الجمعة، 27 مارس 2015

(سورة النساء) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة النساء (من اية 1 الى 24)


( خـلَـقَـكُـم مـن نفـس واحـدة )[ النساء 1 ] :
مِنْ بَعْدِ تكْوينِ آدَمَ مِنَ الطينِ ، خُلِقَتْ زَوْجَتُهُ حَـوّاءَ مِن [ نفسه ] لِيَتَزَوّجَهَـا : ( خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ نَفْـسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَـلَـقَ مِنْهَـا زَوْجَهَـا )[ النساء1 ] ، إذاً لا يوجد [ أوادم ] قبل آدم ، ثُمّ وَ بَعْدَ فَتْرَةٍ غَيْرِ مَعْروفَةٍ أمِرَ اللهُ سبحانَهُ الملائِكَةَ بِتَحيّةِ آدَمَ [ السجودَ لآدَمَ ] ، فَنَفّذَ جميعُ الملائِكَةِ الأَمْرَ ، مَـا عَدا إبليسَ الجنّيَ ، الذي كانَ قَدْ حَشَرَ نَفْسَهُ بينَ الملائِكَةِ ، مُحاوِلاً عِبادَةَ اللهِ مِثْلَهُمْ : ( وَ إذْ قُلْـنَا لِلـمَـلائـِكَـةِ اسْجُـدوا لآدَمَ فَسَـجَـدوا إلاَّ إبْلـيسَ كـانَ مِـنَ الجِـنِّ )[ الكهف 50 ] .
ثُمَّ أسْكَنَ اللهُ سُبْحانَهُ آدَمَ وَ زَوجَتَـهُ في الجَنّـةِ الأرْضيّةِ ، وَ أمَرَهُما عَدَمَ الأكْلِ مِنْ إحْدى الأشْجَارِ : ( وَ قُلْـنَا يا آدَمُ اسْـكُـنْ أنْتَ وَ زَوْجُـكَ الـجَـنَّةَ وَ كُـلاَ حَـيْثُ شِـئْـتُمَـا مِـنْهَـا رَغَـداً وَ لاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الـشَـجَـرِة َ فَتَكُـونَا مِـنَ الـظَـالِـمِـينَ )[ البقرة 35 ]
فَتَدَخّلَ إبْليسُ ، وَ غَرَّرَ بِهِمَا بَعْدَ أنْ أقْسَمَ كاذِباً : ( وَ قَاسَـمَـهُـمَـا إنّي لَـكُـمَـا مِـنَ الـنَاصِـحـينَ فَدَلاّ هُـمَـا بِغُـرُورٍ )[ الأعراف 21 ] ، غَرّرَ بِهِما ، فَلَمْ يخْطُرْ بِبالِ آدَمَ أنّ أحداً يُقْسِمُ باللهِ كَذِباً ، فأكَلاَ مِنَ الشَجَرَةِ : ( فَلَـمَّـا ذاقَا الـشَجَـرَةَ بَدَتْ لَهُـمَا سَـوْآتُهُـمَـا ) [ الأعراف 22 ] ، فَحَقّقَ إبْليسُ الشَيْطانُ بِذَلِكَ ، وَ كانَ الخُروجُ مِنَ الجَنّةِ الأَرْضيّةِ التي كانَتْ تُؤَمِّنُ لآدَمَ حاجيّاتِهِ الأَسَاسيّةِ ، فَبَـدَأَ كِفاحَهُ وَ شَقاءَهُ مِنْ أَجْلِ العَيْشِ : ( فـَقُـلْـنَا يَا آدَمُ إنَّ هَـذا عَـدوٌّ لَـكَ وَ لـزَوْجِـكَ فَـلاَ يُخْـرِجَـنَّكُـمـَا مِـنَ الـجَـنَّةِ فَـتَشْـقى )[ طه 117 ] ، وَ كانَ ذَلِك سَبَباً لِدَبِّ النِزاعَاتِ بَيْنَ البَشَـرِ : ( بَعْـضُـكُـمْ لِـبَعْـضٍ عَـدُوٌّ ) [ البقرة 36 ] .
كُلُّ هَذا و الله أعلم .


(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

            ســورة ال عمران(من اية 104 الى اخرها)


يـأمرون بـالـمعـروف : 
( و لـتـكنْ مـنكم أمّـةٌ يـدعونَ إلى الخير و يأمـرون بالمعـروف و ينهون عن المنكـر ، و أولائك هُـم المفلحون )[ آل عمران 104 ] ، وَ ( الأمْـرُ بالمَعْروفِ وَالنَهْيُ عَنِ المُنْـكرِ ) ، هوَ مِنَ الخَصَائِصِ الهامّة لهذه الأمّة ، فَلَمْ تَكنْ هذِهِ الأمَّةُ خَيْرَ الأُمَمِ إلاَّ حينَما أَمَرَتْ بالمَعْروفِ وَ نَهَتْ عَنِ المُنْكرِ : ( كُـنْتُمْ خَـيْرَ أُمَّـةٍ أُخْـرِجَـتْ لِلـناسِ تَأْمُـرونَ بِالـمَـعْـروفِ وَ تَنهَـوْنَ عَـنِ الـمُـنْكَـرِ )[ آل عمران 110 ] .
( وَ أْمُـرْ بِالـعُـرْفِ )[ الأعراف 199 ] ، وَ العُـرْفُ وَ المعْروفُ : هوَ مَا تَعَـارَفَ عليْهِ المجْتَمَعُ شَرْطَ أنْ لا يَتَعَارَضَ مَعَ نَصٍّ شَرْعيٍّ فَيَكونُ عُرْفـاً باطِـلاً ، أيْ هوَ : كلُّ أمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ [ عُرْفاً أوْ شَرْعاً أو عَقْلاً أوْ طَبْعاً ] ، وَ هوَ عَـامٌّ لِكلِّ المجتَمَع ، وَ خاصٌّ لِفِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ التجَّارِ مَثَلاً ، فـالعَادَةُ مُحَكِّمَـةُ ، وَ المعْروفُ عَكْسُ المنْكَرِ [ الشَيْءُ غيْرُ المألوفِ ، وَ ما لا يَقْيَلُهُ عَقْلٌ أو منْطِقٌ أوْ طَبعٌ ] ، وَ لا يُنْكَرُ تَغَيَّرُ الأحْكام بِتَغَيّر الزمَـانِ ، عنْ حُذَيْفَةُ بن اليَمانِ رضيَ الله عنه عَنِ النبيّ صلى الله عليه و سلم قالَ : [ وَ الذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَـأْمُرَنَّ بالمعروف وَ لَتَنْهونَ عن المنْكَرِ أوْ لَيوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكمْ عِقاباً منه ثُمَّ تَدْعونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لكمْ ][ رواه الترمذي ] .
.
مـعـركـة بـدْر :
( و لقـد نصَركُم الله ببـدْرٍ و أنـتُم أذِلّةٌ )[ آل عمران 123 ] .
أخْرَجَ الله المُؤمِنينَ للقِتَالِ : ( كَـمَـا أخْـرَجَـكَ رَبُّـكَ مِـنْ بَيْتِـكَ بِالـحَـقِّ وَ إنَّ فَـريقاً مِـنَ الـمُــؤمِـنينَ لَـكَــارِهُـونَ )[ الأنفال 5 ] ، وَ نَظَّمَ صُفوفهُمْ عَسْكَرياً : ( تُبَـوِّىُ الـمُـؤمِـنينَ مَـقَـاعِـدَ للـقِـتَالِ )[ آل عمران 121 ] ، بَعْدَ أنْ شَاوَرَ أصْحَابَ الاخْتِصَاصِ في مَوْقِعِ التَمَرْكُزِ ، فَكَانَ رَأْيُهُمْ أنْ يَتَمَرْكَزُوا في العُدْوَةِ الدُنْيَا [ الأقْرَبُ إلى المدينَةِ ] ، وَ قَدْ أيَّدَ القُرْآنُ هَذَا الرَأْيَ للحَبّاب بن المُنْذِرِ كَوْنَهُ صَائِبَاً : ( إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الـدُنْيَا وَهُـمْ بالعُـدْوَةِ الـقُـصْوى ) [ الأنفال 42 ] ، وَ في لَيْلَةِ المَعْرَكَةِ سيْطَرَ عليْهِمُ النَوْمُ العَمِيقُ مِنْ أجْلِ الرِاحَةِ الجسْميَّةِ و النَفسيَّةِ : ( إذْ يُغَـشِّـيْـكُـمُ الـنُعَـاسَ أمَـنَةً مِـنْهُ )[ الأنفال 11 ] .
وَ فـي المَنـَامِ هَيّـأَ اللهُ رُؤيَا خَاصّة لِرَسُولِهِ الكريم [ رَفْعُ الرُوحِ المَعْنَويَّةِ للقَائِدِ العَسْـكريِّ ] : ( إذْ يُـرِيْـكَـهُـمُ اللَّـهُ فـي مَـنَامـكَ قَـلـيلاً وَ لَـوْ أراكَـهُـمْ كَـثيراً لَـفَـشِـلْـتُمْ وَ لَـتَنَازَعْـتُـمْ فـي الأمْـرِ وَ لَـكِـنَّ اللَّـهَ سَـلَـمَ )[ الأنفال 43 ] ، وَ في الصَباحِ تَمَّ الاسْتيقاظُ بِنَشَاطٍ بَعْدَ الرَشِّ بالمِيـاهِ : ( وَ يُنَـزِّلُ عـلَـيْكُـمْ مِـنَ الـسَـمَـاءِ مَـاءً لَـيُطَـهِّـرَكُـمْ بِهِ وَ يُذْهِـبَ عَـنْـكُـمْ رِجْــزَ الـشَـيْطانِ وَ لِـيَـرْبِطَ عَـلـى قُـلُـوبِكُـمْ )[ الأنفال 11 ] ، وَ كانَ رشُّ الأرْضِ بالمَاءِ ضَرورياً لأنَّ غَالبيّة الجيشِ المُسْـلِمِ كانَوا مُشَـاةً : ( وَ يُـثَـبـِّتَ بِهِ الأقْدامَ )[ الأنفال 11 ] .
وَ قَبْلَ بِدايَةِ المَعْرَكَةِ قَلَبَ اللهُ حَالةَ الرُؤيـَا في عَيْنَيْ رَسُولِهِ وَ المُؤمِنينَ لِرَفْعِ الرُوحِ المَعْنَويّةِ الضَروريّةِ للنَصْرِ : ( و َإذْ يُـريـكُـمُـوهُـمْ إذ ِالـتَقَـيْـتُـمْ فـي أَعْـيُـنِكُـمْ قَـلـيلاً وَ يُقَـلِّـلُـكُـمْ فـي أَعْـيُـنِهِـمْ لِـيَقْـضِـيَ اللَّـهُ أمْـراً كَــانَ مَـفْـعُـولاً )[ الأنفال 44 ] ، بَعْدَ أنْ كَانَتْ الرُؤيـَا تُشيرُ عكْسَ ذَلِكَ بِسَـبَبِ الخَـوْفِ المُسَيـْطِرِ : ( يَرَوْنَهُـمْ مِـثْـلَـيْهِـمْ رَأْيَ الـعَـيْنِ ) [ آل عمران 13 ] .
وَ كانَ نُزُولُ المَلائِكَةِ ، مِنْ أجْلِ رَفعِ الحَالَةِ المَعْنويّةِ أوّلاً : ( وَ مَـا جَـعَـلَـهُ اللَّـهُ إلاَّ بُشْـرى وَ لِـتَطْـمَـئِنَّ بِهِ قُـلُـوبُـكُـمْ )[ الأنفال 10 ] ، فالمُلاحَظُ أنَّهُ كُلّمَا تَشَكّلَ مَجْموعَةٌ قِتاليـةٌ مُؤمِنَةٌ عَدَدُهَـا [ 100 ] مُـسْلِمٍ ، يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ [ 1000 ] مَلَكٍ ، كَتَغْطِيَةٍ جَوّيَةٍ لِحِمايَتِهِمْ ، فَلَمّا كَانَ عَدَدُ المُسْلِمينَ [ 314 ] مُقَاتِلاً ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ المَلائِكَةِ ثلاثَةُ آلافٍ ، حَيْثُ بَقِيَ [ 14 ] مُسْلِمَـاً [ خَارِجَ التَغْطِيَـةِ ] ، هُمْ الذينَ كَانوا الشُـهَداءَ الأرْبَعَةَ عَشَـرَ فَقَطْ ، وَ بِما أنَّ الخَسَـائِرَ المُعَـادِيَةَ هيَ عَشَرَةُ أضْعافِ الخَسائِرِ المُؤمِنَةِ ، فَقَدْ كانَتْ فِعْلاً خَسَائِرُ الأعْداءِ 140 مُقَاتِلاً : [70 قتيلاً +70 أسيراً بِحُكْمِ القَتْلى ] : ( إنْ يَكُـنْ مِـنْكُـمْ عِـشْـرونَ صَـابِرون يَغْـلِـبُوا مِـئَـتَيْنِ وَ إنْ يَكُـنْ مِـنْـكُـمْ مَـائَـة يَغْـلِـبُوا ألْـفاً )[ الأنفال 65] ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى : ( فَـاضْـرِبوا فَـوْقَ الأعْـناق ِ)[ الأنفال 12 ] ، فَهُوَ تَعْليمٌ للمُؤمِنينَ حَيْثُ أنَّ الضَرْبَ فَوْقَ الأعْناقِ ، وَ لوْ بِقُوّةٍ خَفيفَةٍ عَلى البَصَلَةِ السيسائيّةِ كَافٍ للقَتْلِ ، وَ هُوَ القَتْـلُ الرَحيْمُ حتّى لِلأعْداءِ ، أمّا مِنْ أجْلِ شَـلِّ قُدْرَةِ العَدوِّ ، وَ إخْراجِهِ مِنْ أرْضِ المَعْرَكَةِ : ( وَ اضْـرِبوا مِـنْـهُـمْ كُـلَّ بَنَانٍ )[ الأنفال 12 ] ، فَبَعْدَ الأَخْذِ بكُلِّ هَذِهِ الأسْبابِ ، أتى النَصرُ الإلهيُّ : ( وَ مَـا الـنَـصْـرُ إلاَّ مِـنْ عِــنْـدِ اللَّـهِ إنَّ اللَّـهَ عَـزيزٌ حَـكِـيمٌ )[ الأنفال 10 ] ، ( وَ لَـقَـدْ نَصَـرَكُـم اللَّـهُ بِبَـدْرٍ وَ أنْتُمْ أذِلّـةٌ )[ آل عمران 123 ] ، بَعْدَ أنْ طَبَّقَ الخُطَطَ العَسْكَريَّةَ اللازِمَةَ ، وَ لَيْسَ النَصْرُ بِدونِ عَمَلٍ ، وَ بِدونِ الأخْذِ بالأسْبَابِ : ( وَ لَـقَـدْ صَـدَقَـكُـمُ اللّـهُ وَعْـدَهُ إِذْ تَحُـسُّـونَهُـمْ بِإذْنِهِ )[ آل عمران 152 ] .
.
فـحَـصَ ، مـحّـصَ :
( و لـيُـمَـحّـصَ مـا في قلـوبكـم )[ آل عمران 154 ] ،إنّ [ الفَحْص ] هو الاختبـار العـلنيّ ، و يُظـهر الإنسان أنّه يعمل العملَ الصالح ، مثال : الصلاة نفاقاً دون الإيمان بهـا .
بينمـا [ الـمَـحْـص ] : هو إختبارٌ سـريّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، الذي يعلم [ ذات الصدور ] ، و يعْلَم [ الـنـيّة ] من العمَل ، لذلك كان آخر الآية الكريمة : ( و الله عـليمٌ بذات الصدور )[ آل عمران 154 ] ، فإذا نجح الإنسان في [ الفحْص ] فقط ، يكون عمله [ حسناً ] ، أمّـا إذا نجحَ في [ الفـحْـص + الـمَـحْص ] ، عندهـا يكون عمله [ صالحاً ] يُصلح حال الفرْد و المجتمع و يُرفع عمله إلى الله سبحانه : ( و العـملُ الصالح يرفعه ) [ فاطر 10 ] .
.
الأجـل الـمسـمّى و الأجـل الـمُـقـضـى :
إنَّ لِكُلِّ إنْسَـانٍ مِنَّـا أجَلَيْـنِ ، وَ لَيْسَ أجَـلاً واحِـدَاً ، فَـإذَا مَـا نَظَـرْنَا في قَوْلِهِ تعالى : ( هُـوَ الـذي خَـلَـقَـكُـمْ مِـنْ طِـينٍ ثُـمَّ قَـضَـى أجِـلاً وَ أجَـلٌ مُـسَـمَّـى عِـنْدَهُ )[ الأنعام 2 ] ، فالأجَلُ أجَـلاَنِ : [ أجَلٌ مُقْضَى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ بِشَكْلٍ سَريعٍ مِثْلَ الحَوادِثِ وَ الكَوارِثِ أوِ القَتْلِ مَثَلاً ، وَ [ أجَلٌ مُسَمَّى ] يَذْهَبُ فيهِ الإنْسَانُ حَتْمَاً في نِهَايَةِ عُمْرِهِ ، وَ لَيْسَ فيهِ أيُّ تَقْديْمٍ أوْ تَأْخيرٍ : ( وَ مَـا مُـحَـمَّـدٌ إلاَّ رَسُـولٌ قَـدْ خَـلَـتْ مِـنْ قَبْلِـهِ الـرُسُـلُ أَفَإنْ مَـاتَ أوْ قُتِلَ )[ آل عمران 144 ] ، مَـاتَ : بالأجَلِ المُسَمّى ، أوْ قُتِلَ : بالأجَلِ المُقْضى في أيِّ وَقْتٍ كَانَ ، حَيْثُ كَانَ نَصِيبُ الكَثيرِ مِنَ الأنبياءِ الكِرامِ القَتْلُ [ الأجَلُ المُقْضَى ] : ( وَ يَقْتُلُـونَ الأنْبِيَاءَ بِغَـيْرِ الـحَـقِّ )[ آل عمران 112 ] ، و قوله : ( بِغَـيْرِ الـحَـقِّ ) تُظْهرُ أنّ في القتل لا يكون عُمر الإنسان منتهياً ، وَ الآيَةُ الكريْمَةُ التاليَةُ تَزيدُ الأمْرَ وُضُوحَاً أكْثَرَ : ( وَ لَـوْلاَ كَـلِـمَـةٌ سَـبَقَتْ مِـنْ رَبِّكَ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى لَـقُضِـيَ بَيْنَهُـمْ )[ الشورى 14 ] ، وَ كَذَلِكَ : ( وَ رَبُّكَ الـغَـفُـورُ ذُو الـرَحْـمَـةِ لـوْ يُؤاخِـذُهُـمْ بِمَـا كَـسَـبُوا لَـعَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ بَلْ لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ لَـنْ يَجِـدوا مِـنْ دُونِهِ مَـوْئـِلاً )[ الكهف 58 ] ، عَـجَّـلَ لـهُـمُ الـعَـذَابَ : بالأجَلِ المُقْضى ، لَـهُـمْ مَـوْعِـدٌ : الأجَلُ المُسَمّى ، أيْ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِمَـا كَـسَـبوا مَـا تَرَكَ عَـلـى ظَـهْـرِهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـى )[ فاطر 45 ] ، أي إزالَةِ كلّ أشْكالِ الحياةِ بالأجَلِ المُقْضى ، لأنّ الأجَلُ المُسَمّى لَيْسَ فيهِ تَأخيرٌ .
فَالأجَلُ المُقْضَى يُمْكِنُ تَأجيلُهُ حَتَّى الأجَلِ المُسَمَّى حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تَأْخيرٌ وَ لَوْ لِسَـاعَةٍ واحِـدَةٍ : ( وَ لَـوْ يُؤاخِـذُ اللَّـهُ الـنَاسَ بِظُـلْـمِهِـمْ مَـا تَرَكَ عَـلـيْهَـا مِـنْ دَابَّةٍ وَ لَـكِـنْ يُؤَخِّـرُهُـمْ إلـى أجَـلٍ مُـسَـمَّـىً فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ) [ النحل 61 ] ، ( وَ لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ فَإذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ لاَ يَسْـتَأخِـرونَ سَاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ الأعراف 34 ] ، ( لِـكُـلِّ أُمَّـةٍ أجَـلٌ إذا جَـاءَ أجَـلُـهُـمْ فَـلا يَسْـتَأْخِـرونَ سَـاعَـةً وَلاَ يَسْـتَقْـدِمُـونَ )[ يونس 49 ] ، فالأجَـلُ المُسَـمَّى لاَ تَقْديْمَ فيهِ وَ لاَ تَأْخيرَ ، فقد قَدَّمَ التَأْخيرُ ( يَسْتَأخِرونَ ) وَ أخَّرَ التَقْديمُ ( يَسْتَقْدِمُونَ ) ، وَ ذَلِكَ لِحَسْمِ المَوْضُوعِ حَيْثُ لاَ تَقْديمٌ وَ لاَ تأْخيرٌ في الأجَلِ المُسَمّى .
( وَ لَـئـِنْ أخَّـرْنَا عَـنْهُـمُ الـعَـذَابَ إلـى أُمَّـةٍ مَـعْـدُودَةٍ )[ هود 8 ] ، ( وَ لَـنْ يُؤَخِّـرَ اللّـهُ نَفْسَاً إذَا جَـاءَ أجَلُـهَـا )[ المنافقون 11 ] ، ( وَ مَا كَانَ لِـنَفْسٍ أنْ تَمُـوتَ إلاَّ بِإذْنِ رَبِّهَـا كِـتَابَاً مُـؤَجَّـلاً )[ آل عمران 145 ] ، إذاً : تَمُـوتَ وَ ليْسَ تُقْتَلُ لأنَّ اللّهَ لاَ يَأْذَنُ بِقَتْلِ أحَدٍ ، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ )[ الرعد 38 ] ، وَ الكِتَابُ : هُوَ مَجْمُوعَةُ العَوامِلِ وَ الأسْبَابِ التي تُنْهي الحَيَاةَ ، مِثْلَ الحَوادِثِ وَ المَرَضُ المُميتُ وَ الشَيْخوخَةِ وَ القَتْلُ 000 ، فإذَا وَقَعَتْ هَذِهِ العَوامِلُ ( الكِتَابُ ) انْتهى الأجَلُ وَ حَصَلَ الحَسْمُ ، وَ يَعْمَلُ الطُبُّ وَ الإسْعَافَاتُ عَلى وَقْفِ وَ تَأْخيرِ هَذِهِ العَوامِلَ ، لِمَنْعِ الأجَلِ المُقْضى وَ رَفْعِ مُعَدَّلِ الأعْمَارِ [ في الدُوَلِ المُتَقَدِّمَةِ ] ، وَ لِكِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ في النِهَايَةِ الأجَلَ المُسَمّى.

كل هذا والله اعلم.



الخميس، 26 مارس 2015

السـماوات الســبْع و السـماء الدنيـا

الســماوات العُـلى :

عـددهـا [ ســبْع ســماوات ] ، و قـدْ ورَد ذكْـرُهـا مـرّة واحـدة في القُرآن الكريم : ( تنـزيلاً مـمّـنْ خَلَـقَ الأرْضَ و - السـماوات العُـلى - ) طـه 4 ، و هذه السـماوات لا أحد يدري متى خُلقتْ و سِـعتهـا إلاّ الله وحده ، و فيهـا الـجنّـات و النـار و كلّ عوالم الآخرة .... ، و المعلومـات [ الوحيدة ] المُتوفّرة لـدى البشـريّة عن هذه السماوات ، هي المعلومات الأكيدة التي جاء بهـا الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم في معراجـه الشريف بالجسم و النفس حيثُ : ( رأى منْ آيـات ربّـه - الكـبرى - ) النجم 18 .
و هذه السماوات العُـلى قـد حجبهـا الله سـبحانه عن عيون البشـر : ( ثُـمّ ارجِـع البصَـرَ كـرّتين ، ينقـلبْ إليْـكَ البصـرُ خاسـئـاً و هـوَ حسـير ) الملك 4 .
.
_ الســماء الـدنيــا :
هي التي لهـا عـلاقة ب [ الحـياة الدُنـيا ] التي نعيشُهـا ، و السـماء الدنيــا هي [ الغـلاف الجـويّ ] للأرض ، الذي يتـكوّنُ أيـْضـاً من [ سـبْع سـماوات ] أيْ : سـبْع طبقات مُتراكبة فوق بعضهـا البعْض و هذه قابلة للرؤيـة البشـريّة كمـا توضح الآية الكريمة التالية : ( ألَـمْ تـروْا كـيْفَ خلَقَ اللـه سَـبْع سـماواتٍ طـباقاً ) نوح 15 ، و هذه السماوات السبع هي فوق الكرة الأرضيّة و هي جـزء منهـا و تدور معهـا و تتـحرّك في الفضاء معهـا : ( و بنـيْنا - فوقكم - سـبْعاً شِـداداً ) النبـا 12 ، لذلك نحن [ في ] الأرْض و لسنـا [ على ] الأرْض ، لأنّ [ الغـلاف الجـوّي = السماء الدنيـا ] هـو جـزْءٌ لا يتجـزّأ منَ الأرْض ، تقول الآيات الكريمة : ( قُـل سـيروا - فـي - الأرْض ) الأنعام 11 / الروم 42 / النمل 69 .
و توضح الآية الكريمة التالية ، أنّ الله سبحانه قـدْ خـلَق [ سـبْع سماوات عُلى ] ، و منَ الأرْض الواحدة خلَقَ أيضـاً [ سبع طبقات من السماء الدنيا ] مثْل السـماوات العُلى : ( الله الذي خلَقَ سَـبْع سـماوات ، و منَ الأرْض مثلهُنّ ) الطلاق 12 ، و هذه [ السماء الدنيـا ] أخذَتْ [ نصف زمن ] تكوين الأرض ، يقول تعالى مُفصّلاً ذلك في سورة [ فصّلتْ ] : ( قُل أئنّكُم لتكفرون بالذي خلَقَ الأرْضَ في يومين ) فصّلت 9 ، أيْ تـمّ [ تكوين ] الأرض في يومين من أيّـام الخلْق ، و تُـتابع الآية : ( و جعَلَ فيهـا رواسيَ منْ فوقهـا و بارك فيها و قدّرَ فيهـا أقواتهـا في - أربعـة أيّـام - ) فصّلت 10 ، فاصبح [ مجموع ] الأيّـام = [ أربعـة أيّام ] ، و تُتابع الآيات : ( ثُـمّ اسـتوى إلى السـماء و هي دُخـانٌ ... فقضـاهُنّ سـبْع سـماواتٍ في - يومـين - ) فصلت 11_ 12 ، أيْ : أثنـاء تكوين الكرة الأرضية كان [ الغـلاف الجوّي = السماء الدنيا ] ، كان دُخـاناً ، و قد استغرق تكوين الكرة الأرضية [ أربعة ] أيّام من أيّام الخلْق ، بينمـا استغْرقَ تكوين الغلاف الجوّي [ السماء الدنيا ] ، استغرق [ يومين ] فقط ، أيْ [ نصف ] زمن تكوين الأرض .
.
إنّ [ الغلاف الجوّي ] للأرض ، أيْ : [ السـماء الدُنيـا ] هي السـبب في [ رؤية ] ضـوء النجـوم ، لأنّ الغلاف الجويّ يعْملُ عمل [ العدسة الزجاجية ] المحدّبة ، [ فَيُـجلّي ] ضوء الشمس و القمر و النجوم ، فتبدو هذه [ السماء الدنيـا ] مُـزيّنـة بالنجوم ، أمّـا من خارج الغلاف الجويّ ، فتبدو السماء مُظلمة و خالية منَ النجوم ، لذلك قال تعالى : ( و لقـدْ زيّنّـا السـماء الدنيـا بمصـابيح ، و جعلنـاهـا رُجُـوماً للشـياطين ) الملك 5 ، و كلمة [ جعلنـاها ] تعود على [ السماء الدنيـا ] ، و ليْس على [ المصابيح = النجوم ] ، لأنّ الشياطين يتمّ رجْمهُم ب [ الشُهُب ] و ليْس ب [ النجوم ] : ( إلاّ مَن استرق السمْع فـأتبعه - شـهاب - ) الحجر 18 ، و ليس : [ أتبعه نجْـم ] ، و فعلاً يحصل الرجْم الشهبيّ [ المطر الشهبي ] على ارتفاع / 80 كـم / فوق سطح الأرْض ، كمـا قال لي رائد الفضاء العربي السوري و صديقي الشخصي في حلب اللواء [ محمد فارس ] ، و هذا كان اكتشاف الجنّ : ( و أنّـا لَمَـسْنا السماء فوجدناها مُلِـئَـتْ حـرسـاً شـديداً و شُهُباً ) الجن 8 ، و [ الحرس ] يكون على الأبواب ، إذاً [ أبواب ] الصعود للسماء تقع على ارتفاع / 80 / كم من سطح الأرض ، و عليها حرسٌ لعدم صعود الجنّ ، و الله قد [ سمح ] للإنسان بالمرور من هذه الأبواب : ( لا تنفذون إلاّ بسلطان ) الرحمن 33 لقوله تعالى : ( سـنريهمْ آياتنا في الآفاق ) فصلت 53 ، و لذلك قال تعالى : ( و لو فتحنـا عليْهم بـابـاً من السماء - فظـلّوا - فيه يعـرجون ) الحجر 14 .
_ فالرجـاء من الذين عقولهم و معلوماتهُم [ مخـلوطة ] أنْ يكفّوا عن استخدام رسائل الموبايل لتبرير شتائمهم ، و بدون أيّ دليل علميّ من عندهم ، لأنّ صفحاتهم لا يدخلهـا أحدٌ غيرهم !!!!!!!!! .
_ والدليل الآخـر أنّ الـزينة هي في [ الغلاف الجويّ ] نُقارن بين الآيتين الكريمتين : ( أفَـلمْ ينظـروا إلى السـماء - فوقهُـم - كيْف بنينـاهـا و - زيّنّـاهـا ) ق 6 ، : ( و لقـدْ - زيّنّـا - السـماء الدنيـا بمصـابيح ) الملك 5 ، و تتابع الايـة : ( و جعلـناها رجـومـاً للشياطين ) الملك 5 ، أيْ : جعلنـا [ السـماء الدنيا ] رجوماً للشياطين ، و الرجم الشهبي يقع على ارتفاع / 80 كم / فقط من سطح الأرض .
_ كلّ هـذا ، و اللـه أعلـم .

كيف نصل الى علاقة سليمة بين القرآن وأمة القرآن

الواقع والطموح:ـ

الواقع المشاهد في علاقة الأمَّة بالقرآن المجيد أنَّها علاقة وصل شكليٍّ، وهجر حقيقيٍّ وفعليٍّ. أمَّا الوصل الشكليُّ فتؤكد وجوده إذاعات القرآن الكريم، وطباعة القرآن، وتزيينه، والأحاديث التي تدور حوله، ومعاهد تحفيظه، والمسابقات والجوائز وما إلى ذلك، فهذا واقع يشي بوجود حالة وصل قد تُقْنِع العامَّة والبسطاء، ومن لا يعرفون من القرآن وعنه إلا تلك الأشكال.ـ

أمَّا الذين يعرفون أنَّ القرآن كتاب حياة واستخلاف وتوحيد وتزكية وعمران، فإنَّ لهم موقفًا آخر. لقد حمل القرآن الوحي الإلهيَّ الذي جاء به الأنبياء كافَّة، وجعل من الأنبياء «أمَّة واحدة»، ومن أتباعهم«أمَّة مسلمة» لله -تبارك وتعالى- يوحِّدها الإيمان ويجمع بينها الإسلام؛ ولذلك فإنَّ القرآن المجيد قد ضمَّ بين دفَّتيه عقيدة الأنبياء كافَّة وأصول وقواعد شرائعهم، وأهم تجاربهم مع البشريَّة عبر تاريخها الممتد، والدروس والعبر التي يمكن أن تُستقى منها، كما قدَّم دليلاً واضحًا لمجموعة السنن والقوانين الكونيَّة والاجتماعيَّة التي تحكم مسارات الحضارات الإنسانيَّة نشوءًا وارتقاءً، صعودًا وهبوطًا؛ وذلك لتمكين الإنسان من بناء عمران راسخ البنيان، متين الدعائم، معنويًّا وماديًّا، تُعَزِّز دعائمه وتشدَّ بنيانه وتُقَوِّيه قيم ثابتة، وغائيَّة صالحة، ومقاصد رائدة، تقود خطى الإنسان نحو «تحقيق غاية الحق من الخلق» بأهدى السبل، وأقوم الوسائل، وأثبت الطرق.

ولذلك كان القرآن المجيد في «جيل التلقي» مركز الدائرة في قلب وعقل ووجدان كل منهم، يستحيل أن يتجاوزوه إلى ما سواه، أو يقدِّموا عليه ما عداه، فضلاً عن أن يستغنوا عنه بما سواه، فكانوا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وبنهيه ينتهون، وبوصاياه وموعظته يتعظون.

ثم تعرَّضت الأمَّة -بعد رسولها الشاهد الأمين صلى الله عليه وآله وسلَّم- إلى تأثيرات سُنَّةِ طول الأمد وقسوة القلوب، فبدأت قبضتها تلين شيئًا فشيئًا عن التمسُّك بالقرآن والاعتصام به، وبذلك بدأت عرى ارتباطها بالقرآن المجيد تنتقض عروة عروة، فنقضت أول ما نقضت «عروة الحكم» فانفرط عقد«أولى الأمر منكم»، واختلفت القلوب، واقتتلت الأمَّة وسفكت الدم الحرام. وكان في كتاب الله -لو أحسنت الأطراف كلّها الرجوع إليه- مخرجًا من تلك الفتن.ـ

فالقرآن قد بيَّن بيانًا شافيًا أنَّ الأمم التي بنيت «بالوحي الإلهيِّ» إذا طال عليها الأمد قست منها القلوب؛ أولا: تغري بينها العداوة والبغضاء، ثانيًا: ثم تحكِّم السيف في رقاب بعضها بعضًا، ثالثًا: ولن ترفع أسيافها عن رقاب بنيها حتى تعود -وهي صادقة خالصة- إلى كتاب ربها، فتطَّرح بين يديه، وتحكِّمه تحكيمًا شاملا في شؤونها وشجونها، وتُعيد بناء علاقاتها به ومعه، وترى فيه -إضافة إلى رؤيتها له في عهد نبيِّها صلى الله عليه وآله وسلَّم- نبيًّا مقيمًا حيًّا دائمًا خالدًا بينها، ترجع إليه فيما جلَّ ودقَّ من شؤونها وشجونها، وتثوِّره لينطق بالحق في كل ما يعتمل في ساحاتها، فتُحِلُّ حلاله، وتُحَرِّم حرامه، وتعمل به، ولا تقطع أمرًا دونه، ولا تسبقه بالقول في أيِّ شيء من الأشياء، فله الاحتكام وبه الالتزام، وعلى هديه المعوَّل، توالي مَنْ يواليه، وتُعادي من يُعاديه، وتُجافي مَنْ يتنكَّب سبيله، تعمل بكل أحكامه، وتتعظ بكل قصصه وأمثاله، وتعتبر بها، وتهتدي بكل آياته، وتستشفي به من سائر انحرافاتها، حتى يكون نظام حياتها، ومنهاج حركتها، ونبراس وجودها. فلا تعشو عنه لحظة، ولا يغيب عنها ثانية، وإلا فإنَّ الله -تعالى- غنيٌّ عن الشركاء وغنيٌّ عن سائر أولئك الذين يجعلون القرآن عضين، أو يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أو يكونون من أولئك الذين قال -سبحانه- فيهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106).ـ

فكيف يمكن أن يتحقق هذا الهدف الذي نتمنَّاه؟ وما سبيل الوصول إليه بحيث يكون القرآن المجيد -من جديد- في مركز الدائرة من قلوبنا وعقولنا ووجداننا، ليأخذ بأيدينا إلى التي هي أقوم؟!

* * *

أ- الهدف الأساسي -إذن- هو إعادة القرآن المجيد إلى مركز الدائرة في عقول أبناء الأمَّة وقلوبهم ووجدانهم وحياتهم كلّها بكل جوانبها.

الوسائل المقترحة:

1- تخلية العقل المسلم من سائر الأفكار التي صرفته عن القرآن المجيد قديمها وحديثها، وباعدت بينه وبين الأمَّة، وجعلته في سلوكها كتابًا خاصًّا بالدار الآخرة بعيدًا عن الحياة الدنيا وشؤونها وشجونها.

2- وذلك يقتضي ما يلي:

أ‌- فحص ورصد مسيرة أمَّتنا مع القرآن الكريم وبه؛ لنتبيَّن سائر العوامل والمتغيِّرات التي حدثت حتى أوصلت علاقة أمتنا بالقرآن إلى حالة الهجر والفصام التي نبَّهنا إليها.ـ

ب‌- مراجعة تراثنا الإسلاميِّ -في معارفه المختلفة- مراجعة شاملة لمعرفة مدى اتصاله بالقرآن، ومدى انفراج الزاوية معه، والانفصال عنه؟ وما الذي يمكن رصده في التراث من مؤثِّرات في تلك العلاقة في الجانبين: الإيجابيِّ والسلبيِّ، مع عناية خاصَّة برصد ما اشتملت عليه «علوم القرآن» من تفسير وأسباب نزول وما إليها. وكذلك الحال بالنسبة لعلم «أصول الفقه» وأدلَّته وثماره.ـ

جـ- مراجعة المؤثِّرات من التراث المعاصر -الغربيِّ منه وسواه- وبخاصَّة تلك التي نزعت عن الوحي الصفة العلميَّة والمعرفيَّة فهمَّشت سائر الكتب الدينيَّة وأبعدتها، فلم تعد في الإطار المعرفيِّ القائم من مصادر المعرفة المعاصرة، وقد تعرَّض القرآن المجيد إلى نسبة أكبر من التهميش ليس من الصعب الكشف عنها.ـ

د- العمل على تقديم القرآن المجيد للعقل السليم -بل وللعالم كلِّه- تقديمًا يهيء الأمَّة والعالم لإدراك «حقيقة القرآن»، باعتباره كتابًا كونيًّا معادلاً للكون وحركته، ذا وحدة بنائيَّة، ومحددات منهاجيَّة كثيرة، كفيلة بأن تجعل منه مركز الدائرة من جديد في عقولنا وقلوبنا ووجداننا وحياتنا كلِّها، بل وحياة العالم كلِّه.ـ

هـ- بناء «نظريَّة كاملة للتدبُّر السليم»، قائمة على هديه -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- في «التدبُّر»، تجعل من التدبُّر أمرًا يمكن تعليمه للناس وتربيتهم عليه وتدريبهم على ممارسته، وقد تطوَّرت المعارف المتعلِّقة بالتدريب على التأمُّل في النصوص، وتحليلها، وكيفيَّة الوصول إلى مدلولاتها المتنوعة بمستوياتها المختلفة، فهناك نصوص تدرَّس ويُنظر فيها لتربية ملكات مختلفة لدى الإنسان، وهناك نصوص يقود تدبُّرُها والعناية بها إلى تأسيس وبناء حاسة أدبيَّة أو نقديَّة أو فنيَّة؛ والقرآن المجيد فيه من ذلك كلِّه، فهو يُوقظ ملكات متدبِّريه، ويُعطي لقوى وعيهم وحواسِّهم الإدراكيَّة مزيات لا تبلغها بأيِّ نصٍّ من النصوص عداه، فهو خطاب الله -تعالى- إلى فطرة الإنسان وعقله، وضميره ووجدانه، وهو بصائر لقوى وعيه كلِّها، يُربِّيها، ويزيل كل ألوان الصدأ والرين عنها، ويجعل منها حواسًّا قادرة على ممارسة هذا الذي يطلق عليه المربون اليوم Creative Thinking .ـ

و_ بناء «نظريَّة كاملة» لتفسير القرآن بالقرآن، وهو التفسير الذي أُثر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- فيما نقله أصحاب الصحاح من آيات قليلة فسَّرها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- تفسيرًا قوليًّا. أمّا «التفسير التأويليّ أو التطبيقي» فإنَّ السنَّة الصحيحة -بجملتها- تفسير للقرآن، وتأويل وتفعيل له في الواقع الذي عاشته الأمَّة في «جيل التلقي».ـ

د. طه جابر العلواني

الأربعاء، 25 مارس 2015

(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة ال عمران(من اية 1 الى 104)

إمـرأة عـمـران :
عِمْـرانُ بنُ مَـاثَان ، مِنْ نَسْلِ النبي داوودَ عليه السلام ، وَهُوَ رَأْسُ أُسْرَةِ [ آلِ عِمْـرانَ ] ، وَ وَالِدُ السَيِّدَةِ مَرْيَمَ العَذْراءَ ، وَ قَدْ تُوفِّيَ وَ تَرَكَ زَوْجَتَهُ حَامِلاً بِمَرْيَمَ ، فَنَذَرَتْ مَا في بَطْنِهَا خالِصَاً للّـهِ : ( إذْ قَـالَـتِ امْـرَأةُ عِـمْـرانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَـكَ مَـا فِي بَطْـني مُـحَـرَّراً فَلَـمَّـا وَضَـعَـتْـهَـا قَالَـتْ رَبِّ إنَّي وَضَـعْـتُهـا أُنْثـى .... وَإنّي سَـمَّـيْتُهَـا مَـرْيَمَ )[ آل عمران 35 / 36 ] ، و مَـرْيَمَ : أيْ خَادِمَةُ اللّهِ ، وَ زَكَرِيّا هُوَ زَوْجُ أُخْتِها وَ تُدْعَى [ إليزابيت ] ، وَ قَدْ فَازَ بِرِعَايَتِهَا بَعْدَ أنْ رَبِحَ في سِبَاقِ الأَسْهُمِ التي ألْقُوهَا في المَاءِ : ( وَ مَـا كُنْتَ لَـدَيْهِـمْ إذْ يُلْـقُونَ أَقْلاَمَـهُـمْ أَيُّهُـمْ يَـكْـفُلُ مَـرْيَمَ وَ مَـا كُـنْتَ لَـدَيْهِمْ إذْ يَخْـتَصِـمُـونَ )[ آل عمران 44 ] ، وَ لَهُمْ سُوْرَةُ [ آلِ عِمران ] في القرآن الكريم : ( إنَّ اللّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ وَ نُوحَـاً وَ آلَ إبْراهـيمَ وَ آلَ عِـمْـرانَ عَـلَـى الـعَـالَـمـينَ )[ آل عمران 33 ] ، و لذلك كان عيسى و يحي عليهما السلام أولاد الخـالة .
و أولادُ عمـران ثـلاثةٌ و هُم : [ هارون + مـرْيَم + إليزابيت ] ، لذلك قال لهـا قومهـا : ( يَا أُخْــتَ هَـارونَ )[ مريم 28 ] ، و هارون أخو مريم يختلف عن هارون أخو موسى ، لأن بين موسى و عيسى آلاف السنين ، عليهم السلام جمـيعاً

( إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِـعَ للـنَاسِ لـَلـذي بِبَكَّـةَ )[ آل عمران 96 ] ، لَـلـذي : اللامُ الأولى هنا تسمّى [ اللام المزحلَقَـة ] وَ تأتي بخبر إنَّ لِتوكيدِهِ ، بَكَّـةَ : الموقع الذي يخص الحَـرَم فَقَطْ وَ ليسَ كل مكّـة ، لِذَلِكَ لا يَصْلُحُ غَيْر هَذا المَوْقِعِ [ مَكَّـةَ ] للحَـجِّ ، وَ كانَ ذَلِكَ حَسْبَ تَوْجِيـهٍ إلَهيِّ : ( وَ إذْ بَوَّأْنا لإبراهِـيمَ مَـكَـانَ الـبَيْتِ )[ الحج 26 ] .
لِذَلِكَ أهلَكَ اللهُ جيْشَ [ أبْرَهَةَ بن الصباح ] عِنْدَما حاوَلَ هَدْمَ الكعبَةِ لِتَغْييرِ مَكانِهـَا ، حَيْثُ بنى في اليَمَنِ [ في صَنْعاءَ ] بِناءً بَديلاً عَنْها سَمَّاهُ [ القُلّيِسْ أو القايِسْ ] : ( ألَـمْ تَـرَ كَــيْفَ فَعَـلَ رَبُّكَ بِأصْـحَـابِ الـفـيل ألَـمْ يَجْـعَـلْ كَــيْدَهُـمْ فـي تَضْـلـيلٍ فَجَـعَـلَـهُـمْ كَـعَـصْـفٍ مـَأْكُـولٍ )[ سورة الفيل ] ، فاللـهُ سبحانه لا يَسْـمَحُ بِتَغييرِ المَـوْقِعِ فقط ، و مَـا زالَتِ و ستبقى الكَـعْبَةُ الشريفة هيَ بيتُ اللهِ الحَرامِ : ( جَـعَـلَ اللـهُ الـكَـعْـبَـةَ الـبيْـتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] .


كل هـذا واللـه أعلـم .


(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)

سورة البقرة (من اية 253 الى آخر السورة)

آيـة الكـرسـيّ :
إذَا أَجْريْنَـا المُقَـارَنَةَ التَـالِـيَةَ :
بين : ( اللَّهُ نُورُ الـسَـمَـاواتِ وَالأرْضِ)[ النور 35 ] وَ : ( وَسِـعَ كُـرْسِيُّهُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ )[ البقرة 255 ] ، و بين : ( إنَّ اللّـهَ يُمْـسِـكُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ أنْ تَزولاَ ) [ فاطر 41 ] و : ( وَلا يَؤُودُهُ حِـفْظُـهُـمَـا )[ البقرة 255 ] .
يَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ : الكُرْسيّ هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ
إذَاً الكُرْسِـيّ : هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ التي يَحْفَظُ بِهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ السَماواتِ وَ الأَرْضِ مِنَ الزَوالِ عَنْ طَريقِ [ الأَمْـرِ ] : الذي يُمَثِّلُ الطَـاقَةَ الهَـائِلَةَ الكُلّيَةَ التي يُحَرِّكُ بِهَا الخَالِقُ كُلَّ مَـا خَلَقَ ، لِذَلِكَ : ( أَلاَ لَـهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الـعَـالَـمينَ )[ الأعراف 54 ] .
وَ عَنْ طَريقِ الأَمْـرِ [ القُدْرَةُ الكليّةُ ] يُديرُ اللّهُ أُمُورَ الكَوْنِ : ( وَ أَوْحَـى فـي كُـلِّ سَـمَـاءٍ أَمْـرَهَـا )[ فصلت 12 ] ، وَ عَنْ طَريقِ الأَمْرِ يَكُونُ [ كُنْ ] : ( إنَّمَـا أمْــرُهُ إذا أرَادَ شَـيْئـاً أَنْ يَقُولَ لَـهُ كُـنْ فـَيَكُـونُ )[ يس 82 ] ، ( وَ يَوْمَ يَقُـولُ كُـنْ فَيَـكُـونُ قَـوْلُــهُ الـحَـقُّ )[ الأنعام 72 ] ،لأنَّ : اللّهَ سُبحَانَهُ مُمْسِـكٌ بِكُلِّ خُـيُوطِ الطَـاقَةِ في الكَونِ ، لِذَلِكَ يَسْتَطيعُ اللّهُ وَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْ يُوجِدَ مَا يَشَاءُ بِأَجْزاءٍ مِنَ الثَانِيَةِ ، حَيْثُ الحَقيقَةُ العِلْمِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الإرادَةَ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ [ الكَافِ وَ النُونِ بِكَلِمَةِ كُنْ ] ، وَ لَيْسَ بَيْنَ [ الكَافِ وَ النُونِ ] ، لأَنَّ لَفْظَ حَرْفِ الكَافِ يَأْخُذُ ثانِيَةً ، وَ هَذَا زَمَنٌ طَويلٌ جِدَّاً بالنِسْبَةِ لِسُرْعَةِ الضَوْءِ .
.
مَدينَـةُ بـابِـلْ
مَدينَةٌ قديمةٌ تَقَعُ عَلى بُعْدِ 90 كيلو متْراً جنُوبَ غَرْبِ بَغْدادَ في العِراقِ ، وَ مَعْـنى اسْمها : [ بابُ الإلهِ _ بابُ إيلْ ] ، وَ قَدْ وَرَدَ اسْمها في القرْآنِ الكريمِ بَقَوْلِهِ تعالى : ( وَ مَا أُنْزِلَ عَـلى الـمَـلَـكَـيْنِ بِـبَابِـلَ )[ البقرة 102 ] ، وَ يُنْسَبُ لها أُسْـطورَةُ التَكْوين البابليّ .
مِنْ أشْـهَرِ مُلوكِهـَا نَمْـرود الذي كانَ صَيَّـاداً في بدايَـةِ حياتِـهِ ، ثُـمَّ عْطاهُ اللهُ المُلْكَ ، فأسَّـسَ الإمبراطوريّةَ البابليّةَ ، وَ هُوَ الذي حَاجَّ إبْراهيمَ علَيْهِ السلامُ في رَبِّهِ : ( أَ لَـمْ تـَرَ إلى الـذّي حَـاجَّ إبراهـيمَ في رَبِّـهِ أَنْ آتاهُ اللَّـهُ الـمُـلْـكَ ... قالَ أنَا أُحْـيـي وَ أُمِـيْـتُ )[ البقرة 258 ] ، فَقَدْ كانَ جَبّاراً و كافراً .
.
( فَـبُهِـتَ الـذي كَـفَرَ )[ البقرة 258 ]
مِنَ المُثِيرِ لِلدَهْشَةِ أَنَّ إبراهيمَ عليهِ السلام ، كَانَ أَوَّل مَنْ أَدْرَكَ الحَقيقَةَ العِلمِيَّةَ : [ مَـبْدَأَ العَطَالَةِ وَ القُصُورِ الذَاتيِّ ] ، وَ ذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ حَديثِهِ مَعَ الكَافِرِ الذي حَاجَّهُ في رَبِّهِ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ فَإنَّ اللّـهَ يَأْتي بِالـشَـمْـسِ مِـنَ الـمَـشْـرِقِ فَأْتِ بِهَـا مِـنَ الـمَـغْـرِبِ فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ )[ البقرة 258 ]
أيْ طَلَبَ مِنْهُ إبراهِيمُ أنْ يَعْكِسَ دَوران الأَرْضِ كَيْ تَأْتي الشَمْسُ مِنَ المَغْرِبِ ، فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ لأَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعَ الأَرْضِ جُمْلَةً فيزيائِيَّةً وَاحِـدَةً فَمْهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإنَّهَا قُوَّةٌ دَاخِلِيَّةٌ بالنِسْبَةِ للجُمْلَةِ الفيزيَائِيَّةِ ، وَ مُحَصِّلَتُهَا = 0 ،
نُلاَحِظُ أَنَّ الذي كَفَرَ ، بُهِتَ فَقَطْ عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ إبراهيمُ عَكْسَ اتِّجَاهِ دَورانِ الأَرْضِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُبْهَتْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إبْراهيمُ : ( إنَّ رَبِّي يُحْـيي وَ يُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، بَلْ قَالَ : ( أنَا أُحْـيي وَ أُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، فَأحْضَرَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِإعْدَامِ أَحَدِهِمَا وَ إبْقَاءِ الآخَرَ حَيَّاً ، وَ قَالَ لإبْراهِيم : هَكَذَا أَنـا أُحْيي وَ أُمِيْتُ ، لِذَلِكَ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ رَبِّ أَرِني كَــيْفَ تُحْـيي الـمَـوتـى )[ البقرة 260 ] ، كَيْ يَرى هَذا الكَافِرُ كَيْفَ يَكُونُ إحْيَاءُ الموتى ، فكان الردّ الإلهيّ : ( قال فَخُـذْ أَرْبَعَـةً مِـنَ الـطَـيْرِ فَصُـرْهُـنَّ إلَـيْكَ ثُمَّ اجْـعَـلْ عَـلـى كُـلِّ جَـبَلٍ مِـنْهُـنَّ جُـزْءاً ثُمَّ ادْعُـهُـنَّ يَأْتِيْنَكَ سَـعْـيَاً )[ البقرة 260 ] .
.
الـقُـدْسُ وَ الـمُـقَـدّسُ :
تَعْـني مَنْ يَمْنَحُ الحَيَاةَ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ عَجَبَ أنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْضَرَ مُوسى إلى الوادِي المُقَدَّسِ : ( إنَّكَ بالـوادِ الـمُـقَدَّسِ طُـوى )[ طه 12 ] ، حَيْثُ تَحَوَّلتِ العَصَـا إلى حَيَّةٍ تَسْعَى ، وَ حِيْنَ هَدَّمَ القُدْسَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ [ نَبُو خَذِّ نَصَّرْ ] عَام 585 قبل الميلادِ ، مَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ فاسْتَغْرَبَ عَوْدَتَها للحَيَاةِ : ( أوْ كَـالـذي مَـرَّ عَـلـى قَـرْيَةٍ وَ هِـيَ خَـاوِيَةٌ عَـلى عُـروشِهَـا فَقَالَ أنَّى يُحْي هَذِهِ اللّـهُ بَعْـدَ مَـوْتِهَـا فَأمَـاتَهُ اللّـهُ مِـئَةَ عَـامٍ ثُمَّ بَعَـثَهُ ) [ البقرة 259 ] ، لِيَرى أنَّ القُدْسَ قَدْ عَادَتْ للحَياةِ ، كَمَا أنَّ القُدْسَ وَالمُقَدَّسَ يَمْنَحُ البَرَكَةَ حَوْله : ( الـمَـسْـجِـدِ الأقْصَـا الـذي بَارَكْـنَا حَـوْلَـهُ )[ الإسراء 1 ] .
.
( الـشَـيْطَـانُ يَعِـدُكُـمُ الـفَقْـرَ )[ البقرة 268 ]
وَ الفَقْـرُ لَـهُ أَشْكَالٌ عَديدَةٌ : المَاليّ وَ العِلْميَّ وَ الصِحيّ وَ الإجتماعيّ 000 ، وَ كُلُّ أنْواعِ الفَقْر ِهَذه مَوْجُودَةٌ مَعَ الأَسَفِ في المُجْتَمَعِ العربيّ و الإسْلاميِّ .
وَ الـذي لاَ يَعِيشُ عَصْـرَهُ وَ يَتَفاعَـلُ مَعَـهُ ، هُوَ في خُـسْرٍ : ( وَ الـعَـصْـرِ إنَّ الإنْسَـانَ لَـفـي خُـسْـرٍ )[ العصر 1 ] ، و العصـرُ هو : العصر الذي يَعيشُ بِـهِ الإنْسَانُ .
وَ نِسْـبَةُ الأُمِيَّـةِ في المُجْتَمَعِ العَربيِّ مُخِيفَـةٌ ، وَ نظـافةُ النَصّ المحفوظِ [ القُرآنُ الكريمُ ] ، لـمْ تنتقلُ إلى [ نظـافَةِ الفهْـم ] ، وَ نظـافَةِ الأخلاقِ و البيْئةِ و السلوكِ ، فبقيَتْ هذه الأمّة في [ فقْـرهـا ] العلميّ و الحضاريّ ... ، و هـذا مَا يُريْدُه الشـيْطانُ .
.
فَـنَـظِـرةٌ إلى [ مَـيْسَـرة ] :
( وَ إنْ كَـانَ ذُو عُـسْـرَةٍ فَنَظِـرَةٌ إلـى مَـيْسَـرَةٍ )[ البقرة 280 ] ، وَ [ مَيْسَرَة ] مُنْتَهى اليُسْـرِ وَ لَيْسَ اليُسْرُ العَاديُّ ، فعلى الدائن انتظار المدين حتى يُصبح في ميسَرة و يحلّ جميع مشاكله المالية ، ثُمّ يُطالبه بالدين .
يُصَاغُ الاسْمُ في اللُّغَةِ عَلى وَزْنِ [ مَفْعَلَة ] لِلدَلاَلَةِ عَلى الكَثْرَةِ ، فَحَيْثُ تَكْثُرُ الدِراسَةُ
[ مَدْرَسَة ] ، وَ حَيْثُ يَكْثُرُ العِراكُ [ مَعْرَكَة ] وَ حَيْثُ تَكْثُرُ القُبُورُ [ مقْبَرَة ] وَ حَيْثُ يَكْثُرُ الطَحْنُ [ مَطْحَنَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الكُتُبُ [ مَكْتَبَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الطِباعَةُ [ مَطْبَعَة ] ، وَ هَكَذَا نَجِدُ في القُرْآنِ الكَريمِ ، الكَثيرَ مِنَ الأَمْثِلَةِ :
( أَوْ إطْـعَـامٌ في يَوْمٍ ذِي مَـسْـغَـبَةٍ )[ البلد 14 ] وَ المَسْغَبَةُ : الجُوعُ الشَديدُ ، وَ المَخْمَصَةُ : المَجَاعَةُ ( فَمَـنِ اضْـطُـرَّ في مَـخْـمَـصَـةٍ )[ المائدة 3 ] ، وَ كَثْرَةُ الرَحْمَةِ [ مَرْحَمَة ] : ( الـذينَ آمَـنُوا وَ تَواصَـوْا بِالـصَـبْرِ وَ تَواصَـوْا بِالـمَـرْحَـمَـةِ )[ البلد 17 ] ، كَمَا أنَّ كَثْرَةَ الشُؤْمِ [ مَشْأَمَة ] : ( وَ الذينَ كَفَروا بِآيَاتِنَا هُـمْ أصْـحَـابُ الـمـَشْأَمَةِ )[ البلد 19 ] .
.
المُحكـمـات و الـمـتشـابهات :
( هُـوَ الـذي أنْزَلَ عَـلَـيْـكَ الـكِـتَابَ مِـنْهُ آيَاتٌ مُـحْـكَـمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الـكِـتَابِ وَ أُخَـرُ مُـتَشَـابِهَـاتٌ فَأمَّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُـونَ مَـا تَشَـابَهَ مِـنْهُ )[ آل عمران 7 ]
نُلاَحِظُ أنَّ بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، قَدْ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأُولى أنَّهَا تُعَارِضُ بَعْضَهَا بَعْضَاً مِثْل : ( فَيَوْمَـئِـذٍ لاَ يُسْـأَلُ عَـنْ ذَنْبِهِ إنْـسٌ وَ لاَ جَـانٌ )[ الرحمن 39 ] ، وَ بَيْنَ : ( فَوَ رَبِّكَ لَـنَسْـأَلَـنَّهُـمْ أَجْـمَـعِـينَ )[ الحجر 92 ] ، وَ لَكِنْ : الآية الثانية هي [ مُحْكمة ] و الأولى [ مُتشابهة ] ، أيْ لا بُدّ من سؤال جميع الناس عن أعمالهم ، و الآية الأولى تتحدّث عن [ بداية ] يوم الحساب ، و لكن بعد ذلك سيتمّ سؤال الجميع ، فلا تعارض بين الآيتين الكريمتين ، لذلك يجب ردّ الآيات [ المُتشابهات ] إلى الآيات [ المُحكمات ] ، فالذينَ في عقولهم [ زيْغٌ = نقص ] هُم وحدهُم الذين يتّبعون فقط الآيات [ المُتشابهات ] من أجْل إثارة الفتنة .
.
شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ :
إنَّ شَهَادَةَ : [ لا إلـهَ إلاَّ اللّـهُ ] هيَ أسَاسُ إسْلاَمِ الإنْسَانِ ، وَ بِدُونِهَا يَكُونُ الإنْسَانُ مُشْرِكَاً ، وَهِيَ شَـهَادَةٌ يَشْهَدُهَا المُسْـلِمُ عَلى أَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ كُلِّهِ إلاَهَـاً آخَـرَ ، و بمـا أنّ : [ اللّـهُ أَكْـبَرُ ، اللّـهُ أَكْـبَرُ ] ، لِذَلِكَ فَإنَّ اللّهَ وَحْدَهُ قد أعطانا هَذِهِ الحَقيقَةَ بِأَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ إلَهٌ سِواهُ ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ شَـهِدَ بِذَلِكَ : ( شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ وَ الـمَـلائِـكَـةُ وَ أُولـُوا الـعِـلْـمِ قَائِـمَـاً بالـقِسْـطِ )[ آل عمران 18 ] ، إذَاً نَحْنُ نَشـهَدُ على شَـهَادَةِ اللّه بِأنَّـهُ : [ لا إلـهَ في الوجودِ كلِّـهِ إلاَّ اللّـهُ ] ، وَ لَمَّـا وَصَلَتْنَـا هَذِهِ الحَقيقَةُ عَنْ طَريقِ الرَسُولِ صلى الله عليه و سلم ، فَلاَ بُـدَّ مِنْ إتْمَـامِ الشَـهَادَةِ بالاعْتِرافِ بِـهِ رَسُـولاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ، فَكَانَتِ الشَهَادَّةُ التَـامَّةُ : [ أَشـهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ وَ أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللّهِ ] .

كل هذا والله اعلم .




الاثنين، 23 مارس 2015

الحديث السادس

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وأن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم


الشرح 
جاء الكلام في هذا الحديث العظيم عن قضيّتين أساسيّتين ، هما : " تصحيح العمل ، وسلامة القلب " ، وهاتان القضيّتان من الأهمية بمكان ؛ فإصلاح الظاهر والباطن يكون له أكبر الأثر في استقامة حياة الناس وفق منهج الله القويم .

وهنا قسّم النبي صلى الله عليه وسلم الأمور إلى ثلاثة أقسام ، فقال : ( إن الحلال بيّن ، والحـرام بيّن ) فالحلال الخالص ظاهر لا اشتباه فيه ، مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وغير ذلك ، وكذلك فالحرام المحض واضحةٌ معالمه ، لا التباس فيه ، كتحريم الزنا والخمر والسرقة إلى غير ذلك من الأمثلة .

أما القسم الثالث ، فهو الأمور المشتبهة ، وهذا القسم قد اكتسب الشبه من الحلال والحرام ، فتنازعه الطرفان ، ولذلك خفي أمره على كثير من الناس ، والتبس عليهم حكمه.

على أن وجود هذه المشتبـهات لا ينـافي ما تقرر في النصوص من وضوح الدين ، كقول الله عزوجل : { ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } ( النحل : 69 ) ، وقوله : { يبيّن الله لكم أن تضلّوا والله بكل شيء عليم } ( النساء : 176 ) ، وكذلك ما ورد في السنّة النبويّة نحو قوله صلى الله عليه وسلم : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) رواه أحمد و ابن ماجة ، فهذه النصوص وغيرها لا تنافي ما جاء في الحديث الذي بين أيدينا ، وبيان ذلك : أن أحكام الشريعة واضحة بينة ، وبعض الأحكام يكون وضوحها وظهورها أكثر من غيرها ، أما المشتبهات فتكون واضحة عند حملة الشريعة خاصة ، وخافية على غيرهم ، ومن خلال ذلك يتبيّن لك سر التوجيه الإلهي لعباده في قوله : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( الأنبياء : 7 ) ؛ لأن خفاء الحكم لا يمكن أن يعم جميع الناس ، فالأمة لا تجتمع على ضلالة .

وفي مثل هذه المشتبهات وجّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى سلوك مسلك الورع ، وتجنب الشبهات ؛ فقال : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ، فبيّن أن متقي الشبهات قد برأ دينه من النقـص ؛ لأن من اجتنب الأمور المشتبهات سيجتنب الحرام من باب أولى ، كما في رواية أخرى للبخاري وفيها : ( فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم ، كان لما استبان أترك ) ، وإضافةً إلى ذلك فإن متقي الشبهات يسلم من الطعن في عرضه ، بحيث لا يتهم بالوقوع في الحرام عند من اتضح لهم الحق في تلك المسألة ، أما من لم يفعل ذلك ، فإن نفسه تعتاد الوقوع فيها ، ولا يلبث الشيطان أن يستدرجه حتى يسهّل له الوقوع في الحرام .
وبهذا المعنى جاءت الرواية الأخرى لهذا الحديث : ( ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان ) ، وهكذا فإن الشيطان يتدرّج مع بني آدم ، وينقلهم من رتبة إلى أخرى ، فيزخرف لهم الانغماس في المباح ، ولا يزال بهم حتى يقعوا في المكروه ، ومنه إلى الصغائر فالكبائر ، ولا يرضى بذلك فحسب ، بل يحاول معهم أن يتركوا دين الله ، ويخرجوا من ملة الإسلام والعياذ بالله ، وقد نبّه الله عباده وحذّرهم من اتباع خطواته في الإغواء فقال عزوجل في محكم كتابه : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } ( النور : 21 ) ، فعلى المؤمن أن يكون يقظا من انزلاق قدمه في سبل الغواية ، متنبها إلى كيد الشيطان ومكره .

وفيما سبق ذكره من الحديث تأصيل لقاعدة شرعية مهمة ، وهي : وجوب سد الذرائع إلى المحرمات ، وإغلاق كل باب يوصل إليها ، فيحرم الاختلاط ومصافحة النساء والخلوة بالأجنبية ؛ لأنه طريق موصل إلى الزنا ، ومثل ذلك أيضاً : حرمة قبول الموظف لهدايا العملاء سدا لذريعة الرشوة .

ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لإيضاح ما سبق ذكره ، وتقريباً لصورته في الأذهان، فقال : ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) ، أي : كالراعي الذي يرعى دوابّه حول الأرض المحمية التي هي خضراء كثيرة العشب ، فإذا رأت البهائم الخضرة في هذا المكان المحمي انطلقت إليها ، فيتعب الراعي نفسه بمراقبة قطعانه بدلاً من أن يذهب إلى مكان آخر ، وقد يغفل عن بهائمه فترتع هناك ، بينما الإنسان العاقل الذي يبحث عن السلامة يبتعد عن ذلك الحمى ، كذلك المؤمن يبتعد عن ( حمى ) الشبهات التي أُمرنا باجتنابها ، ولذلك قال : ( ألا وأن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ) ، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقاً ، وقد حمى الشريعة بسياج محكم متين ، فحرّم على الناس كل ما يضرّهم في دينهم ودنياهم .

ولما كان القلب أمير البدن ، وبصلاحه تصلح بقية الجوارح ؛ أتبع النبي صلى الله عليه وسلم مثله بذكر القلب فقال : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) .
وسمّي القلب بهذا الاسم لسرعة تقلبه ، كما جاء في الحديث : ( لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا ) رواه أحمد و الحاكم ؛ لذلك كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي : ( يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك ) ، وعلاوة على ما تقدّم : فإن مدار صلاح الإنسان وفساده على قلبه ، ولا سبيل للفوز بالجنة ، ونعيم الدنيا والآخرة ، إلا بتعهّد القلب والاعتناء بصلاحه :{ يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم }( الشعراء : 88-89 ) ، ومن أعجب العجاب أن الناس لا يهتمون بقلوبهم اهتمامهم بجوارحهم ، فتراهم يهرعون إلى الأطباء كلما شعروا ببوادر المرض ، ولكنهم لايبالون بتزكية قلوبهم حتى تصاب بالران ، ويطبع الله عليها ، فتغدو أشد قسوة من الحجارة والعياذ بالله .

والمؤمن التقي يتعهد قلبه ، ويسد جميع أبواب المعاصي عنه ، ويكثر من المراقبة ؛ لأنه يعلم أن مفسدات القلب كثيرة ، وكلما شعر بقسوة في قلبه سارع إلى علاجه بذكر الله تعالى ؛ حتى يستقيم على ما ينبغي أن يكون عليه من الهدى والخير ، نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا ، ويصرّفها على طاعته ، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، والحمد لله رب العالمين .

السبت، 21 مارس 2015

الحديث الخامس

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .

الشرح
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدين خاتم الأديان ، وآخر الشرائع ، ليتخذه الناس منهاجا لهم ، وسبيلا إلى ربهم ، ومن هنا جاءت تعاليمه شاملة لجوانب الحياة المختلفة، فلم تترك خيرا إلا دلت البشريّة عليه ، ولا شرا إلا حذّرت منه ، حتى كملت الرسالة بموت نبينا صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ( المائدة : 3 ) .
وبتمام هذا الدين ، لم يعد هناك مجال للزيادة فيه ، أو إحداث شيء في أحكامه ؛ لأن الشارع قد وضّح معالم الدين ، وجعل لأداء العبادات طرقا خاصة في هيئتها وعددها ، وفي زمانها ومكانها ، ثم أمر المكلّف بالتزام هذه الكيفيات وعدم تعدّيها ، وجعل الخير كل الخير في لزوم تلك الحدود والتقيد بتلك الأوامر ، حتى تكون العبادة على الوجه الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى .
إن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لم يتركا سبيلا لقول قائل أو تشريع مشرّع، ومن رام غير ذلك ، وزعم قدرته على الإتيان بما هو خير من هدى الوحيين مما استحسنه عقله ، وأُعجب له فكره ، فهو مردود عليه .
هذه هي القضية التي تناولها الحديث ، وأراد أن يسلط الضوء عليها ، فكان بمثابة المقياس الذي يُعرف به المقبول من الأعمال والمردود منها ، مما جعل كثيرا من العلماء يولون هذا الحديث اهتماماً ودراسةً ، ويعدّونه أصلا من أصول الإسلام .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ) ، إنه النهي عن كل طريقة مخترعة في الدين ، والتحذير من إدخال شيء ليس فيه من الأمور العباديّة ؛ ولذلك قال هنا : ( في أمرنا ) ، فأمر الله : هو وحيه وشرعه ، كما قال الله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } ( الشورى : 52 ) .
وعليه : فإن كل عبادة لا بد أن تكون محكومة بالشرع ، منقادة لأمره ، وما سوى ذلك فإنه مردود على صاحبه ، ولو كان في نظره حسنا ، إذ العبرة في قبول العمل عند الله أن يكون صواباً موافقاً لأمره ، وهذا الاعتبار يدلّ عليه قول الله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) ، يقول الفضيل بن عياض : " إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا ، ولا يقبله إذا كان خالصا له إلا على السنة " .
وفي ضوء ذلك ، فليس أمام المكلّف سوى أحد طريقين لا ثالث لهما : طريق الوحي والشرع ، وطريق الضلال والهوى .
إن من ضلّ وابتدع ، وأدخل في دين الله ما ليس منه ، هو في حقيقته قادح في كمال هذا الدين وتمامه ، لأن مقتضى الزيادة في الدين الاستدراك على ما حوته الشريعة ، فكأنه جاء بفعله هذا ليكمل الدين .
ومن ناحية أخرى فإن من أتى ببدعة محدثة لم يحقّق شهادة أن محمدا رسول الله - والتي تقتضي اتباع سنته وعدم الحيدة عنها -، كما قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } ( الأنعام : 153 ) .
وثمّة ملمح مهم في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ) ، وهو أن البدعة هي ما كانت في العبادات ، بخلاف ما أُحدث في حياة الناس من أمور الدنيا كالصناعات والمخترعات ، وتدوين الكتب وإصلاح الطرق ، وما أشبه ذلك من أمور الدنيا ، فهي وإن كانت " محدثة " من ناحية اللغة ، ولكنها لا تدخل في الإحداث المذموم ، بدلالة القيد المذكور في نص الحديث : ( أمرنا ) .
كذلك في قوله : ( ما ليس منه ) إيماء إلى أن الإحداث المنهيّ عنه هو ما كان خارجا عن الهدي والسنة ، بخلاف ما ظنّه الناس بدعة مذمومة بينما هو سنّة مهجورة ، وهذا يحدث كثيرا لاسيما مع وجود الجهل بين الناس وغربة الدين ، وهذا يدعونا إلى عدم التسرّع في إطلاق الحكم على العبادات حتى نتأكّد من عدم ورود الدليل المعتبر على فعلها .
وختاما : فسبيل الله واحد ، واضح المعالم ، كالمشكاة المنيرة ، إذا اقتربت منها أحدٌ أنارت له السبيل ، وتبيّنت له معالم الطريق ، وإن ابتعد عنها تخبّط في ظلمات الجهل ، وتردّى في دركات الهوى ، فما على المسلم إلا أن يتعلّم الدين ويتقيّد بتعاليمه إن أراد النجاح والفلاح .

الحديث الرابع

عن أبي عبد الرحمـن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً ، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد . فوالله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ) رواه البخاري ومسلم .


الشرح
أورد الإمام النووي - رحمه الله - هذا الحديث لتعريف المسلم بحقيقة الإيمان بالقضاء والقدر ، فقد دار الحديث حول التقدير العمري للإنسان ، وما يشمله ذلك من ذكر مراحل خلقه وتصويره، ليعمّق بذلك إدراكه وتصوّره لحقائق الموت والحياة ، والهداية والغواية ، وغيرها من الأمور الغيبية ، فيتولّد في قلبه الشعور بالخوف من سوء العاقبة ، والحذر من الاستهانة بالذنوب والمعاصي ، ومن الاغترار بصلاح العمل والاتكال عليها . 

ولما كان سياق الحديث يذكر شيئا مما لا تُدركه حواس البشر ولا إمكاناتهم في ذلك الزمان - مما يتعلق بعلم الأجنة وأطوارها -، اعتبر العلماء هذا الحديث عَلَما من أعلام نبوته ، ودليلاً على صدق رسالته ؛ لأن هذا الوصف التفصيلي المذكور هنا ما كان ليُعرف في ذلك الوقت ، وإنما عٌرف في الأزمنة المتأخرة بعد تطور العلوم وآلاتها ، وهذا الذي جعل ابن مسعود رضي الله عنه يصدّر حديثه بقوله : " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " فهو الذي ما أخبر بشيء على خلاف الواقع ، وما جُرّب عليه كذب قط ، ولا يُوحى إليه من ربّه إلا الحق .
وقد جاء ذكر مراحل تطوّر خلق الإنسان في بطن أمه على مراحل أربعة ، أولها : ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً ) ، إنها مرحلة التقاء ماء الرجل بماء المرأة ، ويظل هذا الماء المهين على حاله ، قبل أن يتحوّل إلى طور آخر ، وهو طور العلقة ، ويٌقصد بها قطعة الدم الجامدة ، وسُمّيت بذلك لأنها تعلق في جدار الرحم .
ومع مرور الأيام تزداد تلك العلقة ثخونة وغلظة حتى تتم أربعيناً أخرى ، لتتحوّل إلى قطعة لحم صغيرة بقدر ما يُمضغ – ومن هنا جاء اسمها - ، وقد ذكر الله تعالى وصفها في قوله :{ مضغة مخلقة وغير مخلقة } ( الحج : 5 ) ، وتظلّ تلك المضغة تتشكل تدريجياً ، حتى إذا أتمت مائة وعشرين يوما ، عندها تأتي المرحلة الرابعة : فيرسل الله سبحانه وتعالى الملك الموكّل بالأرحام ، فينفخ فيها الروح ، فعندها تدب فيها الحركة ، وتصبح كائناً حياً تحس به الأم .
ونجد هذه الصورة التفصيلية المذكورة في الحديث مواقفة لكتاب الله ، في مثل قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } ( المؤمنون : 12-14 ) ، وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا } ( الحج : 5 ) .
ولك أيها القاريء الكريم أن تلتمس الحكمة من خلق الإنسان طورا بعد طور - وهو القادر سبحانه على أن يقول للشيء كن فيكون -، إنها تربية إيمانية على التأني في الأمور ، وعدم استعجال النتائج ، كما أنها توضيح للارتباط الوثيق الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين الأسباب والمسبّبات ، والمقدمات والنتائج ، ومراعاة نواميس الكون في ذلك .
وبعد هذا الوصف العام لتلك الأطوار ، يحسن بنا أن نسلط الضوء على بعض القضايا المتعلقة بهذه المراحل ، فنقول وبالله التوفيق : لم يختلف العلماء على أن نفخ الروح في الجنين إنما يكون بعد مائة وعشرين يوماً ، وهو ما دلت عليه الأدلة ، وحينئذ فقط تتعلق به الأحكام الفقهية ، فإذا سقط الجنين في ذلك الوقت صُلّي عليه - كما هو في مذهب الإمام أحمد -، وكذلك تجري عليه أحكام الإرث ووجوب النفقة وغيرهما ، لحصول الثقة بحركة الجنين في الرحم ، ولعل هذا يفسّر لنا تحديد عدة المرأة المتوفّى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرة أيام - حيث تتحقق براءة الرحم من الحمل بتمام هذه المدة - .
إلا أنه حصل الخلاف في تحديد المرحلة التي يحصل فيها تقدير أمور الرزق والأجل والشقاء والسعادة ، فظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن ذلك يكون بعد الأربعين الثالثة ، ويخالفه حديث حذيفة بن سعيد الغفاري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة ، بعث الله إليها ملكا ، فصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ ، فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب ، أجله ؟ ، فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب، رزقه ؟ فيقضى ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ) رواه مسلم ، فظاهر الحديث أن تقدير الرزق والأجل يكون في الأربعين الثانية .
وقد سلك العلماء عدة مسالك للجمع بين الحديثين ، وبالنظر إلى ألفاظ حديث حذيفة رضي الله عنه ، نجد أن الجمع بين الحديثين ممكن ، وذلك بأن نجعل المراد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مرّ بالنطفة ) هو مرور زمن يصدق عليه الأربعون - وهو الزمن المذكور في حديث ابن مسعود - ، فهذه الفترة وإن كانت غير محددّة في حديث حذيفة إلا أنها حُددت في حديث ابن مسعود بمائة وعشرين يوماً .
وهناك جمع آخر ، وهو أن نقول : إن قوله صلى الله عليه وسلم : ( فصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجلدها ولحمها وعظامها ) المقصود به تقدير خلق هذه الأعضاء ، وعليه : فالكتابة حاصلة مرتين ، أو أن نقول أن الحديث قد عبّر عن كتابة التصوير والتقدير بالتخليق اعتبارا بما سيؤول إليه الأمر ، والله أعلم .
والذي دعا إلى تأويل حديث حذيفة رضي الله عنه ، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من احتمال اضطراب في ألفاظه ، ومخالفته لظاهر القرآن ، فلا يصلح أن يُعارض به ما ثبت في الصحيحين ، يقول ابن تيمية : " ..ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه ، ولهذا أعرض البخارى عن روايته ، وقد يكون أصل الحديث صحيحا ، ويقع في بعض ألفاظه اضطراب ، فلا يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه الذى لم تختلف ألفاظه ، بل قد صدّقه غيره من الحديث الصحيح " ( مجموع الفتاوى : 4-240 ) .
كما يجدر بنا أن نشير إلى ما يتوهّمه البعض من مخالفة هذا الحديث لظواهر القرآن الكريم ، ويظنون معارضة الحديث لقوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } ( لقمان : 34 ) ، والحق أنه لا تعارض بينها ، فمن المقرّر عند كل مسلم أن الله يعلم الغيب ، ومن هذا الغيب : علم سعادة الإنسان وشقاوته ، وعمره وأجله ، وعمله وسعيه، ومن ذلك أيضا : معرفة جنس المولود قبل الأربعين الثالثة .
أما بعد ذلك فإنه يصبح من علم الشهادة ، أو ما يُطلق عليه الغيب النسبي ، إذ بعد الأربعين الثالثة يُطلع الله الملك على جنس المولود ، بل يُطلعه على شقاوته وسعادته ، فمعرفة الإنسان لجنس المولود في تلك الفترة ما هو إلا انكشاف لغيب نسبي قد عرفه من قبله الملك ، وليس علما بالغيب الحقيقي الذي يكون قبل الأربعين الثالثة ، بل قبل كون الإنسان نطفة .
وإذا عدنا إلى سياق الحديث ، نجد أنه ذكر مراحل الخلق كان تمهيدا لبيان أهمية الثبات على الدين ، وتوضيحاً لحقيقة أن العبرة بالخواتيم ، فربما يسلك الإنسان أول أمره طريق الجادة ، ويسير حثيثا نحو الله ، ثم يسبق عليه الكتاب فيزيغ عن سواء الصراط فيهلك .
بيد أن ضلاله ذلك لم يكن أمرا طارئا ، بل هو حصيلة ذنوب خفيّة ، تراكمت على القلب ، حتى ظهر أثرها في آخر حياته ، فانصرف القلب عن الله تبارك وتعالى ، وخُتم له بتلك الخاتمة السيئة، ويؤكد ما سبق ، ما جاء في الرواية الأخرى لهذا الحديث ( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ) ، وقديما قالوا : الخواتيم ميراث السوابق .
وفي المقابل قد يكون المرء بعيدا عن الله ، متبعا لخطوات الشيطان ، ثم تدركه عناية الله له في آخر حياته ، فيحيي الله قلبه ، وينشرح بالإيمان صدره ، ثم يُختم له بخاتمة السعادة .
وبالجملة فإن السائر إلى الله ينبغي أن يستصحب معه إيمانه بالقضاء والقدر ، ويكون وسطا بين الخوف والرجاء ، حتى يوافيه الأجل.