في الديْنِ ] : ( وَ مِـنَ الـذيْنَ هَـادوا يُحَـرِّفُونَ الـكَـلِـمَ عَـنْ مَـواضِـعِـهِ وَ يَقُولُـونَ سَـمِـعْـنَا وَ عَـصَـيْنَا وَ اسْـمَـعْ غَـيْرَ مُـسْـمَـعٍ وَ راعِـنَا لَـيّاً بِألْـسِـنَتِهِـمْ وَ طَـعْـنَاً في الـديْنِ )[ النساء 46 ] .
.
( يسـتـنبطـونه مـنـهُـم ) :
عِلْمُ الاسْـتِنْباطِ هُوَ جَوْهَرُ العُلُومِ ، التي تَحْتاجُ لِمَنْ يَجْلوهَا بِفَهْمٍ وَ مَنْطِقٍ ، وَ روحُ الفِقْهِ الذي يَحْتاجُ لِمَنْ يَجْلوهُ بِبَصِيْرةٍ وَ تَبَصُّرٍ، وَ كَلِمَةُ الاسْتِنْباط مِنْ [ نَبَطَ ] أيْ اسْـتَخْرَجَ ، فَنَقُولُ : نَبَطَ المَاءُ إذَا اسْتَخْرَجَهُ ، لِذَلِكَ فإنَّ اسْتِنْباطَ القُرْآنِ الكَريْمِ : ( لَـعَـلِـمَـهُ الـذيْنَ يَسْـتَنْبِطُـونَهُ مِـنْهُـمْ )[ النساء 83 ] ، يَعْني اسْـتِخْراج الأحْكامِ وَ القوانِيْنِ وَ الحقائِق ، مِمّا يَبْدو بَسِـيْطَاً وَهامِشـيّاً أوْ مُتَعارَفاً بَدِيْهِيّاً ، وَ هُوَ سِرُّ فَهْمِ الأحْكامِ ، وَ فَهْمِ [ النَصِّ الرَبّـانيّ ] فَهْمَاً حَقِيْقِيّاً ، لِبَعْثِ الحَياةِ في الفَرْدِ وَ المُجْتَمَعِ .
وَ الاسْـتِنْباطُ عِلْمٌ ذَوْقيٌّ ، وَ الذَوْقُ يَرْفُضُ وَ يَمْنَعُ الشِدَّةَ المُتْلِفة وَ التراخي المُضَيِّعِ ، فالذَوْقُ فَهْمٌ لَيّنٌ وَ سَلِسٌ لِلنَصِّ الشَرْعيّ ، وَ فَهْمٌ جَماليّ بِعُمْقٍ نَقْديّ يَمْنَحُ النَصَّ الشَرْعيّ نِطاقَاً أوْسَع وَ مَدىً أرْحَب ، يَتلاءَمَانِ مَعَ كُلِّ زَمانٍ وَ مَكانٍ ، وَ يَكُونُ الدِيْنُ صَالِحاً لِكُلِّ الناسِ : ( اُدْعُ إلـى سَـبِيْلِ رَبِّكَ بِالـحِـكْـمَـةِ وَ الـمَـوْعِـظَـةِ الـحَـسَـنَةِ )[ النحل 125 ] ، وَ لَيْسَ بالتَخْويْفِ وَ تَحْويْلِ الدِيْنِ إلى [ فَزَّاعَةٍ ] .
.
( لسْـتَ مُـؤمـناً )[ النساء 94 ] :
إذا كان الإنسانُ مُسـالـماً و آمناً في بيته ، فالأمْـرُ الإلـهيّ واضحٌ وُضوحَ الشمس و هوَ : ( لا ينهـاكُمُ الله عَنِ الذينَ لـمْ يُقـاتلوكُمْ في الدينِ و لـمْ يُخْرجوكُمْ منْ دياركُم أنْ تَـبـرّوهُـمْ و تُقسـطوا إلـيْهِـمْ )[ الممتحنة 8 ] ، لذلكَ فإنّ إخراج الناس الآمنين المُسـالمينَ منْ بيوتهِم هوَ [ عصيانٌ ] لهذا الأمْـر الإلهيّ .
_ و الأمـرُ الإلـهيّ الآخـرَ : ( يـا أيّهـا الذينَ آمـنوا ادْخُـلـوا في السِـلْم كـافّةً )[ البقرة 208 ]
_ و الأمْـرُ الإلـهيّ أيْضـاً : ( و لاَ تقـولـوا لِـمَـنْ ألْقى إلـيْكُمُ السَـلامَ : لسْـتَ مُـؤمـناً ) [ النساء 94 ] ، أيْ :لايجوزُ [ تكفير ] الآخـرين إذا كـانوا مُسـالمينَ .
و السَادَةُ النصارى لهُم توصـيةٌ خاصّة منَ الله سُبحانهُ : ( أقْربَهُم مودّةً للذينَ آمـنوا الذينَ قـالوا إنّــا نصــارى )[ المائدة 82] .
_ لذلك لا يجوزُ لا يجوزُ لا يجوزُ ... الاعتداء على أيّ إنسانٍ كانَ ، في مـاله و عرضه و .... ، و المطلوبُ [ فقـط ] صَـدّ العدوان ، و ليْسَ [ الاعتداء ] على الآخرينَ .
.
أمّـا [ الجهـادُ ] في الدين الإسلاميّ ، فهـوَ جهـادٌ [ فكْـريّ ] بالحوار و المنطق ، و ليْسَ بالسيْف ، و الله يقولُهـا صـراحةً و بكلّ وُضوح : ( و جـاهدْهُم بـه جهـاداً كـبيراً )[ الفرقان 52 ] ، أيْ : جـاهدهُم بالقرآن الكريم و الحوار و المنطق ، أمّـا [ الإكـراهُ ] فهوَ مرفُوضٌ مرفوضٌ مرفوضٌ ، لأنّ الله لا يُريدُ ذلك : ( وَ لـوْ شَـاءَ ربّـكَ لآمَـنَ مَنْ في الأرْضِ كلّهُـمْ جمـيعاً )[ يونس 99 ] ، فـالله لا يحتاجُ إلى [ جهـاديين ] ، و تكفي مشـيئته لتحقيق ذلك ، و لكنّ الله يُريْدُ [ الإختلافَ ] بينَ الناس في مُعتقداتهم : ( و لا يزالونَ مُختلفينَ ، و لذلكَ خَلـقَهُم )[ هود 119 ] ، ( و لـوْ شـاءَ الله لجمعـهُم على الهُدى )[ الأنعام 35 ] ،
و بذلك يُوضح الإسلام أنّ أصل العلاقات مع الآخرين هي [ السلْم العادل ] سواء على مستوى الأفراد أمْ على مستوى الشعوب و الدول ، و قد حذّر القرآن الكريم عدم التقيّد بالأوامر التي مرّت في الآيات السابقة ، فقال تعالى : ( فإنْ زللتمْ من بعـد ما جاءكم البيّنات فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم )[ البقرة 209 ] ، أيْ إذا زللتمْ عن هذه التعليمات بعدما أوضحناها لكم ، فإنّ الله ( عزيز ) عنكم و ليس بحاجة لكم .
.
( نُشُـوزاً أوْ إعْـراضَـاً )[ النساء 128 ] :
مِنْ طَبيعَةِ المَرْأةِ النشوز فقط مع عَـدَمَ الإعْراضِ : ( وَ الـلاَتي تَخَافُونَ نُـشُـوزَهُـنَّ )[ النساء 34 ] ، نُـشُـوزَهُـنَّ : تَمَرُّدَهُنَّ فَقَطْ وَ لَمْ يَقُلْ : أوْ إعْراضَهُنَّ ، بَيْنَمَا عِنْدَ الرَجُلِ نَجِدُ النُشُوزَ وَ الإعْرَاضَ : ( وَ إنْ اِمْـرَأةٌ خَـافَـتْ مِـنْ بَعْـلـِهَـا نُشُـوزاً أوْ إعْـراضَـاً )[ النساء 128 ] ، نُشُـوزاً : تَمـرّداً ، إعْـراضَـاً : هُجْرانَاَ بِحيْثُ لاَ يُكلّمها ، فَيَكُونُ [ الشُـحُّ ] و هو : البُخْل حتّى بالعَـواطِفِ وَ الكلامِ إضَافَةً للمَـال مِنَ الرَجُلِ فَقَطْ ، لَذَلِكَ تُتَابِعُ الآيَةُ الكَريمَةُ معَ الرِجال فقط : ( وَ أُحْـضِـرَتِ الأنْفُسُ الـشُـحُّ )[ النساء 128 ] ، و لِذَلِكَ قال تعالى : ( وَ مَـنْ يُوْقَ شُـحَّ نَفْـسِـهِ فَأُولَـئِـكَ هُـمُ الـمُـفْـلِـحُـونَ )[ الحشر 9 ][ التغابن 16 ] ، ( أَشِـحَّـةً عَـلَـيْكُـمْ ... أَشِـحَّـةً عَـلَـى الـخَـيْرِ )[ الأحزاب 19 ] .
.
( مـا يفْعـلُ الله بعـذابكـم إن شـكرتُم و آمنـتم )[ النساء 147 ] :
إنّ اللّـه سُـبحانه و تعالى خـلقـنـا كـيْ نكـونَ [ فقـط ] سُـعـداءَ و فـرحين بكلّ السَـعادة في الدنيـا و الآخـرة ، لذلك جعَلَ هـذا الديْن في غـاية [ اليُسْـر ] ، كمَـا قال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلّم : [ إنّ هـذا الدينَ يُسْـرٌ ] ، و قال تعالى عن هذا الدين أنّـه [ حـنيف = مَـرِنٌ جـداً ] : ( قُـلْ إنّنـي هـداني ربّـي إلى صـراطٍ مُسـتقيم ، ديْـناً قِــيَــمَــاً ، مـلّةَ إبـراهيْـمَ حـنيفـاً )[ الأنعام 161 ] ، فالدينُ هُـوَ [ القِـيَـمُ ] و الأخلاق .
.
كل هـذا و الله أعلـم .


الجمعة، 27 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة النساء (من اية 1 الى 24)


( خـلَـقَـكُـم مـن نفـس واحـدة )[ النساء 1 ] :
مِنْ بَعْدِ تكْوينِ آدَمَ مِنَ الطينِ ، خُلِقَتْ زَوْجَتُهُ حَـوّاءَ مِن [ نفسه ] لِيَتَزَوّجَهَـا : ( خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ نَفْـسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَـلَـقَ مِنْهَـا زَوْجَهَـا )[ النساء1 ] ، إذاً لا يوجد [ أوادم ] قبل آدم ، ثُمّ وَ بَعْدَ فَتْرَةٍ غَيْرِ مَعْروفَةٍ أمِرَ اللهُ سبحانَهُ الملائِكَةَ بِتَحيّةِ آدَمَ [ السجودَ لآدَمَ ] ، فَنَفّذَ جميعُ الملائِكَةِ الأَمْرَ ، مَـا عَدا إبليسَ الجنّيَ ، الذي كانَ قَدْ حَشَرَ نَفْسَهُ بينَ الملائِكَةِ ، مُحاوِلاً عِبادَةَ اللهِ مِثْلَهُمْ : ( وَ إذْ قُلْـنَا لِلـمَـلائـِكَـةِ اسْجُـدوا لآدَمَ فَسَـجَـدوا إلاَّ إبْلـيسَ كـانَ مِـنَ الجِـنِّ )[ الكهف 50 ] .
ثُمَّ أسْكَنَ اللهُ سُبْحانَهُ آدَمَ وَ زَوجَتَـهُ في الجَنّـةِ الأرْضيّةِ ، وَ أمَرَهُما عَدَمَ الأكْلِ مِنْ إحْدى الأشْجَارِ : ( وَ قُلْـنَا يا آدَمُ اسْـكُـنْ أنْتَ وَ زَوْجُـكَ الـجَـنَّةَ وَ كُـلاَ حَـيْثُ شِـئْـتُمَـا مِـنْهَـا رَغَـداً وَ لاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الـشَـجَـرِة َ فَتَكُـونَا مِـنَ الـظَـالِـمِـينَ )[ البقرة 35 ]
فَتَدَخّلَ إبْليسُ ، وَ غَرَّرَ بِهِمَا بَعْدَ أنْ أقْسَمَ كاذِباً : ( وَ قَاسَـمَـهُـمَـا إنّي لَـكُـمَـا مِـنَ الـنَاصِـحـينَ فَدَلاّ هُـمَـا بِغُـرُورٍ )[ الأعراف 21 ] ، غَرّرَ بِهِما ، فَلَمْ يخْطُرْ بِبالِ آدَمَ أنّ أحداً يُقْسِمُ باللهِ كَذِباً ، فأكَلاَ مِنَ الشَجَرَةِ : ( فَلَـمَّـا ذاقَا الـشَجَـرَةَ بَدَتْ لَهُـمَا سَـوْآتُهُـمَـا ) [ الأعراف 22 ] ، فَحَقّقَ إبْليسُ الشَيْطانُ بِذَلِكَ ، وَ كانَ الخُروجُ مِنَ الجَنّةِ الأَرْضيّةِ التي كانَتْ تُؤَمِّنُ لآدَمَ حاجيّاتِهِ الأَسَاسيّةِ ، فَبَـدَأَ كِفاحَهُ وَ شَقاءَهُ مِنْ أَجْلِ العَيْشِ : ( فـَقُـلْـنَا يَا آدَمُ إنَّ هَـذا عَـدوٌّ لَـكَ وَ لـزَوْجِـكَ فَـلاَ يُخْـرِجَـنَّكُـمـَا مِـنَ الـجَـنَّةِ فَـتَشْـقى )[ طه 117 ] ، وَ كانَ ذَلِك سَبَباً لِدَبِّ النِزاعَاتِ بَيْنَ البَشَـرِ : ( بَعْـضُـكُـمْ لِـبَعْـضٍ عَـدُوٌّ ) [ البقرة 36 ] .
كُلُّ هَذا و الله أعلم .


(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

            ســورة ال عمران(من اية 104 الى اخرها)


يـأمرون بـالـمعـروف : 
( و لـتـكنْ مـنكم أمّـةٌ يـدعونَ إلى الخير و يأمـرون بالمعـروف و ينهون عن المنكـر ، و أولائك هُـم المفلحون )[ آل عمران 104 ] ، وَ ( الأمْـرُ بالمَعْروفِ وَالنَهْيُ عَنِ المُنْـكرِ ) ، هوَ مِنَ الخَصَائِصِ الهامّة لهذه الأمّة ، فَلَمْ تَكنْ هذِهِ الأمَّةُ خَيْرَ الأُمَمِ إلاَّ حينَما أَمَرَتْ بالمَعْروفِ وَ نَهَتْ عَنِ المُنْكرِ : ( كُـنْتُمْ خَـيْرَ أُمَّـةٍ أُخْـرِجَـتْ لِلـناسِ تَأْمُـرونَ بِالـمَـعْـروفِ وَ تَنهَـوْنَ عَـنِ الـمُـنْكَـرِ )[ آل عمران 110 ] .
( وَ أْمُـرْ بِالـعُـرْفِ )[ الأعراف 199 ] ، وَ العُـرْفُ وَ المعْروفُ : هوَ مَا تَعَـارَفَ عليْهِ المجْتَمَعُ شَرْطَ أنْ لا يَتَعَارَضَ مَعَ نَصٍّ شَرْعيٍّ فَيَكونُ عُرْفـاً باطِـلاً ، أيْ هوَ : كلُّ أمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ [ عُرْفاً أوْ شَرْعاً أو عَقْلاً أوْ طَبْعاً ] ، وَ هوَ عَـامٌّ لِكلِّ المجتَمَع ، وَ خاصٌّ لِفِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ التجَّارِ مَثَلاً ، فـالعَادَةُ مُحَكِّمَـةُ ، وَ المعْروفُ عَكْسُ المنْكَرِ [ الشَيْءُ غيْرُ المألوفِ ، وَ ما لا يَقْيَلُهُ عَقْلٌ أو منْطِقٌ أوْ طَبعٌ ] ، وَ لا يُنْكَرُ تَغَيَّرُ الأحْكام بِتَغَيّر الزمَـانِ ، عنْ حُذَيْفَةُ بن اليَمانِ رضيَ الله عنه عَنِ النبيّ صلى الله عليه و سلم قالَ : [ وَ الذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَـأْمُرَنَّ بالمعروف وَ لَتَنْهونَ عن المنْكَرِ أوْ لَيوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكمْ عِقاباً منه ثُمَّ تَدْعونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لكمْ ][ رواه الترمذي ] .
.
مـعـركـة بـدْر :
( و لقـد نصَركُم الله ببـدْرٍ و أنـتُم أذِلّةٌ )[ آل عمران 123 ] .
أخْرَجَ الله المُؤمِنينَ للقِتَالِ : ( كَـمَـا أخْـرَجَـكَ رَبُّـكَ مِـنْ بَيْتِـكَ بِالـحَـقِّ وَ إنَّ فَـريقاً مِـنَ الـمُــؤمِـنينَ لَـكَــارِهُـونَ )[ الأنفال 5 ] ، وَ نَظَّمَ صُفوفهُمْ عَسْكَرياً : ( تُبَـوِّىُ الـمُـؤمِـنينَ مَـقَـاعِـدَ للـقِـتَالِ )[ آل عمران 121 ] ، بَعْدَ أنْ شَاوَرَ أصْحَابَ الاخْتِصَاصِ في مَوْقِعِ التَمَرْكُزِ ، فَكَانَ رَأْيُهُمْ أنْ يَتَمَرْكَزُوا في العُدْوَةِ الدُنْيَا [ الأقْرَبُ إلى المدينَةِ ] ، وَ قَدْ أيَّدَ القُرْآنُ هَذَا الرَأْيَ للحَبّاب بن المُنْذِرِ كَوْنَهُ صَائِبَاً : ( إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الـدُنْيَا وَهُـمْ بالعُـدْوَةِ الـقُـصْوى ) [ الأنفال 42 ] ، وَ في لَيْلَةِ المَعْرَكَةِ سيْطَرَ عليْهِمُ النَوْمُ العَمِيقُ مِنْ أجْلِ الرِاحَةِ الجسْميَّةِ و النَفسيَّةِ : ( إذْ يُغَـشِّـيْـكُـمُ الـنُعَـاسَ أمَـنَةً مِـنْهُ )[ الأنفال 11 ] .
وَ فـي المَنـَامِ هَيّـأَ اللهُ رُؤيَا خَاصّة لِرَسُولِهِ الكريم [ رَفْعُ الرُوحِ المَعْنَويَّةِ للقَائِدِ العَسْـكريِّ ] : ( إذْ يُـرِيْـكَـهُـمُ اللَّـهُ فـي مَـنَامـكَ قَـلـيلاً وَ لَـوْ أراكَـهُـمْ كَـثيراً لَـفَـشِـلْـتُمْ وَ لَـتَنَازَعْـتُـمْ فـي الأمْـرِ وَ لَـكِـنَّ اللَّـهَ سَـلَـمَ )[ الأنفال 43 ] ، وَ في الصَباحِ تَمَّ الاسْتيقاظُ بِنَشَاطٍ بَعْدَ الرَشِّ بالمِيـاهِ : ( وَ يُنَـزِّلُ عـلَـيْكُـمْ مِـنَ الـسَـمَـاءِ مَـاءً لَـيُطَـهِّـرَكُـمْ بِهِ وَ يُذْهِـبَ عَـنْـكُـمْ رِجْــزَ الـشَـيْطانِ وَ لِـيَـرْبِطَ عَـلـى قُـلُـوبِكُـمْ )[ الأنفال 11 ] ، وَ كانَ رشُّ الأرْضِ بالمَاءِ ضَرورياً لأنَّ غَالبيّة الجيشِ المُسْـلِمِ كانَوا مُشَـاةً : ( وَ يُـثَـبـِّتَ بِهِ الأقْدامَ )[ الأنفال 11 ] .
وَ قَبْلَ بِدايَةِ المَعْرَكَةِ قَلَبَ اللهُ حَالةَ الرُؤيـَا في عَيْنَيْ رَسُولِهِ وَ المُؤمِنينَ لِرَفْعِ الرُوحِ المَعْنَويّةِ الضَروريّةِ للنَصْرِ : ( و َإذْ يُـريـكُـمُـوهُـمْ إذ ِالـتَقَـيْـتُـمْ فـي أَعْـيُـنِكُـمْ قَـلـيلاً وَ يُقَـلِّـلُـكُـمْ فـي أَعْـيُـنِهِـمْ لِـيَقْـضِـيَ اللَّـهُ أمْـراً كَــانَ مَـفْـعُـولاً )[ الأنفال 44 ] ، بَعْدَ أنْ كَانَتْ الرُؤيـَا تُشيرُ عكْسَ ذَلِكَ بِسَـبَبِ الخَـوْفِ المُسَيـْطِرِ : ( يَرَوْنَهُـمْ مِـثْـلَـيْهِـمْ رَأْيَ الـعَـيْنِ ) [ آل عمران 13 ] .
وَ كانَ نُزُولُ المَلائِكَةِ ، مِنْ أجْلِ رَفعِ الحَالَةِ المَعْنويّةِ أوّلاً : ( وَ مَـا جَـعَـلَـهُ اللَّـهُ إلاَّ بُشْـرى وَ لِـتَطْـمَـئِنَّ بِهِ قُـلُـوبُـكُـمْ )[ الأنفال 10 ] ، فالمُلاحَظُ أنَّهُ كُلّمَا تَشَكّلَ مَجْموعَةٌ قِتاليـةٌ مُؤمِنَةٌ عَدَدُهَـا [ 100 ] مُـسْلِمٍ ، يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ [ 1000 ] مَلَكٍ ، كَتَغْطِيَةٍ جَوّيَةٍ لِحِمايَتِهِمْ ، فَلَمّا كَانَ عَدَدُ المُسْلِمينَ [ 314 ] مُقَاتِلاً ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ المَلائِكَةِ ثلاثَةُ آلافٍ ، حَيْثُ بَقِيَ [ 14 ] مُسْلِمَـاً [ خَارِجَ التَغْطِيَـةِ ] ، هُمْ الذينَ كَانوا الشُـهَداءَ الأرْبَعَةَ عَشَـرَ فَقَطْ ، وَ بِما أنَّ الخَسَـائِرَ المُعَـادِيَةَ هيَ عَشَرَةُ أضْعافِ الخَسائِرِ المُؤمِنَةِ ، فَقَدْ كانَتْ فِعْلاً خَسَائِرُ الأعْداءِ 140 مُقَاتِلاً : [70 قتيلاً +70 أسيراً بِحُكْمِ القَتْلى ] : ( إنْ يَكُـنْ مِـنْكُـمْ عِـشْـرونَ صَـابِرون يَغْـلِـبُوا مِـئَـتَيْنِ وَ إنْ يَكُـنْ مِـنْـكُـمْ مَـائَـة يَغْـلِـبُوا ألْـفاً )[ الأنفال 65] ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى : ( فَـاضْـرِبوا فَـوْقَ الأعْـناق ِ)[ الأنفال 12 ] ، فَهُوَ تَعْليمٌ للمُؤمِنينَ حَيْثُ أنَّ الضَرْبَ فَوْقَ الأعْناقِ ، وَ لوْ بِقُوّةٍ خَفيفَةٍ عَلى البَصَلَةِ السيسائيّةِ كَافٍ للقَتْلِ ، وَ هُوَ القَتْـلُ الرَحيْمُ حتّى لِلأعْداءِ ، أمّا مِنْ أجْلِ شَـلِّ قُدْرَةِ العَدوِّ ، وَ إخْراجِهِ مِنْ أرْضِ المَعْرَكَةِ : ( وَ اضْـرِبوا مِـنْـهُـمْ كُـلَّ بَنَانٍ )[ الأنفال 12 ] ، فَبَعْدَ الأَخْذِ بكُلِّ هَذِهِ الأسْبابِ ، أتى النَصرُ الإلهيُّ : ( وَ مَـا الـنَـصْـرُ إلاَّ مِـنْ عِــنْـدِ اللَّـهِ إنَّ اللَّـهَ عَـزيزٌ حَـكِـيمٌ )[ الأنفال 10 ] ، ( وَ لَـقَـدْ نَصَـرَكُـم اللَّـهُ بِبَـدْرٍ وَ أنْتُمْ أذِلّـةٌ )[ آل عمران 123 ] ، بَعْدَ أنْ طَبَّقَ الخُطَطَ العَسْكَريَّةَ اللازِمَةَ ، وَ لَيْسَ النَصْرُ بِدونِ عَمَلٍ ، وَ بِدونِ الأخْذِ بالأسْبَابِ : ( وَ لَـقَـدْ صَـدَقَـكُـمُ اللّـهُ وَعْـدَهُ إِذْ تَحُـسُّـونَهُـمْ بِإذْنِهِ )[ آل عمران 152 ] .
.
فـحَـصَ ، مـحّـصَ :
( و لـيُـمَـحّـصَ مـا في قلـوبكـم )[ آل عمران 154 ] ،إنّ [ الفَحْص ] هو الاختبـار العـلنيّ ، و يُظـهر الإنسان أنّه يعمل العملَ الصالح ، مثال : الصلاة نفاقاً دون الإيمان بهـا .
بينمـا [ الـمَـحْـص ] : هو إختبارٌ سـريّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، الذي يعلم [ ذات الصدور ] ، و يعْلَم [ الـنـيّة ] من العمَل ، لذلك كان آخر الآية الكريمة : ( و الله عـليمٌ بذات الصدور )[ آل عمران 154 ] ، فإذا نجح الإنسان في [ الفحْص ] فقط ، يكون عمله [ حسناً ] ، أمّـا إذا نجحَ في [ الفـحْـص + الـمَـحْص ] ، عندهـا يكون عمله [ صالحاً ] يُصلح حال الفرْد و المجتمع و يُرفع عمله إلى الله سبحانه : ( و العـملُ الصالح يرفعه ) [ فاطر 10 ] .
.
الأجـل الـمسـمّى و الأجـل الـمُـقـضـى :
إنَّ لِكُلِّ إنْسَـانٍ مِنَّـا أجَلَيْـنِ ، وَ لَيْسَ أجَـلاً واحِـدَاً ، فَـإذَا مَـا نَظَـرْنَا في قَوْلِهِ تعالى : ( هُـوَ الـذي خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ طِـينٍ ثُـمَّ قَـضَـى أجِـلاً وَ أجَـلٌ مُـسَـمَّـى عِـنْدَهُ )[ الأنعام 2 ] ، فالأجَلُ أجَـلاَنِ : [ أجَلٌ مُقْضَى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ بِشَكْلٍ سَريعٍ مِثْلَ الحَوادِثِ وَ الكَوارِثِ أوِ القَتْلِ مَثَلاً ، وَ [ أجَلٌ مُسَمَّى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ حَتْمَاً في نِهَايَةِ عُمْرِهِ ، وَ لَيْسَ فيهِ أيُّ تَقْديْمٍ أوْ تَأْخيرٍ : ( وَ مَـا مُـحَـمَّـدٌ إلاَّ رَسُـولٌ قَـدْ خَـلَـتْ مِـنْ قَبْلِـهِ الـرُسُـلُ أَفَإنْ مَـاتَ أوْ قُتِلَ )[ آل عمران 144 ] ، مَـاتَ : بالأجَلِ المُسَمّى ، أوْ قُتِلَ : بالأجَلِ المُقْضى في أيِّ وَقْتٍ كَانَ ، حَيْثُ كَانَ نَصِيبُ الكَثيرِ مِنَ الأنبياءِ الكِرامِ القَتْلُ [ الأجَلُ المُقْضَى ] : ( وَ يَقْتُلُـونَ الأنْبِيَاءَ بِغَـيْرِ الـحَـقِّ )[ آل عمران 112 ] ، و قوله : ( بِغَـيْرِ الـحَـقِّ ) تُظْهرُ أنّ في القتل لا يكون عُمر الإنسان منتهياً ، وَ الآيَةُ الكريْمَةُ التاليَةُ تَزيدُ الأمْرَ وُضُوحَاً أكْثَرَ : ( وَ لَـوْلاَ كَـلِـمَـةٌ سَـبَقَتْ مِـنْ رَبِّكَ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى لَـقُضِـيَ بَيْنَهُـمْ )[ الشورى 14 ] ، وَ كَذَلِكَ : ( وَ رَبُّكَ الـغَـفُـورُ ذُو الـرَحْـمَـةِ لـوْ يُؤاخِـذُهُـمْ بِمَـا كَـسَـبُوا لَـعَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ بَلْ لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ لَـنْ يَجِـدوا مِـنْ دُونِهِ مَـوْئـِلاً )[ الكهف 58 ] ، عَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ : بالأجَلِ المُقْضى ، لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ : الأجَلُ المُسَمّى ، أيْ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِمَـا كَـسَـبوا مَـا تَرَكَ عَـلـى ظَـهْـرِهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى )[ فاطر 45 ] ، أي إزالَةِ كلّ أشْكالِ الحياةِ بالأجَلِ المُقْضى ، لأنّ الأجَلُ المُسَمّى لَيْسَ فيهِ تَأخيرٌ .
فَالأجَلُ المُقْضَى يُمْكِنُ تَأجيلُهُ حَتَّى الأجَلِ المُسَمَّى حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تَأْخيرٌ وَ لَوْ لِسَـاعَةٍ واحِـدَةٍ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِظُـلْـمِهِـمْ مَـا تَرَكَ عَـلـيْهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـىً فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ) [ النحل 61 ] ، ( وَ لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ الأعراف 34 ] ، ( لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ إذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ فَـلا يَسْـتَأْخِـرونَ سَـاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ يونس 49 ] ، فالأجَـلُ المُسَـمَّى لاَ تَقْديْمَ فيهِ وَ لاَ تَأْخيرَ ، فقد قَدَّمَ التَأْخيرُ ( يَسْتَأخِرونَ ) وَ أخَّرَ التَقْديمُ ( يَسْتَقْدِمُونَ ) ، وَ ذَلِكَ لِحَسْمِ المَوْضُوعِ حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تأْخيرٌ في الأجَلِ المُسَمّى .
( وَ لَـئـِنْ أخَّـرْنَا عَـنْهُـمُ الـعَـذَابَ إلـى أُمَّـةٍ مَـعْـدُودَةٍ )[ هود 8 ] ، ( وَ لَـنْ يُؤَخِّـرَ اللّـهُ نَفْسَاً إذَا جَـاءَ أجَلُـهَـا )[ المنافقون 11 ] ، ( وَ مَا كَانَ لِـنَفْسٍ أنْ تَمُـوتَ إلاَّ بِإذْنِ رَبِّهَـا كِـتَابَاً مُـؤَجَّـلاً )[ آل عمران 145 ] ، إذاً : تَمُـوتَ وَ ليْسَ تُقْتَلُ لأنَّ اللّهَ لاَ يَأْذَنُ بِقَتْلِ أحَدٍ ، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ )[ الرعد 38 ] ، وَ الكِتَابُ : هُوَ مَجْمُوعَةُ العَوامِلِ وَ الأسْبَابِ التي تُنْهي الحَيَاةَ ، مِثْلَ الحَوادِثِ وَ المَرَضُ المُميتُ وَ الشَيْخوخَةِ وَ القَتْلُ 000 ، فإذَا وَقَعَتْ هَذِهِ العَوامِلُ ( الكِتَابُ ) انْتهى الأجَلُ وَ حَصَلَ الحَسْمُ ، وَ يَعْمَلُ الطُبُّ وَ الإسْعَافَاتُ عَلى وَقْفِ وَ تَأْخيرِ هَذِهِ العَوامِلَ ، لِمَنْعِ الأجَلِ المُقْضى وَ رَفْعِ مُعَدَّلِ الأعْمَارِ [ في الدُوَلِ المُتَقَدِّمَةِ ] ، وَ لِكِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ في النِهَايَةِ الأجَلَ المُسَمّى.

كل هذا والله اعلم.



الأربعاء، 25 مارس 2015

(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة ال عمران(من اية 1 الى 104)

إمـرأة عـمـران :
عِمْـرانُ بنُ مَـاثَان ، مِنْ نَسْلِ النبي داوودَ عليه السلام ، وَهُوَ رَأْسُ أُسْرَةِ [ آلِ عِمْـرانَ ] ، وَ وَالِدُ السَيِّدَةِ مَرْيَمَ العَذْراءَ ، وَ قَدْ تُوفِّيَ وَ تَرَكَ زَوْجَتَهُ حَامِلاً بِمَرْيَمَ ، فَنَذَرَتْ مَا في بَطْنِهَا خالِصَاً للّـهِ : ( إذْ قَـالَـتِ امْـرَأةُ عِـمْـرانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَـكَ مَـا فِي بَطْـني مُـحَـرَّراً فَلَـمَّـا وَضَـعَـتْـهَـا قَالَـتْ رَبِّ إنَّي وَضَـعْـتُهـا أُنْثـى .... وَإنّي سَـمَّـيْتُهَـا مَـرْيَمَ )[ آل عمران 35 / 36 ] ، و مَـرْيَمَ : أيْ خَادِمَةُ اللّهِ ، وَ زَكَرِيّا هُوَ زَوْجُ أُخْتِها وَ تُدْعَى [ إليزابيت ] ، وَ قَدْ فَازَ بِرِعَايَتِهَا بَعْدَ أنْ رَبِحَ في سِبَاقِ الأَسْهُمِ التي ألْقُوهَا في المَاءِ : ( وَ مَـا كُنْتَ لَـدَيْهِـمْ إذْ يُلْـقُونَ أَقْلاَمَـهُـمْ أَيُّهُـمْ يَـكْـفُلُ مَـرْيَمَ وَ مَـا كُـنْتَ لَـدَيْهِمْ إذْ يَخْـتَصِـمُـونَ )[ آل عمران 44 ] ، وَ لَهُمْ سُوْرَةُ [ آلِ عِمران ] في القرآن الكريم : ( إنَّ اللّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ وَ نُوحَـاً وَ آلَ إبْراهـيمَ وَ آلَ عِـمْـرانَ عَـلَـى الـعَـالَـمـينَ )[ آل عمران 33 ] ، و لذلك كان عيسى و يحي عليهما السلام أولاد الخـالة .
و أولادُ عمـران ثـلاثةٌ و هُم : [ هارون + مـرْيَم + إليزابيت ] ، لذلك قال لهـا قومهـا : ( يَا أُخْــتَ هَـارونَ )[ مريم 28 ] ، و هارون أخو مريم يختلف عن هارون أخو موسى ، لأن بين موسى و عيسى آلاف السنين ، عليهم السلام جمـيعاً

( إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِـعَ للـنَاسِ لـَلـذي بِبَكَّـةَ )[ آل عمران 96 ] ، لَـلـذي : اللامُ الأولى هنا تسمّى [ اللام المزحلَقَـة ] وَ تأتي بخبر إنَّ لِتوكيدِهِ ، بَكَّـةَ : الموقع الذي يخص الحَـرَم فَقَطْ وَ ليسَ كل مكّـة ، لِذَلِكَ لا يَصْلُحُ غَيْر هَذا المَوْقِعِ [ مَكَّـةَ ] للحَـجِّ ، وَ كانَ ذَلِكَ حَسْبَ تَوْجِيـهٍ إلَهيِّ : ( وَ إذْ بَوَّأْنا لإبراهِـيمَ مَـكَـانَ الـبَيْتِ )[ الحج 26 ] .
لِذَلِكَ أهلَكَ اللهُ جيْشَ [ أبْرَهَةَ بن الصباح ] عِنْدَما حاوَلَ هَدْمَ الكعبَةِ لِتَغْييرِ مَكانِهـَا ، حَيْثُ بنى في اليَمَنِ [ في صَنْعاءَ ] بِناءً بَديلاً عَنْها سَمَّاهُ [ القُلّيِسْ أو القايِسْ ] : ( ألَـمْ تَـرَ كَــيْفَ فَعَـلَ رَبُّكَ بِأصْـحَـابِ الـفـيل ألَـمْ يَجْـعَـلْ كَــيْدَهُـمْ فـي تَضْـلـيلٍ فَجَـعَـلَـهُـمْ كَـعَـصْـفٍ مـَأْكُـولٍ )[ سورة الفيل ] ، فاللـهُ سبحانه لا يَسْـمَحُ بِتَغييرِ المَـوْقِعِ فقط ، و مَـا زالَتِ و ستبقى الكَـعْبَةُ الشريفة هيَ بيتُ اللهِ الحَرامِ : ( جَـعَـلَ اللـهُ الـكَـعْـبَـةَ الـبيْـتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] .


كل هـذا واللـه أعلـم .


(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)

سورة البقرة (من اية 253 الى آخر السورة)

آيـة الكـرسـيّ :
إذَا أَجْريْنَـا المُقَـارَنَةَ التَـالِـيَةَ :
بين : ( اللَّهُ نُورُ الـسَـمَـاواتِ وَالأرْضِ)[ النور 35 ] وَ : ( وَسِـعَ كُـرْسِيُّهُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ )[ البقرة 255 ] ، و بين : ( إنَّ اللّـهَ يُمْـسِـكُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ أنْ تَزولاَ ) [ فاطر 41 ] و : ( وَلا يَؤُودُهُ حِـفْظُـهُـمَـا )[ البقرة 255 ] .
يَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ : الكُرْسيّ هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ
إذَاً الكُرْسِـيّ : هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ التي يَحْفَظُ بِهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ السَماواتِ وَ الأَرْضِ مِنَ الزَوالِ عَنْ طَريقِ [ الأَمْـرِ ] : الذي يُمَثِّلُ الطَـاقَةَ الهَـائِلَةَ الكُلّيَةَ التي يُحَرِّكُ بِهَا الخَالِقُ كُلَّ مَـا خَلَقَ ، لِذَلِكَ : ( أَلاَ لَـهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الـعَـالَـمينَ )[ الأعراف 54 ] .
وَ عَنْ طَريقِ الأَمْـرِ [ القُدْرَةُ الكليّةُ ] يُديرُ اللّهُ أُمُورَ الكَوْنِ : ( وَ أَوْحَـى فـي كُـلِّ سَـمَـاءٍ أَمْـرَهَـا )[ فصلت 12 ] ، وَ عَنْ طَريقِ الأَمْرِ يَكُونُ [ كُنْ ] : ( إنَّمَـا أمْــرُهُ إذا أرَادَ شَـيْئـاً أَنْ يَقُولَ لَـهُ كُـنْ فـَيَكُـونُ )[ يس 82 ] ، ( وَ يَوْمَ يَقُـولُ كُـنْ فَيَـكُـونُ قَـوْلُــهُ الـحَـقُّ )[ الأنعام 72 ] ،لأنَّ : اللّهَ سُبحَانَهُ مُمْسِـكٌ بِكُلِّ خُـيُوطِ الطَـاقَةِ في الكَونِ ، لِذَلِكَ يَسْتَطيعُ اللّهُ وَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْ يُوجِدَ مَا يَشَاءُ بِأَجْزاءٍ مِنَ الثَانِيَةِ ، حَيْثُ الحَقيقَةُ العِلْمِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الإرادَةَ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ [ الكَافِ وَ النُونِ بِكَلِمَةِ كُنْ ] ، وَ لَيْسَ بَيْنَ [ الكَافِ وَ النُونِ ] ، لأَنَّ لَفْظَ حَرْفِ الكَافِ يَأْخُذُ ثانِيَةً ، وَ هَذَا زَمَنٌ طَويلٌ جِدَّاً بالنِسْبَةِ لِسُرْعَةِ الضَوْءِ .
.
مَدينَـةُ بـابِـلْ
مَدينَةٌ قديمةٌ تَقَعُ عَلى بُعْدِ 90 كيلو متْراً جنُوبَ غَرْبِ بَغْدادَ في العِراقِ ، وَ مَعْـنى اسْمها : [ بابُ الإلهِ _ بابُ إيلْ ] ، وَ قَدْ وَرَدَ اسْمها في القرْآنِ الكريمِ بَقَوْلِهِ تعالى : ( وَ مَا أُنْزِلَ عَـلى الـمَـلَـكَـيْنِ بِـبَابِـلَ )[ البقرة 102 ] ، وَ يُنْسَبُ لها أُسْـطورَةُ التَكْوين البابليّ .
مِنْ أشْـهَرِ مُلوكِهـَا نَمْـرود الذي كانَ صَيَّـاداً في بدايَـةِ حياتِـهِ ، ثُـمَّ عْطاهُ اللهُ المُلْكَ ، فأسَّـسَ الإمبراطوريّةَ البابليّةَ ، وَ هُوَ الذي حَاجَّ إبْراهيمَ علَيْهِ السلامُ في رَبِّهِ : ( أَ لَـمْ تـَرَ إلى الـذّي حَـاجَّ إبراهـيمَ في رَبِّـهِ أَنْ آتاهُ اللَّـهُ الـمُـلْـكَ ... قالَ أنَا أُحْـيـي وَ أُمِـيْـتُ )[ البقرة 258 ] ، فَقَدْ كانَ جَبّاراً و كافراً .
.
( فَـبُهِـتَ الـذي كَـفَرَ )[ البقرة 258 ]
مِنَ المُثِيرِ لِلدَهْشَةِ أَنَّ إبراهيمَ عليهِ السلام ، كَانَ أَوَّل مَنْ أَدْرَكَ الحَقيقَةَ العِلمِيَّةَ : [ مَـبْدَأَ العَطَالَةِ وَ القُصُورِ الذَاتيِّ ] ، وَ ذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ حَديثِهِ مَعَ الكَافِرِ الذي حَاجَّهُ في رَبِّهِ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ فَإنَّ اللّـهَ يَأْتي بِالـشَـمْـسِ مِـنَ الـمَـشْـرِقِ فَأْتِ بِهَـا مِـنَ الـمَـغْـرِبِ فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ )[ البقرة 258 ]
أيْ طَلَبَ مِنْهُ إبراهِيمُ أنْ يَعْكِسَ دَوران الأَرْضِ كَيْ تَأْتي الشَمْسُ مِنَ المَغْرِبِ ، فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ لأَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعَ الأَرْضِ جُمْلَةً فيزيائِيَّةً وَاحِـدَةً فَمْهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإنَّهَا قُوَّةٌ دَاخِلِيَّةٌ بالنِسْبَةِ للجُمْلَةِ الفيزيَائِيَّةِ ، وَ مُحَصِّلَتُهَا = 0 ،
نُلاَحِظُ أَنَّ الذي كَفَرَ ، بُهِتَ فَقَطْ عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ إبراهيمُ عَكْسَ اتِّجَاهِ دَورانِ الأَرْضِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُبْهَتْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إبْراهيمُ : ( إنَّ رَبِّي يُحْـيي وَ يُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، بَلْ قَالَ : ( أنَا أُحْـيي وَ أُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، فَأحْضَرَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِإعْدَامِ أَحَدِهِمَا وَ إبْقَاءِ الآخَرَ حَيَّاً ، وَ قَالَ لإبْراهِيم : هَكَذَا أَنـا أُحْيي وَ أُمِيْتُ ، لِذَلِكَ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ رَبِّ أَرِني كَــيْفَ تُحْـيي الـمَـوتـى )[ البقرة 260 ] ، كَيْ يَرى هَذا الكَافِرُ كَيْفَ يَكُونُ إحْيَاءُ الموتى ، فكان الردّ الإلهيّ : ( قال فَخُـذْ أَرْبَعَـةً مِـنَ الـطَـيْرِ فَصُـرْهُـنَّ إلَـيْكَ ثُمَّ اجْـعَـلْ عَـلـى كُـلِّ جَـبَلٍ مِـنْهُـنَّ جُـزْءاً ثُمَّ ادْعُـهُـنَّ يَأْتِيْنَكَ سَـعْـيَاً )[ البقرة 260 ] .
.
الـقُـدْسُ وَ الـمُـقَـدّسُ :
تَعْـني مَنْ يَمْنَحُ الحَيَاةَ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ عَجَبَ أنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْضَرَ مُوسى إلى الوادِي المُقَدَّسِ : ( إنَّكَ بالـوادِ الـمُـقَدَّسِ طُـوى )[ طه 12 ] ، حَيْثُ تَحَوَّلتِ العَصَـا إلى حَيَّةٍ تَسْعَى ، وَ حِيْنَ هَدَّمَ القُدْسَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ [ نَبُو خَذِّ نَصَّرْ ] عَام 585 قبل الميلادِ ، مَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ فاسْتَغْرَبَ عَوْدَتَها للحَيَاةِ : ( أوْ كَـالـذي مَـرَّ عَـلـى قَـرْيَةٍ وَ هِـيَ خَـاوِيَةٌ عَـلى عُـروشِهَـا فَقَالَ أنَّى يُحْي هَذِهِ اللّـهُ بَعْـدَ مَـوْتِهَـا فَأمَـاتَهُ اللّـهُ مِـئَةَ عَـامٍ ثُمَّ بَعَـثَهُ ) [ البقرة 259 ] ، لِيَرى أنَّ القُدْسَ قَدْ عَادَتْ للحَياةِ ، كَمَا أنَّ القُدْسَ وَالمُقَدَّسَ يَمْنَحُ البَرَكَةَ حَوْله : ( الـمَـسْـجِـدِ الأقْصَـا الـذي بَارَكْـنَا حَـوْلَـهُ )[ الإسراء 1 ] .
.
( الـشَـيْطَـانُ يَعِـدُكُـمُ الـفَقْـرَ )[ البقرة 268 ]
وَ الفَقْـرُ لَـهُ أَشْكَالٌ عَديدَةٌ : المَاليّ وَ العِلْميَّ وَ الصِحيّ وَ الإجتماعيّ 000 ، وَ كُلُّ أنْواعِ الفَقْر ِهَذه مَوْجُودَةٌ مَعَ الأَسَفِ في المُجْتَمَعِ العربيّ و الإسْلاميِّ .
وَ الـذي لاَ يَعِيشُ عَصْـرَهُ وَ يَتَفاعَـلُ مَعَـهُ ، هُوَ في خُـسْرٍ : ( وَ الـعَـصْـرِ إنَّ الإنْسَـانَ لَـفـي خُـسْـرٍ )[ العصر 1 ] ، و العصـرُ هو : العصر الذي يَعيشُ بِـهِ الإنْسَانُ .
وَ نِسْـبَةُ الأُمِيَّـةِ في المُجْتَمَعِ العَربيِّ مُخِيفَـةٌ ، وَ نظـافةُ النَصّ المحفوظِ [ القُرآنُ الكريمُ ] ، لـمْ تنتقلُ إلى [ نظـافَةِ الفهْـم ] ، وَ نظـافَةِ الأخلاقِ و البيْئةِ و السلوكِ ، فبقيَتْ هذه الأمّة في [ فقْـرهـا ] العلميّ و الحضاريّ ... ، و هـذا مَا يُريْدُه الشـيْطانُ .
.
فَـنَـظِـرةٌ إلى [ مَـيْسَـرة ] :
( وَ إنْ كَـانَ ذُو عُـسْـرَةٍ فَنَظِـرَةٌ إلـى مَـيْسَـرَةٍ )[ البقرة 280 ] ، وَ [ مَيْسَرَة ] مُنْتَهى اليُسْـرِ وَ لَيْسَ اليُسْرُ العَاديُّ ، فعلى الدائن انتظار المدين حتى يُصبح في ميسَرة و يحلّ جميع مشاكله المالية ، ثُمّ يُطالبه بالدين .
يُصَاغُ الاسْمُ في اللُّغَةِ عَلى وَزْنِ [ مَفْعَلَة ] لِلدَلاَلَةِ عَلى الكَثْرَةِ ، فَحَيْثُ تَكْثُرُ الدِراسَةُ
[ مَدْرَسَة ] ، وَ حَيْثُ يَكْثُرُ العِراكُ [ مَعْرَكَة ] وَ حَيْثُ تَكْثُرُ القُبُورُ [ مقْبَرَة ] وَ حَيْثُ يَكْثُرُ الطَحْنُ [ مَطْحَنَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الكُتُبُ [ مَكْتَبَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الطِباعَةُ [ مَطْبَعَة ] ، وَ هَكَذَا نَجِدُ في القُرْآنِ الكَريمِ ، الكَثيرَ مِنَ الأَمْثِلَةِ :
( أَوْ إطْـعَـامٌ في يَوْمٍ ذِي مَـسْـغَـبَةٍ )[ البلد 14 ] وَ المَسْغَبَةُ : الجُوعُ الشَديدُ ، وَ المَخْمَصَةُ : المَجَاعَةُ ( فَمَـنِ اضْـطُـرَّ في مَـخْـمَـصَـةٍ )[ المائدة 3 ] ، وَ كَثْرَةُ الرَحْمَةِ [ مَرْحَمَة ] : ( الـذينَ آمَـنُوا وَ تَواصَـوْا بِالـصَـبْرِ وَ تَواصَـوْا بِالـمَـرْحَـمَـةِ )[ البلد 17 ] ، كَمَا أنَّ كَثْرَةَ الشُؤْمِ [ مَشْأَمَة ] : ( وَ الذينَ كَفَروا بِآيَاتِنَا هُـمْ أصْـحَـابُ الـمـَشْأَمَةِ )[ البلد 19 ] .
.
المُحكـمـات و الـمـتشـابهات :
( هُـوَ الـذي أنْزَلَ عَـلَـيْـكَ الـكِـتَابَ مِـنْهُ آيَاتٌ مُـحْـكَـمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الـكِـتَابِ وَ أُخَـرُ مُـتَشَـابِهَـاتٌ فَأمَّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُـونَ مَـا تَشَـابَهَ مِـنْهُ )[ آل عمران 7 ]
نُلاَحِظُ أنَّ بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، قَدْ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأُولى أنَّهَا تُعَارِضُ بَعْضَهَا بَعْضَاً مِثْل : ( فَيَوْمَـئِـذٍ لاَ يُسْـأَلُ عَـنْ ذَنْبِهِ إنْـسٌ وَ لاَ جَـانٌ )[ الرحمن 39 ] ، وَ بَيْنَ : ( فَوَ رَبِّكَ لَـنَسْـأَلَـنَّهُـمْ أَجْـمَـعِـينَ )[ الحجر 92 ] ، وَ لَكِنْ : الآية الثانية هي [ مُحْكمة ] و الأولى [ مُتشابهة ] ، أيْ لا بُدّ من سؤال جميع الناس عن أعمالهم ، و الآية الأولى تتحدّث عن [ بداية ] يوم الحساب ، و لكن بعد ذلك سيتمّ سؤال الجميع ، فلا تعارض بين الآيتين الكريمتين ، لذلك يجب ردّ الآيات [ المُتشابهات ] إلى الآيات [ المُحكمات ] ، فالذينَ في عقولهم [ زيْغٌ = نقص ] هُم وحدهُم الذين يتّبعون فقط الآيات [ المُتشابهات ] من أجْل إثارة الفتنة .
.
شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ :
إنَّ شَهَادَةَ : [ لا إلـهَ إلاَّ اللّـهُ ] هيَ أسَاسُ إسْلاَمِ الإنْسَانِ ، وَ بِدُونِهَا يَكُونُ الإنْسَانُ مُشْرِكَاً ، وَهِيَ شَـهَادَةٌ يَشْهَدُهَا المُسْـلِمُ عَلى أَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ كُلِّهِ إلاَهَـاً آخَـرَ ، و بمـا أنّ : [ اللّـهُ أَكْـبَرُ ، اللّـهُ أَكْـبَرُ ] ، لِذَلِكَ فَإنَّ اللّهَ وَحْدَهُ قد أعطانا هَذِهِ الحَقيقَةَ بِأَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ إلَهٌ سِواهُ ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ شَـهِدَ بِذَلِكَ : ( شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ وَ الـمَـلائِـكَـةُ وَ أُولـُوا الـعِـلْـمِ قَائِـمَـاً بالـقِسْـطِ )[ آل عمران 18 ] ، إذَاً نَحْنُ نَشـهَدُ على شَـهَادَةِ اللّه بِأنَّـهُ : [ لا إلـهَ في الوجودِ كلِّـهِ إلاَّ اللّـهُ ] ، وَ لَمَّـا وَصَلَتْنَـا هَذِهِ الحَقيقَةُ عَنْ طَريقِ الرَسُولِ صلى الله عليه و سلم ، فَلاَ بُـدَّ مِنْ إتْمَـامِ الشَـهَادَةِ بالاعْتِرافِ بِـهِ رَسُـولاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ، فَكَانَتِ الشَهَادَّةُ التَـامَّةُ : [ أَشـهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ وَ أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللّهِ ] .

كل هذا والله اعلم .