‏إظهار الرسائل ذات التسميات القران. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القران. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 26 مارس 2015

كيف نصل الى علاقة سليمة بين القرآن وأمة القرآن

الواقع والطموح:ـ

الواقع المشاهد في علاقة الأمَّة بالقرآن المجيد أنَّها علاقة وصل شكليٍّ، وهجر حقيقيٍّ وفعليٍّ. أمَّا الوصل الشكليُّ فتؤكد وجوده إذاعات القرآن الكريم، وطباعة القرآن، وتزيينه، والأحاديث التي تدور حوله، ومعاهد تحفيظه، والمسابقات والجوائز وما إلى ذلك، فهذا واقع يشي بوجود حالة وصل قد تُقْنِع العامَّة والبسطاء، ومن لا يعرفون من القرآن وعنه إلا تلك الأشكال.ـ

أمَّا الذين يعرفون أنَّ القرآن كتاب حياة واستخلاف وتوحيد وتزكية وعمران، فإنَّ لهم موقفًا آخر. لقد حمل القرآن الوحي الإلهيَّ الذي جاء به الأنبياء كافَّة، وجعل من الأنبياء «أمَّة واحدة»، ومن أتباعهم«أمَّة مسلمة» لله -تبارك وتعالى- يوحِّدها الإيمان ويجمع بينها الإسلام؛ ولذلك فإنَّ القرآن المجيد قد ضمَّ بين دفَّتيه عقيدة الأنبياء كافَّة وأصول وقواعد شرائعهم، وأهم تجاربهم مع البشريَّة عبر تاريخها الممتد، والدروس والعبر التي يمكن أن تُستقى منها، كما قدَّم دليلاً واضحًا لمجموعة السنن والقوانين الكونيَّة والاجتماعيَّة التي تحكم مسارات الحضارات الإنسانيَّة نشوءًا وارتقاءً، صعودًا وهبوطًا؛ وذلك لتمكين الإنسان من بناء عمران راسخ البنيان، متين الدعائم، معنويًّا وماديًّا، تُعَزِّز دعائمه وتشدَّ بنيانه وتُقَوِّيه قيم ثابتة، وغائيَّة صالحة، ومقاصد رائدة، تقود خطى الإنسان نحو «تحقيق غاية الحق من الخلق» بأهدى السبل، وأقوم الوسائل، وأثبت الطرق.

ولذلك كان القرآن المجيد في «جيل التلقي» مركز الدائرة في قلب وعقل ووجدان كل منهم، يستحيل أن يتجاوزوه إلى ما سواه، أو يقدِّموا عليه ما عداه، فضلاً عن أن يستغنوا عنه بما سواه، فكانوا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وبنهيه ينتهون، وبوصاياه وموعظته يتعظون.

ثم تعرَّضت الأمَّة -بعد رسولها الشاهد الأمين صلى الله عليه وآله وسلَّم- إلى تأثيرات سُنَّةِ طول الأمد وقسوة القلوب، فبدأت قبضتها تلين شيئًا فشيئًا عن التمسُّك بالقرآن والاعتصام به، وبذلك بدأت عرى ارتباطها بالقرآن المجيد تنتقض عروة عروة، فنقضت أول ما نقضت «عروة الحكم» فانفرط عقد«أولى الأمر منكم»، واختلفت القلوب، واقتتلت الأمَّة وسفكت الدم الحرام. وكان في كتاب الله -لو أحسنت الأطراف كلّها الرجوع إليه- مخرجًا من تلك الفتن.ـ

فالقرآن قد بيَّن بيانًا شافيًا أنَّ الأمم التي بنيت «بالوحي الإلهيِّ» إذا طال عليها الأمد قست منها القلوب؛ أولا: تغري بينها العداوة والبغضاء، ثانيًا: ثم تحكِّم السيف في رقاب بعضها بعضًا، ثالثًا: ولن ترفع أسيافها عن رقاب بنيها حتى تعود -وهي صادقة خالصة- إلى كتاب ربها، فتطَّرح بين يديه، وتحكِّمه تحكيمًا شاملا في شؤونها وشجونها، وتُعيد بناء علاقاتها به ومعه، وترى فيه -إضافة إلى رؤيتها له في عهد نبيِّها صلى الله عليه وآله وسلَّم- نبيًّا مقيمًا حيًّا دائمًا خالدًا بينها، ترجع إليه فيما جلَّ ودقَّ من شؤونها وشجونها، وتثوِّره لينطق بالحق في كل ما يعتمل في ساحاتها، فتُحِلُّ حلاله، وتُحَرِّم حرامه، وتعمل به، ولا تقطع أمرًا دونه، ولا تسبقه بالقول في أيِّ شيء من الأشياء، فله الاحتكام وبه الالتزام، وعلى هديه المعوَّل، توالي مَنْ يواليه، وتُعادي من يُعاديه، وتُجافي مَنْ يتنكَّب سبيله، تعمل بكل أحكامه، وتتعظ بكل قصصه وأمثاله، وتعتبر بها، وتهتدي بكل آياته، وتستشفي به من سائر انحرافاتها، حتى يكون نظام حياتها، ومنهاج حركتها، ونبراس وجودها. فلا تعشو عنه لحظة، ولا يغيب عنها ثانية، وإلا فإنَّ الله -تعالى- غنيٌّ عن الشركاء وغنيٌّ عن سائر أولئك الذين يجعلون القرآن عضين، أو يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أو يكونون من أولئك الذين قال -سبحانه- فيهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106).ـ

فكيف يمكن أن يتحقق هذا الهدف الذي نتمنَّاه؟ وما سبيل الوصول إليه بحيث يكون القرآن المجيد -من جديد- في مركز الدائرة من قلوبنا وعقولنا ووجداننا، ليأخذ بأيدينا إلى التي هي أقوم؟!

* * *

أ- الهدف الأساسي -إذن- هو إعادة القرآن المجيد إلى مركز الدائرة في عقول أبناء الأمَّة وقلوبهم ووجدانهم وحياتهم كلّها بكل جوانبها.

الوسائل المقترحة:

1- تخلية العقل المسلم من سائر الأفكار التي صرفته عن القرآن المجيد قديمها وحديثها، وباعدت بينه وبين الأمَّة، وجعلته في سلوكها كتابًا خاصًّا بالدار الآخرة بعيدًا عن الحياة الدنيا وشؤونها وشجونها.

2- وذلك يقتضي ما يلي:

أ‌- فحص ورصد مسيرة أمَّتنا مع القرآن الكريم وبه؛ لنتبيَّن سائر العوامل والمتغيِّرات التي حدثت حتى أوصلت علاقة أمتنا بالقرآن إلى حالة الهجر والفصام التي نبَّهنا إليها.ـ

ب‌- مراجعة تراثنا الإسلاميِّ -في معارفه المختلفة- مراجعة شاملة لمعرفة مدى اتصاله بالقرآن، ومدى انفراج الزاوية معه، والانفصال عنه؟ وما الذي يمكن رصده في التراث من مؤثِّرات في تلك العلاقة في الجانبين: الإيجابيِّ والسلبيِّ، مع عناية خاصَّة برصد ما اشتملت عليه «علوم القرآن» من تفسير وأسباب نزول وما إليها. وكذلك الحال بالنسبة لعلم «أصول الفقه» وأدلَّته وثماره.ـ

جـ- مراجعة المؤثِّرات من التراث المعاصر -الغربيِّ منه وسواه- وبخاصَّة تلك التي نزعت عن الوحي الصفة العلميَّة والمعرفيَّة فهمَّشت سائر الكتب الدينيَّة وأبعدتها، فلم تعد في الإطار المعرفيِّ القائم من مصادر المعرفة المعاصرة، وقد تعرَّض القرآن المجيد إلى نسبة أكبر من التهميش ليس من الصعب الكشف عنها.ـ

د- العمل على تقديم القرآن المجيد للعقل السليم -بل وللعالم كلِّه- تقديمًا يهيء الأمَّة والعالم لإدراك «حقيقة القرآن»، باعتباره كتابًا كونيًّا معادلاً للكون وحركته، ذا وحدة بنائيَّة، ومحددات منهاجيَّة كثيرة، كفيلة بأن تجعل منه مركز الدائرة من جديد في عقولنا وقلوبنا ووجداننا وحياتنا كلِّها، بل وحياة العالم كلِّه.ـ

هـ- بناء «نظريَّة كاملة للتدبُّر السليم»، قائمة على هديه -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- في «التدبُّر»، تجعل من التدبُّر أمرًا يمكن تعليمه للناس وتربيتهم عليه وتدريبهم على ممارسته، وقد تطوَّرت المعارف المتعلِّقة بالتدريب على التأمُّل في النصوص، وتحليلها، وكيفيَّة الوصول إلى مدلولاتها المتنوعة بمستوياتها المختلفة، فهناك نصوص تدرَّس ويُنظر فيها لتربية ملكات مختلفة لدى الإنسان، وهناك نصوص يقود تدبُّرُها والعناية بها إلى تأسيس وبناء حاسة أدبيَّة أو نقديَّة أو فنيَّة؛ والقرآن المجيد فيه من ذلك كلِّه، فهو يُوقظ ملكات متدبِّريه، ويُعطي لقوى وعيهم وحواسِّهم الإدراكيَّة مزيات لا تبلغها بأيِّ نصٍّ من النصوص عداه، فهو خطاب الله -تعالى- إلى فطرة الإنسان وعقله، وضميره ووجدانه، وهو بصائر لقوى وعيه كلِّها، يُربِّيها، ويزيل كل ألوان الصدأ والرين عنها، ويجعل منها حواسًّا قادرة على ممارسة هذا الذي يطلق عليه المربون اليوم Creative Thinking .ـ

و_ بناء «نظريَّة كاملة» لتفسير القرآن بالقرآن، وهو التفسير الذي أُثر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- فيما نقله أصحاب الصحاح من آيات قليلة فسَّرها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- تفسيرًا قوليًّا. أمّا «التفسير التأويليّ أو التطبيقي» فإنَّ السنَّة الصحيحة -بجملتها- تفسير للقرآن، وتأويل وتفعيل له في الواقع الذي عاشته الأمَّة في «جيل التلقي».ـ

د. طه جابر العلواني

الأربعاء، 25 مارس 2015

(سورة ال عمران) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)

ســورة ال عمران(من اية 1 الى 104)

إمـرأة عـمـران :
عِمْـرانُ بنُ مَـاثَان ، مِنْ نَسْلِ النبي داوودَ عليه السلام ، وَهُوَ رَأْسُ أُسْرَةِ [ آلِ عِمْـرانَ ] ، وَ وَالِدُ السَيِّدَةِ مَرْيَمَ العَذْراءَ ، وَ قَدْ تُوفِّيَ وَ تَرَكَ زَوْجَتَهُ حَامِلاً بِمَرْيَمَ ، فَنَذَرَتْ مَا في بَطْنِهَا خالِصَاً للّـهِ : ( إذْ قَـالَـتِ امْـرَأةُ عِـمْـرانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَـكَ مَـا فِي بَطْـني مُـحَـرَّراً فَلَـمَّـا وَضَـعَـتْـهَـا قَالَـتْ رَبِّ إنَّي وَضَـعْـتُهـا أُنْثـى .... وَإنّي سَـمَّـيْتُهَـا مَـرْيَمَ )[ آل عمران 35 / 36 ] ، و مَـرْيَمَ : أيْ خَادِمَةُ اللّهِ ، وَ زَكَرِيّا هُوَ زَوْجُ أُخْتِها وَ تُدْعَى [ إليزابيت ] ، وَ قَدْ فَازَ بِرِعَايَتِهَا بَعْدَ أنْ رَبِحَ في سِبَاقِ الأَسْهُمِ التي ألْقُوهَا في المَاءِ : ( وَ مَـا كُنْتَ لَـدَيْهِـمْ إذْ يُلْـقُونَ أَقْلاَمَـهُـمْ أَيُّهُـمْ يَـكْـفُلُ مَـرْيَمَ وَ مَـا كُـنْتَ لَـدَيْهِمْ إذْ يَخْـتَصِـمُـونَ )[ آل عمران 44 ] ، وَ لَهُمْ سُوْرَةُ [ آلِ عِمران ] في القرآن الكريم : ( إنَّ اللّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ وَ نُوحَـاً وَ آلَ إبْراهـيمَ وَ آلَ عِـمْـرانَ عَـلَـى الـعَـالَـمـينَ )[ آل عمران 33 ] ، و لذلك كان عيسى و يحي عليهما السلام أولاد الخـالة .
و أولادُ عمـران ثـلاثةٌ و هُم : [ هارون + مـرْيَم + إليزابيت ] ، لذلك قال لهـا قومهـا : ( يَا أُخْــتَ هَـارونَ )[ مريم 28 ] ، و هارون أخو مريم يختلف عن هارون أخو موسى ، لأن بين موسى و عيسى آلاف السنين ، عليهم السلام جمـيعاً

( إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِـعَ للـنَاسِ لـَلـذي بِبَكَّـةَ )[ آل عمران 96 ] ، لَـلـذي : اللامُ الأولى هنا تسمّى [ اللام المزحلَقَـة ] وَ تأتي بخبر إنَّ لِتوكيدِهِ ، بَكَّـةَ : الموقع الذي يخص الحَـرَم فَقَطْ وَ ليسَ كل مكّـة ، لِذَلِكَ لا يَصْلُحُ غَيْر هَذا المَوْقِعِ [ مَكَّـةَ ] للحَـجِّ ، وَ كانَ ذَلِكَ حَسْبَ تَوْجِيـهٍ إلَهيِّ : ( وَ إذْ بَوَّأْنا لإبراهِـيمَ مَـكَـانَ الـبَيْتِ )[ الحج 26 ] .
لِذَلِكَ أهلَكَ اللهُ جيْشَ [ أبْرَهَةَ بن الصباح ] عِنْدَما حاوَلَ هَدْمَ الكعبَةِ لِتَغْييرِ مَكانِهـَا ، حَيْثُ بنى في اليَمَنِ [ في صَنْعاءَ ] بِناءً بَديلاً عَنْها سَمَّاهُ [ القُلّيِسْ أو القايِسْ ] : ( ألَـمْ تَـرَ كَــيْفَ فَعَـلَ رَبُّكَ بِأصْـحَـابِ الـفـيل ألَـمْ يَجْـعَـلْ كَــيْدَهُـمْ فـي تَضْـلـيلٍ فَجَـعَـلَـهُـمْ كَـعَـصْـفٍ مـَأْكُـولٍ )[ سورة الفيل ] ، فاللـهُ سبحانه لا يَسْـمَحُ بِتَغييرِ المَـوْقِعِ فقط ، و مَـا زالَتِ و ستبقى الكَـعْبَةُ الشريفة هيَ بيتُ اللهِ الحَرامِ : ( جَـعَـلَ اللـهُ الـكَـعْـبَـةَ الـبيْـتَ الـحَـرامَ )[ المائدة 97 ] .


كل هـذا واللـه أعلـم .


(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (3)

سورة البقرة (من اية 253 الى آخر السورة)

آيـة الكـرسـيّ :
إذَا أَجْريْنَـا المُقَـارَنَةَ التَـالِـيَةَ :
بين : ( اللَّهُ نُورُ الـسَـمَـاواتِ وَالأرْضِ)[ النور 35 ] وَ : ( وَسِـعَ كُـرْسِيُّهُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ )[ البقرة 255 ] ، و بين : ( إنَّ اللّـهَ يُمْـسِـكُ الـسَـمَـاواتِ وَالأَرْضَ أنْ تَزولاَ ) [ فاطر 41 ] و : ( وَلا يَؤُودُهُ حِـفْظُـهُـمَـا )[ البقرة 255 ] .
يَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ : الكُرْسيّ هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ
إذَاً الكُرْسِـيّ : هُوَ أوْتَـارُ الطَـاقَةِ التي يَحْفَظُ بِهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ السَماواتِ وَ الأَرْضِ مِنَ الزَوالِ عَنْ طَريقِ [ الأَمْـرِ ] : الذي يُمَثِّلُ الطَـاقَةَ الهَـائِلَةَ الكُلّيَةَ التي يُحَرِّكُ بِهَا الخَالِقُ كُلَّ مَـا خَلَقَ ، لِذَلِكَ : ( أَلاَ لَـهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الـعَـالَـمينَ )[ الأعراف 54 ] .
وَ عَنْ طَريقِ الأَمْـرِ [ القُدْرَةُ الكليّةُ ] يُديرُ اللّهُ أُمُورَ الكَوْنِ : ( وَ أَوْحَـى فـي كُـلِّ سَـمَـاءٍ أَمْـرَهَـا )[ فصلت 12 ] ، وَ عَنْ طَريقِ الأَمْرِ يَكُونُ [ كُنْ ] : ( إنَّمَـا أمْــرُهُ إذا أرَادَ شَـيْئـاً أَنْ يَقُولَ لَـهُ كُـنْ فـَيَكُـونُ )[ يس 82 ] ، ( وَ يَوْمَ يَقُـولُ كُـنْ فَيَـكُـونُ قَـوْلُــهُ الـحَـقُّ )[ الأنعام 72 ] ،لأنَّ : اللّهَ سُبحَانَهُ مُمْسِـكٌ بِكُلِّ خُـيُوطِ الطَـاقَةِ في الكَونِ ، لِذَلِكَ يَسْتَطيعُ اللّهُ وَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْ يُوجِدَ مَا يَشَاءُ بِأَجْزاءٍ مِنَ الثَانِيَةِ ، حَيْثُ الحَقيقَةُ العِلْمِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الإرادَةَ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ [ الكَافِ وَ النُونِ بِكَلِمَةِ كُنْ ] ، وَ لَيْسَ بَيْنَ [ الكَافِ وَ النُونِ ] ، لأَنَّ لَفْظَ حَرْفِ الكَافِ يَأْخُذُ ثانِيَةً ، وَ هَذَا زَمَنٌ طَويلٌ جِدَّاً بالنِسْبَةِ لِسُرْعَةِ الضَوْءِ .
.
مَدينَـةُ بـابِـلْ
مَدينَةٌ قديمةٌ تَقَعُ عَلى بُعْدِ 90 كيلو متْراً جنُوبَ غَرْبِ بَغْدادَ في العِراقِ ، وَ مَعْـنى اسْمها : [ بابُ الإلهِ _ بابُ إيلْ ] ، وَ قَدْ وَرَدَ اسْمها في القرْآنِ الكريمِ بَقَوْلِهِ تعالى : ( وَ مَا أُنْزِلَ عَـلى الـمَـلَـكَـيْنِ بِـبَابِـلَ )[ البقرة 102 ] ، وَ يُنْسَبُ لها أُسْـطورَةُ التَكْوين البابليّ .
مِنْ أشْـهَرِ مُلوكِهـَا نَمْـرود الذي كانَ صَيَّـاداً في بدايَـةِ حياتِـهِ ، ثُـمَّ عْطاهُ اللهُ المُلْكَ ، فأسَّـسَ الإمبراطوريّةَ البابليّةَ ، وَ هُوَ الذي حَاجَّ إبْراهيمَ علَيْهِ السلامُ في رَبِّهِ : ( أَ لَـمْ تـَرَ إلى الـذّي حَـاجَّ إبراهـيمَ في رَبِّـهِ أَنْ آتاهُ اللَّـهُ الـمُـلْـكَ ... قالَ أنَا أُحْـيـي وَ أُمِـيْـتُ )[ البقرة 258 ] ، فَقَدْ كانَ جَبّاراً و كافراً .
.
( فَـبُهِـتَ الـذي كَـفَرَ )[ البقرة 258 ]
مِنَ المُثِيرِ لِلدَهْشَةِ أَنَّ إبراهيمَ عليهِ السلام ، كَانَ أَوَّل مَنْ أَدْرَكَ الحَقيقَةَ العِلمِيَّةَ : [ مَـبْدَأَ العَطَالَةِ وَ القُصُورِ الذَاتيِّ ] ، وَ ذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ حَديثِهِ مَعَ الكَافِرِ الذي حَاجَّهُ في رَبِّهِ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ فَإنَّ اللّـهَ يَأْتي بِالـشَـمْـسِ مِـنَ الـمَـشْـرِقِ فَأْتِ بِهَـا مِـنَ الـمَـغْـرِبِ فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ )[ البقرة 258 ]
أيْ طَلَبَ مِنْهُ إبراهِيمُ أنْ يَعْكِسَ دَوران الأَرْضِ كَيْ تَأْتي الشَمْسُ مِنَ المَغْرِبِ ، فَـبُهِـتَ الـذي كَــفَرَ لأَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعَ الأَرْضِ جُمْلَةً فيزيائِيَّةً وَاحِـدَةً فَمْهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإنَّهَا قُوَّةٌ دَاخِلِيَّةٌ بالنِسْبَةِ للجُمْلَةِ الفيزيَائِيَّةِ ، وَ مُحَصِّلَتُهَا = 0 ،
نُلاَحِظُ أَنَّ الذي كَفَرَ ، بُهِتَ فَقَطْ عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ إبراهيمُ عَكْسَ اتِّجَاهِ دَورانِ الأَرْضِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُبْهَتْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إبْراهيمُ : ( إنَّ رَبِّي يُحْـيي وَ يُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، بَلْ قَالَ : ( أنَا أُحْـيي وَ أُمِـيْتُ )[ البقرة 258 ] ، فَأحْضَرَ شَخْصَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِإعْدَامِ أَحَدِهِمَا وَ إبْقَاءِ الآخَرَ حَيَّاً ، وَ قَالَ لإبْراهِيم : هَكَذَا أَنـا أُحْيي وَ أُمِيْتُ ، لِذَلِكَ : ( قَالَ إبْراهِـيمُ رَبِّ أَرِني كَــيْفَ تُحْـيي الـمَـوتـى )[ البقرة 260 ] ، كَيْ يَرى هَذا الكَافِرُ كَيْفَ يَكُونُ إحْيَاءُ الموتى ، فكان الردّ الإلهيّ : ( قال فَخُـذْ أَرْبَعَـةً مِـنَ الـطَـيْرِ فَصُـرْهُـنَّ إلَـيْكَ ثُمَّ اجْـعَـلْ عَـلـى كُـلِّ جَـبَلٍ مِـنْهُـنَّ جُـزْءاً ثُمَّ ادْعُـهُـنَّ يَأْتِيْنَكَ سَـعْـيَاً )[ البقرة 260 ] .
.
الـقُـدْسُ وَ الـمُـقَـدّسُ :
تَعْـني مَنْ يَمْنَحُ الحَيَاةَ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ عَجَبَ أنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْضَرَ مُوسى إلى الوادِي المُقَدَّسِ : ( إنَّكَ بالـوادِ الـمُـقَدَّسِ طُـوى )[ طه 12 ] ، حَيْثُ تَحَوَّلتِ العَصَـا إلى حَيَّةٍ تَسْعَى ، وَ حِيْنَ هَدَّمَ القُدْسَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ [ نَبُو خَذِّ نَصَّرْ ] عَام 585 قبل الميلادِ ، مَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ فاسْتَغْرَبَ عَوْدَتَها للحَيَاةِ : ( أوْ كَـالـذي مَـرَّ عَـلـى قَـرْيَةٍ وَ هِـيَ خَـاوِيَةٌ عَـلى عُـروشِهَـا فَقَالَ أنَّى يُحْي هَذِهِ اللّـهُ بَعْـدَ مَـوْتِهَـا فَأمَـاتَهُ اللّـهُ مِـئَةَ عَـامٍ ثُمَّ بَعَـثَهُ ) [ البقرة 259 ] ، لِيَرى أنَّ القُدْسَ قَدْ عَادَتْ للحَياةِ ، كَمَا أنَّ القُدْسَ وَالمُقَدَّسَ يَمْنَحُ البَرَكَةَ حَوْله : ( الـمَـسْـجِـدِ الأقْصَـا الـذي بَارَكْـنَا حَـوْلَـهُ )[ الإسراء 1 ] .
.
( الـشَـيْطَـانُ يَعِـدُكُـمُ الـفَقْـرَ )[ البقرة 268 ]
وَ الفَقْـرُ لَـهُ أَشْكَالٌ عَديدَةٌ : المَاليّ وَ العِلْميَّ وَ الصِحيّ وَ الإجتماعيّ 000 ، وَ كُلُّ أنْواعِ الفَقْر ِهَذه مَوْجُودَةٌ مَعَ الأَسَفِ في المُجْتَمَعِ العربيّ و الإسْلاميِّ .
وَ الـذي لاَ يَعِيشُ عَصْـرَهُ وَ يَتَفاعَـلُ مَعَـهُ ، هُوَ في خُـسْرٍ : ( وَ الـعَـصْـرِ إنَّ الإنْسَـانَ لَـفـي خُـسْـرٍ )[ العصر 1 ] ، و العصـرُ هو : العصر الذي يَعيشُ بِـهِ الإنْسَانُ .
وَ نِسْـبَةُ الأُمِيَّـةِ في المُجْتَمَعِ العَربيِّ مُخِيفَـةٌ ، وَ نظـافةُ النَصّ المحفوظِ [ القُرآنُ الكريمُ ] ، لـمْ تنتقلُ إلى [ نظـافَةِ الفهْـم ] ، وَ نظـافَةِ الأخلاقِ و البيْئةِ و السلوكِ ، فبقيَتْ هذه الأمّة في [ فقْـرهـا ] العلميّ و الحضاريّ ... ، و هـذا مَا يُريْدُه الشـيْطانُ .
.
فَـنَـظِـرةٌ إلى [ مَـيْسَـرة ] :
( وَ إنْ كَـانَ ذُو عُـسْـرَةٍ فَنَظِـرَةٌ إلـى مَـيْسَـرَةٍ )[ البقرة 280 ] ، وَ [ مَيْسَرَة ] مُنْتَهى اليُسْـرِ وَ لَيْسَ اليُسْرُ العَاديُّ ، فعلى الدائن انتظار المدين حتى يُصبح في ميسَرة و يحلّ جميع مشاكله المالية ، ثُمّ يُطالبه بالدين .
يُصَاغُ الاسْمُ في اللُّغَةِ عَلى وَزْنِ [ مَفْعَلَة ] لِلدَلاَلَةِ عَلى الكَثْرَةِ ، فَحَيْثُ تَكْثُرُ الدِراسَةُ
[ مَدْرَسَة ] ، وَ حَيْثُ يَكْثُرُ العِراكُ [ مَعْرَكَة ] وَ حَيْثُ تَكْثُرُ القُبُورُ [ مقْبَرَة ] وَ حَيْثُ يَكْثُرُ الطَحْنُ [ مَطْحَنَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الكُتُبُ [ مَكْتَبَة ] ، وَ حَيْثُ تَكْثُرُ الطِباعَةُ [ مَطْبَعَة ] ، وَ هَكَذَا نَجِدُ في القُرْآنِ الكَريمِ ، الكَثيرَ مِنَ الأَمْثِلَةِ :
( أَوْ إطْـعَـامٌ في يَوْمٍ ذِي مَـسْـغَـبَةٍ )[ البلد 14 ] وَ المَسْغَبَةُ : الجُوعُ الشَديدُ ، وَ المَخْمَصَةُ : المَجَاعَةُ ( فَمَـنِ اضْـطُـرَّ في مَـخْـمَـصَـةٍ )[ المائدة 3 ] ، وَ كَثْرَةُ الرَحْمَةِ [ مَرْحَمَة ] : ( الـذينَ آمَـنُوا وَ تَواصَـوْا بِالـصَـبْرِ وَ تَواصَـوْا بِالـمَـرْحَـمَـةِ )[ البلد 17 ] ، كَمَا أنَّ كَثْرَةَ الشُؤْمِ [ مَشْأَمَة ] : ( وَ الذينَ كَفَروا بِآيَاتِنَا هُـمْ أصْـحَـابُ الـمـَشْأَمَةِ )[ البلد 19 ] .
.
المُحكـمـات و الـمـتشـابهات :
( هُـوَ الـذي أنْزَلَ عَـلَـيْـكَ الـكِـتَابَ مِـنْهُ آيَاتٌ مُـحْـكَـمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الـكِـتَابِ وَ أُخَـرُ مُـتَشَـابِهَـاتٌ فَأمَّـا الـذينَ فـي قُـلُـوبِهِـمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُـونَ مَـا تَشَـابَهَ مِـنْهُ )[ آل عمران 7 ]
نُلاَحِظُ أنَّ بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، قَدْ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأُولى أنَّهَا تُعَارِضُ بَعْضَهَا بَعْضَاً مِثْل : ( فَيَوْمَـئِـذٍ لاَ يُسْـأَلُ عَـنْ ذَنْبِهِ إنْـسٌ وَ لاَ جَـانٌ )[ الرحمن 39 ] ، وَ بَيْنَ : ( فَوَ رَبِّكَ لَـنَسْـأَلَـنَّهُـمْ أَجْـمَـعِـينَ )[ الحجر 92 ] ، وَ لَكِنْ : الآية الثانية هي [ مُحْكمة ] و الأولى [ مُتشابهة ] ، أيْ لا بُدّ من سؤال جميع الناس عن أعمالهم ، و الآية الأولى تتحدّث عن [ بداية ] يوم الحساب ، و لكن بعد ذلك سيتمّ سؤال الجميع ، فلا تعارض بين الآيتين الكريمتين ، لذلك يجب ردّ الآيات [ المُتشابهات ] إلى الآيات [ المُحكمات ] ، فالذينَ في عقولهم [ زيْغٌ = نقص ] هُم وحدهُم الذين يتّبعون فقط الآيات [ المُتشابهات ] من أجْل إثارة الفتنة .
.
شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ :
إنَّ شَهَادَةَ : [ لا إلـهَ إلاَّ اللّـهُ ] هيَ أسَاسُ إسْلاَمِ الإنْسَانِ ، وَ بِدُونِهَا يَكُونُ الإنْسَانُ مُشْرِكَاً ، وَهِيَ شَـهَادَةٌ يَشْهَدُهَا المُسْـلِمُ عَلى أَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ كُلِّهِ إلاَهَـاً آخَـرَ ، و بمـا أنّ : [ اللّـهُ أَكْـبَرُ ، اللّـهُ أَكْـبَرُ ] ، لِذَلِكَ فَإنَّ اللّهَ وَحْدَهُ قد أعطانا هَذِهِ الحَقيقَةَ بِأَنَّـهُ لاَ يُوجَدُ في الوُجُودِ إلَهٌ سِواهُ ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ شَـهِدَ بِذَلِكَ : ( شَـهِـدَ اللّـهُ أَنَّهُ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ وَ الـمَـلائِـكَـةُ وَ أُولـُوا الـعِـلْـمِ قَائِـمَـاً بالـقِسْـطِ )[ آل عمران 18 ] ، إذَاً نَحْنُ نَشـهَدُ على شَـهَادَةِ اللّه بِأنَّـهُ : [ لا إلـهَ في الوجودِ كلِّـهِ إلاَّ اللّـهُ ] ، وَ لَمَّـا وَصَلَتْنَـا هَذِهِ الحَقيقَةُ عَنْ طَريقِ الرَسُولِ صلى الله عليه و سلم ، فَلاَ بُـدَّ مِنْ إتْمَـامِ الشَـهَادَةِ بالاعْتِرافِ بِـهِ رَسُـولاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ، فَكَانَتِ الشَهَادَّةُ التَـامَّةُ : [ أَشـهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ وَ أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللّهِ ] .

كل هذا والله اعلم .




الثلاثاء، 17 مارس 2015

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (1)




ســورة البـقـرة (من اية 1 الى 141)

هِيَ أطْوَلُ السُوَرِ المَدَنيَّةِ ، ترتيبُهَا في المُصْحَفِ [ 2 ] ، وَ تَرْتيبُ نُزُولِهَـا [ 87 ] حيثُ نزلت قبل سورة الأنفال و بعد سورة المطففين ، وَ عَدَدُ آيَاتِهَا [ 286 ] آيَة ،

إنّ بداية سورة البقرة و خاصّةً الصفحة المُقابلة لسورة الفاتحة ، تُحدّد صفات [ المتّقين ] الذين سيكونون هُم [ المفلحون ] يوم الحساب ، و الكَلِمَاتِ الأولى مِنْ كِتَابِ اللّهِ هيَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ لاَ رَيْـبَ فِـيـهِ )[ البقرة 2 ] ، نُلاحِظُ أنَّهُ قَالَ : ( ذَلِـكَ الـكِـتَابُ ) ، وَ لَمْ يَقُلْ : [ هَـذا الكِتَابُ ] ، لأنَّ : ( ذلِكَ ) تُفيدُ البُعْـدَ ، أيْ أنَّ : كِتَابَ القُرْآنِ الكريمِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ( لا رَيْبَ فِيهِ ) ، وَ لَنْ يَسْتَطيعَ أحَدٌ إيجَادَ أيِّ رَيْبٍ فيهِ ، حَتَّى في رَسْمِ كَلِمَاتِهِ كَكِتابٍ ، بالرَغْمِ مِنْ تَنَوّعِ مَواضِيعِهِ في شَتّى المَجالاتِ كالتَشْريعِ وَ الفَلَكِ وَ الطبِّ وَ الطبيعَةِ .... .

و تُعتبر سورة البقرة [ مُلَخَّصَاً ] لِكُلِّ القُرْآنِ الكَريمِ ، لِذَلِكَ كَانَ الصَحَابَةُ الكِرامُ عليهم رضوان الله جميعاً ، يَحْرَصُونَ عَلى حِفْظِهَا غَيْبَاً وَ كَانُوا يُدْعَوْنَ : [ أصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ ] ، وَ تَبْدَأُ السُورَةُ بِبِيَانِ سُبُلِ الهِدايَةِ [ الآيات مِنْ 1 إلى 8 ] ، ( بَعْدَ أنْ وَرَدَ في سُورَةِ الفَاتِحَةِ آية : ( اِهْدِنا الصِراطَ المُسْتَقيمَ ) .

ثُمَّ تُوضِحُ السُورَةُ أنَّهُ سَيَكُونُ هُناكَ مُنافِقُونَ يَتَظَاهَرونَ بالإيْمَانِ ، وَ أنَّ هُناكَ طَائِفَة إيْمَانُهَا ضَعيفٌ تُحَاوِلُ إقَامَةَ عَلاقَاتٍ سِرِيَّةٍ مِعَ هَؤلاَءِ المُنافِقِينَ [ الآيات مِنْ 9 إلى 21 ] ، وَ أنَّ عَلى كُلِّ شَخْصٍ أنْ يَصِلَ بِمَعُونَةِ القُرْآنِ إلى رَبِّهِ ، وَ إذَا كَانَ يَتَّبِعُ غَيْرَ دِينِ القُرْآنِ ، فَعَليْهِ أنْ يُقَارِنَ دِينَهُ مَعَ دِينِ القُرْآنِ ، وَ إذَا رَفَضَ المُقَارَنَةَ وَ الحُجَّةَ وَ قِياسَ صِدْقِ القُرْآنِ مَعَ صِدْقِ الكُتُبِ السَماويَّةِ السَابِقَةِ ، فَلاَ مَفَرَّ مِنْ عَذَابِ النَارِ ، فَلِمَاذَا يَخْلُقُونَ الأَعْذَارَ لِعَدَمِ قَبُولِ الحَلَقَةِ الأَخيرَةِ لِنِظَامِ الارْتِقَاءِ الإيْمَانيِّ [ الآيات مِنْ 22إلى 30 ] ، ثُمَّ تَذْكُرُ الحَلَقَةَ الأولى مِنَ السِلْسِلَةِ وَهُوَ آدَمُ عليه السلام ، فالذينَ احْتَرَمُوا آدَمَ مَلاَئِكَةٌ ، وَ الذينَ لَمْ يَحْتَرِمُوه ُشَيَاطِينٌ [ الآيات مِنْ 31 إلى 40 ] ، وَ أنَّ اللّهَ قَدْ أرْسَلَ رُسُلاً تَتْـرا ، وَ مِثَالُ مُوسى عليه السلام لَيْسَ بِبَعيدٍ ، ثُمَّ تُفَنِّدُ السُورَةُ حُجَجَ وَ جِدَالَ المنافقين عَلى تَحْويلِ القِبْلَةِ وَ غَيْرِهَا ، [ الآيات مِنْ 123إلى 153 ] ، وَ في النِصْفِ الثَاني مِنَ السُورَةِ تَتَوَضَّحُ جَميعُ الأَحْكَامِ وَ العِبادَاتِ الإسْلاَمِيَّةِ بَدْأً مِنَ الآيَةِ 214 : ( يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ 000 يَسْـأَلُـونَكَ ) ، ثُمَّ تُخْتَتَمُ السُورَةُ بِأفْضِلِ الأدْعِيَةِ .

.

اسـتوقـد نـاراً :

إنّ كلمة [ استوقد ] تختلف عن كلمة [ أوقد ] ، فكلمة [ أوقد ] تُستخدم للنار المعروفة : ( فَـأَوْقِـدْ لِـي يَا هَـامَـانُ عَـلـى الـطِـيْنِ )[ القصص 38 ] ، أمّـا كلمة [ استوقد ] فهي لنـار [ الحقد و الكراهية ] للآخرين ، و هذا يضع الجسم في حالَةِ [ الحُموضَةِ ] وَ يُذْهِبُ الطاقَة للشخص والذين يُحيطون بـه ، لذلك تقول الآية : ( مَـثَلُـهُـمْ كَـمَـثَلِ الـذي اِسْـتَوْقَـدَ نَاراً فَلَـمَّـا أَضَـاءَتْ مَـا حَـوْلَـهُ ذَهَـبَ اللّـهُ بِنُورِهِـمْ )[ البقرة 17 ] ، و لم تقُل : [ بنـوره ] .

.

جـاعـل في الأرض خـليفة :

كَانَ الملائكَـةُ يُراقِبُـونَ مَـا يَجْري عَلى الأرض ، دُونَ أيِّ سؤالٍ لِلخالِـقِ عَمّـا يَجْري فيهَـا ، إلى أنْ : ( قالَ ربُّكَ لِلـمَـلائِـكَـةِ إنّي جَـاعِـلٌ في الأَرْضِ خَـلـيفَةً ) [ البقرة 30 ] و كلمة [ جَـاعِـلٌ ] بِصِيغَةِ [ فاعِـلْ ] ، للدَلاَلَةِ على أنَّ الأمْرَ قَدْ أصْبَحَ واقِعَاً ، فالخَليفَةُ مَوْجُودٌ فِعْـلاً وَ يَحْتَاجُ فَقَطْ للتكليف ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ : سَـأجْعَلُ ، أيْ : قاصِداً آدَمَ عليه السلام مِنْ بَيْنِ كُلِّ المخْلوقاتِ الأُخْرى عَلى الأرْضِ ، فَقَدِ اخْتَـارَ اللهُ آدَمَ اِخْتياراً مِنْ بَيْنِها : ( إنَّ اللَّـهَ اصْـطَـفـى آدَمَ )[ آل عمران 33 ] ، عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَغْرَبَ الملائِكَةُ هَذا الاخْتِيَارَ : ( قَالوا أَتَجْـعَـلُ فيهَـا مـَنْ يُفْسِـدُ فيهَـا وَ يَسْـفِكُ الـدِمَـاءَ )[ البقرة 30 ] ، و كلمتيْ : [ يُفْسِـدُ ] و [ يسفك ] فعل مضارع يدل على الحاضر و ليس على المستقبل ، لأَنّهمْ كانوا يُراقِبونَ تَصَرّفاتِ آدَمَ عَلى الأرْضِ مِنْ تَخريبٍ للبيئَـةِ ، وَ لَمْ يكُنِ الأمْرُ غيبيًا علَيهم لأنّـهُ لاَ يعْلَمُ الغَيْبَ إلاّ اللّـه سُبْحَانَهُ : ( وَ عِـندَهُ مَـفَاتِحُ الـغَـيْبِ لاَ يَعْـلَـمُـهَـا إلاَّ هُـوَ ) [ الأنعام 59 ] ، وَ لأنَّ الفَسَادَ في الأرْضِ سَبَبُهُ الإنْسَانُ فَقـطْ : ( ظَـهَـرَ الـفَسَادُ في الـبَرِّ والـبَحْـرِ بِمَـا كَـسَـبَتْ أَيْدي الـنَاسُ) [ الروم 41 ] ، أيْ أنَّ ظُهورَ الفَسَـادِ في الأرْضِ تَـوافَقَ مَعْ ظُهُورِ الإنْسَـانِ عليْهَا .

و معنى كلمة [ خليفةً ] ، أيْ : يخلُفُ بعضه بعضاً ، و ليس خليفة لله سبحانه ، لأنّ سبحانه ليس له خليفة .

.

علّم آدم الأسماء كلّهـا :

إنَّ أهَمَّ مَا نُقَابِلُ مِنَ المُفْرَداتِ اللّغَويَّةِ ، هيَ : [ الأسْـماءُ ] ، وَ التَسْـمِيَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اعْتِباريّةٍ ، فَيُمْكِنُنا إطْلاقُ أيِّ رَمْـزٍ أَوْ مُصْطَلَحٍ [ اسْم ] نُريْدُ عَلى عُنْصُـرٍ مَـا ، مِثْلَ تَسْـمِيَةِ الأوْلادِ المَواليْد ، وَ مِنَ الأفْضَلِ أنْ يَدُلَّ الاسْـمُ على تَعْريْفِ المُسَـمّى ، لِذَلِكَ يَجِبُ أنْ يُعَلَّـمَ الاسْمُ تَعْليْمـاً : ( وَ عَـلَّـمَ آدَمَ الأسْـمَـاءَ كُـلَّـهَـا )[ البقرة 30 ] ، فَاللّـهُ سُبْحانَهُ قد [ عَلَّمَ ] وَ لَيْسَ [ لَقَّنَ ] آدَمَ : [ الإنْسانُ الأوَّلُ ] جَميعَ الأسْماءِ ، لأنَّ الأسْـماءَ [ فِطْرِيَّـةٌ ] لَدى الإنْسَانِ ، وَ لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً ، فاللّغَةُ مَوْجُودَة في الطَبيعَةِ وَ لَوْ لَمْ يُوجَدُ الإنْسَانُ ، فَكُلُّ طِفْلٍ وَ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ يَكُونُ مُزَوَّداً بِمبادىءِ النَحْوِ العالميِّ ، وَهَذَا مَا يَسْمَحُ لَهُ بِتَعَلُّمِ أيِّ لُغَـةٍ يَحْتَكُّ بِها في مُحيطِهِ الإنْسانيِّ ، وَ هَذِهِ المَبادىءُ جُزْءٌ مِنَ [ الطبيْعَةِ الإنْسانيَّةِ ] التي تَنْتَقِلُ وِراثِيّاً مِنَ الآباءِ إلى الأبْناءِ : ( وَاخْـتِلافُ ألْـسِـنَتِـكُـمْ وَألْـوانِـكُـمْ إنَّ في ذَلِـكَ لآيَاتٍ لِلْـعَـالَـمِـيْن )[ الروم 22 ] .

فالمَطْلُوبُ هُوَ إيْجادُ [ نظريّة لُغَويّة ] جديْدة تُضِيْفُ أسْماءً وَ معان جديْدة ، وَ لِكُلِّ الأفعالِ اللغويّة ، عِنْدَ ذَلِكَ نَجِدُ أنَّ اللّغَةَ العربيّةَ وَحْدها القادِرَة على اسْتيعابِ جَميعِ الأسْماءِ وَ المُصْطلحاتِ التي تَظْهَرُ مَعَ التَقَدُّمِ العِلميِّ الهائِلِ ، وَ هَذا ما أدْرَكَهُ بِوَعْيٍ شَاعِرُ النيلِ [ حافِظ إبراهيم ] قائِلاً باسمِ اللّغَةِ العربية :

فَكَيْفَ أَضِيْقُ اليَـوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَـةٍ وَ تَنْسِـيْقِ أسْـماءٍ لِمُخْتَـرعـَاتِ

دعـاء إبراهيم عليه السلام :

لَقَدْ كَانَ دُعَـاءُ أبينَـا إبراهيمُ عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَـثْ فِيْهِـمْ رَسُـولاً مِـنْهُـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـكَ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَالـحِـكْـمَـة وَ يُزَكِّـيْهِـمْ )[ البقرة 129 ] ، وَ لكِنَّ اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ على هَذِهِ الأُمَّةِ : ( لَـقَـدْ مَـنَّ اللّـهُ عَـلَـى الـمُـؤْمِـنينَ إذْ بَعَـثَ فِيهِـمْ رَسُـولاً مِـنْ أَنْفُسِـهِـمْ يَتْلُـوا عَـلَـيْهِـمْ آيَاتِـهِ وَ يُزَكِّـيْهِـمْ وَ يُعَـلِّـمُـهُـمُ الـكِـتَابَ وَ الـحِـكْـمَـةَ )[ آل عمران 164 ] ، حَيْثُ نُلاحِظُ أنَّ اللّهَ اسْتَجابَ دُعَاءِ إبراهيمَ ، لَكِنَّهُ جَعَلَ [ التَزكِيَةَ ] ثانيـاً .

كلّ هـذا و اللـه أعْلم .




                                            

(سورة البقرة) تفسير د.علي منصور الكيالي (2)

سورة البقرة (من اية 142 الى 252)

( و منْ حيثُ خَرجْتَ فولّ وجهَـكَ شـطْر المسـجد الحـرام )[ الآيتان 149 / 150 ] ، هذا الأمْر الذي ورَد في آيتين متتاليتين لأهميته ، يطلب من كل مسلم و مسلمة أنْ يتّجه و لو للحظات نحو المسجد الحرام ، ليْسَ في أوقات الصلاة فحسْب ، و لكن منْ أيّ مكانٍ يخرُجُ منه ، سواءٌ كان من محلّ تجاريّ ، أو من سيّارته ، أو منْ بيته ..... ، عليه إعطاء إلتفاته و لو قصيرة نحو المسجد الحرام ، كي يتزوّد ب [ الطـاقة ] التي ينشُـرُهـا المسجد الحرام في كلّ الكرة الأرضية ، ثُمّ يُتابع سيره و سوف يرى الحيوية و النشاط التي يشعر بهـا .

إنّ الاتجَاهَ إلى المسْجِدِ الحَـرامِ هُـوَ مِنْ أجْلِ الانسِـجامِ مَعَ الفِطْرَةِ الإنسَـانيّةِ في التوجُّهِ نَحْوَ المَوْطِنِ الأوَّلِ للإنسَـانيّةِ ، فَحينَمـا كانَ صلى الله عليه وسلم يَتَوَجَّهُ في صَلاتِهِ نَحْوَ المسجِدِ الأقْصى ، كَانَ ظَهْرَهُ نَحْوَ المسْجِدِ الحَرامِ [ 180 درجة ] ، وَ هَذا لَمْ يَتَوافَقْ مَعَ فِطْرَتِهِ الإنسانيّةِ : ( قَـدْ نَرى تَقَـلُّـبَ وَجْـهِـكَ فـي الـسَـمَـاءِ فَـلَـنُوَلِّـيَنَّـكَ قِـبْلَـة ً تَرْضَـاهَـا فَـوَلِّ وَجْـهَـكَ شَـطْـرَ الـمَـسْـجِـدِ الـحَـرامِ وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُـمْ فَـوَلُّـوا وُجُـوهَـكُـمْ شَـطْـرَهُ )[ البقرة 144 ] ، أي : ترْضَاهَا فِطْرَتُكَ الإنْسَـانيّة ، وَ حَتّى غَيْرِ المسْلمينَ يَعْلَمونَ هَذِهِ الحقيقةَ : ( وَ إنَّ الـذينَ أُوتُـوا الـكِـتَابَ لَـيَعْـلَـمُـونَ أَنَّـهُ الـحَـقُّ مِـنْ رَبِّهِـمْ )[ البقرة 144 ] ، لِذَلِكَ كانَ وُجُوبُ التَوَجّهِ للمَسْجِدِ الحَرامِ لِعَدَمِ مُخالَفَةِ الحقيقَةِ مِنْ جِهَة ، وَ عَدَمَ تْرْكِ المَجالِ لِحَديثِ المُغْرضينَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرى : ( وَ حَـيْثُ مَـا كُـنْتُـمْ فَـوَلُّـوا وُجُـوهَـكُـمْ شَـطْـرَهُ لِـئَـلاّ يَكُـونَ لِلـناسِ عَـلَـيْكُـمْ حُـجَّـةٌ ) [ البقرة 150 ] ، لأنَّ المُنَـافِقِينَ المُغْرضينَ يَرْفَضونَ هَذا الأمْرَ : ( وَ لَـئِـنْ آتَيْتَ الـذينَ أُوتُـوا الـكِـتَابَ بِكُـلِّ آيَةٍ مَـا تَبِعُـوا قِـبْلَـتَكَ )[ البقرة 145 ] .

( وَ مَـا جَـعَـلْـنَا الـقِـبْـلَـةَ الـتي كُـنْتَ عَـلَـيْهَـا إلاَّ لِـنَعْـلَـمَ مَــنْ يَتَّبِعُ الـرَسُـولَ مِـمَّـنْ يَنْقَـلِـبُ عَـلـى عَـقِـبَيْـهِ )[ البقرة 143 ] ، و الـقِـبْـلَـةَ الـتي كُـنْتَ عَـلَـيْهَـا هي : الاتّجاهِ إلى المسـجدِ الأقصى ، و قد كَانَتْ مَـرْحَلَة اخْتِبـارٍ مُؤقَّـتَةً ، وَ لَيْسَتْ قِبْلَةً دائِمَةً ، لِذَلِكَ كَانَ قَوْلُ المُنـافِقينَ السَـاخِرَ : ( سَـيَقُولُ الـسُـفَهَـاءُ مِـنَ الـنَاسِ مَـا وَلاَّهُـمْ عَـنْ قِبْلَـتِهِـمُ الـتي كَـانُوا عَـلَـيْـهَـا )[ البقرة 142 ] ، [ تَمَّ تَحْويلُ القِبْلَةِ منَ القدس إلى مكّة ، بَعْدَ الهِجْرَةِ بِ / 17 / شَهْراً ]

وَ التوَجُّـهُ نَحْـوَ الكَعْبَةِ أمْـرٌ لَيْسَ بالسَـهْلِ عَلى غَيْرِ الذينَ هَداهُمُ اللّـهُ للاتّجاهِ إليْـهِ : ( وَ إنْ كَـانَتْ لَــكَـبيرَةً إلاَّ عَـلـى الـذينَ هَـدى اللَّـه ُ)[ البقرة 143 ] ، [ الـلاّم في بداية كلمة لكبيرة هي : الـلاّمُ الفارقـة ] .

.

( إنَّا لِلَّـهِ وَ إنَّا إلَـيْهِ رَاجِـعُـونَ )[ البقرة 156 ]

في هَذِهِ العِبَارَةِ الرَائِعَـةِ التي جَاءَتْنـَا عَلى شَكْلِ آيَـةٍ كَريمَـةٍ مِنَ الخَالِقِ تعالى ، فيهَا نَفْيٌ مَنْطِقيٌّ لِلظُلْمِ عَنْـهُ تعالى ، فَلَمّا كَانَ تَعْريفُ الظَالِمِ أنّـهُ : هُوَ [ الذي يَتَصَرَّفُ بِمَـا لاَ يَمْلُكُ ] ، وَ لَمّـا كَانَ كُلُّ مَا في الوُجُودِ مُلْكٌ للخَالِقِ سُبْحَانَهُ : ( فَسُـبْحَـانَ الـذي بِيَدِهِ مَـلَـكُـوتُ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ يس 83 ] ، فَإنِّهُ سبحانه يَتَصَرَّفُ فيمَا يَمْلُكُ ، وَ مَنْ تَصَرَّفَ فيمَا يَمْلُكُ لاَ يَظْلِمُ أحَدَاً : ( إنَّ اللَّـهَ لاَ يَظْـلِـمُ مِـثْقَالَ ذَرَّةٍ )[ النساء 40 ] ، لأَنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ في الوُجُودِ مُلْكٌ شَخْصيٌّ لَـهُ ، أمَّـا أيُّ أحَدٍ سِواهُ فَلَيْسَ لَـهُ مِنَ المُلْكِ شَـيْئاً : ( وَ الـذينَ تَدْعُـونَ مِـنْ دُونِهِ مَـا يَمْـلِـكُـونَ مِـنْ قِـطْـمـيرٍ )[ فاطر 13 ] ، وَ القِطْميرُ هُوَ : غِشَـاءُ نَواة التمْرِ ، لِذَلِكَ كَانَ المَنْطِـقُ يَقْتَضي : ( لاَ يُسْـأَلُ عَـمَّـا يَفْعَـلُ وَ هُـمْ يُسْـأَلُـونَ ) [ الأنبياء 23 ] ، لاَ يُسْـأَلُ عَـمَّـا يَفْعَـلُ لأنَّهُ : يَصَرّفُ فيما يَمْلُكُ ، وَ هُـمْ يُسْـأَلُـونَ لأنَّهُم يَتصَرّفُون في مُلْكِـهِ ، وَ لَيْسَ في مُلْكِهِمْ .

وَ نُلاَحِظُ أنَّ الآيَةَ الكَريمَةَ في سُورَةِ يس ، قَدْ أَوْرَدَتْ كَلِمَةَ مَـلَـكُـوتُ : ( بِيَدِهِ مَـلَـكُـوتُ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ يس 83 ] ، وَ المَلَكُوتُ غَيْرُ الملكيَّةِ ، فالمُلْكِيَّةُ تَكُونُ ظَاهِريَّةً للشَـيْءِ ، أمَّا المَلَكُوتُ فَهُوَ مُلْكِيَّةُ كُلِّ ذَرَّةٍ في الشَيْءِ ، فَنَحْنُ لَسْنَا عَبيدَاً وَ مُلْكَاً ظَاهِريّاً لِلّهِ فقط ، بَلِ اللّهُ يَمْلِكُ وَ يَحِقُّ لَـهُ التَصَرُّفُ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فينـَا مَتى مَا يَشَاءُ وَ كَيْفما يَشَـاءُ ، وَ هَذَا هُوَ المَلَكُوتُ : ( إنْ يَشَـأْ يُذْهِـبْـكُـمْ وَ يَأْتِ بِخَـلْـقٍ جَـديدٍ )[ فاطر 16 ] ، بَيْنَمَا تَكُونُ المُلْكيَّةُ ذَاتُ شَكْلٍ ظَاهريٍّ فالذي يَمْلِكُ حِصَانَاً مَثَلاً ، يَمْلِكُهُ بِشَكْلِهِ الظَاهريِّ [ حَقُّ الانْتِفاعِ ] ، لاَ بِشَكْلِ مَلَكُوتِ كُلِّ ذَرَّةٍ فيـهِ .

فَـإذَا أَصَابَتِ الإنْسَانَ مُصِيبَةٌ قَالَ : ( إنَّا لِلَّـهِ وَ إنَّا إلَـيْهِ رَاجِـعُـونَ )[ البقرة 156 ] ، أيْ : نَحْنُ مُلْـكٌ للّـهِ وَ اللّـهُ قَـدْ تَصَـرَّفَ فيمـا يَمْلُكُ ، وَ في هَذا نَفْيٌ للظُلْمِ عَنِ اللهِ سُـبْحَانَهُ ، فَنُلاَحِظُ أنَّ الإنْسَانَ بِقَوْلِهِ هَذَا يَنْفي الظُلْمَ عَنِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ ، باعْتِرافِهِ أنَّ اللّهَ قَدْ تَصَرَّفَ فيما يَمْلُكُ ، فَيَكُونُ جَزاءُ الذينَ يَقُولُونَ هَذا القَوْل ِ، مُعْتَرِفينَ بِعَدَمِ ظُلْمِ اللّـهِ لَهُمْ : ( أُولَـئِـكَ عَـلَـيْهِـمْ صَـلَـواتٌ مِـنْ رَبِّهِـمْ وَ رَحْـمَـةٌ)[ البقرة 157 ] ، و صَـلَـواتٌ أي : سكينَةٌ و اطْمِئْنانٌ في الدُنْيا وَ الآخِرَةِ ، وَ هَذِهِ الرحْمَةُ كافيَـةٌ لِدُخُولِهِمُ الجَنّـَةَ .

.

الصَــفـا و الـمـروة :

يَطوف الحُجّاجُ بَيْنَ صخرتيْ [ الصَفـا ] و معناهـا : الصخرة الملساء ، وَ مُذَكَّرُ الصَـفا : صَفْوانٌ [ الحَجَرُ الأمْلَسُ ] : ( فَمَـثَـلُـهُ كَـمَـثَـلِ صَـفْـوانٍ عَـلَـيْهِ تُرابٌ )[ البقرة 264 ] ، أمّا [ المَروَة ] فـمعناهـا : الصخرة البيضاء ، وَ يَحْلِقونَ شُعُورَهُمْ عِنْدَ المَرْوَة : ( إنَّ الـصَــفَـا وَ الـمـرْوَةَ مِـنْ شَـعَـائِرِ اللّـهِ فَمَـنْ حَـجَّ الـبيتَ أوِ اعْـتَمـرَ فَلاَ جُـناحَ عَـلَـيْهِ أنْ يَطَّـوَفَ بِهِـمَـا )[ البقرة 158 ] .

و المسافة بين الصفـا و المروة هي / 420 / متر ، ففي السعي بينهُمـا سبعة أشواط ، يكون الحاجّ قد سار حوالي / 3 كيلومتر / ، و هذه رياضةٌ للمشي فيهـا كل الصحة و الحيوية إضافةً لثوابهـا الكبير .

يقولُ خُوَيْلـدُ الهُـذَليّ :

حتّى كَأنيّ للحَوادِثِ مَـرْوَةٌ بِصَـفا المُشَـرِّقِ كُلَّ يـومٍ تُقْرَعُ

يتربّصـنَ ، وصـيّةً :

مَوْضُوعُ العِدَّةِ : ( وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً يَتَـرَبَّصْـنَ بِأنْفُسِـهِـنَّ أَرْبَعَـةَ أَشْـهُـرٍ وَ عَـشْـراً فَإذا بَلَـغْـنَ أَجَـلَـهُـنَّ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ بِــالـمَـعْـروفِ )[ البقرة 224 ]

استَخْدَمَ حَرْفَ [ البَـاءِ ] للجَرِّ في كلمة : [ بالمعروف ] ، للدَلاَلَةِ عَلى أَمْرٍ واحِـدٍ مَعْروفٍ هُوَ الـزَواجُ فقطْ وَ لِذَلِكَ جَاءَتْ كَلِمَةُ [ الـمعْروفِ ] مُعَرَّفَةٌ بِـ [ الْ ] ، لذلك هذه لآية الكريمة تتحدّث عن موضوع واحد هو : [ العدّة للمرأة ] .

مَوْضُوعُ النَفَقَـةِ : ( وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً وَصِـيَّـةً لأزْواجِـهِـمْ مَـتَاعَـاً إلـى الـحَـوْلِ غَـيْرَ إخْـراجٍ فَإنْ خَـرَجْـنَ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ مِـنْ مَـعْـروفٍ )[ البقرة 240 ]

هذه الآية الكريمة تتحدّث عن [ الوصية المالية ] في حال وفاة الزوج ، و هذه الوصية تَكْفيهَا حل كامل ، كَيْ لاَ تَضْطَـرَّ المَرْأةُ للخُروجِ إلى العَمَـلِ ، و لذلك استخدم هنـا حرف الجرّ [ منْ ] ، و جاءت كلمة [ معروف ] غير معرّفة ب [ ال التعريف ] ، للدلالة على حالات عديدة أمام المرأة في البحث عن عمل شريف تقوم به بعد وفاة زوجهـا .

لذلك هاتان الآيتان لا [ تنسخان ] بعضهُمـا ، كمـا يقولون ، لأنّ كل آية تتحدّث عن موضوع مختلف عن الآخر .

كل هـذا و اللـه أعلم


     

(سورة الفاتحة) تفسير د.علي منصور الكيالي

سورة الفاتحة

هي سورة مكيّة ، ترتيبها في المصحف [ 1 ] ، و ترتيب نزولهـا [ 5 ] نزلت قبل سورة المسَـد و بعد سورة المدّثر ، و لهـا خواصّ تنفرد بهـا من بين جميع سُوَر القُرآن الكريم ، و من هذه الخواصّ :

سُـهُولَةِ قِرَاءَتِهَـا مِنْ كلّ اللُغَـاتِ لِخُلوِّهَـا مِنْ تَعْقيدَاتِ عِلْمِ التَجْويدِ : [ الإدْغامُ وَ الإخْفاءُ وَالإظْهَارُ وَالإقْلاَبُ وَالقَلْقَلَةُ وَأحْكَامُ الميمِ 000 وَ غَيْرِهَا ] ، كَمَا أنَّهَـا السُورَةُ الوَحيدَةُ التي تَتَوافَقُ مَعَ كُلِّ آيَاتِ القُرْآنِ الكَريمِ ، إِذْ يَجُوزُ قِرَاءَةُ أيِّ آياتٍ مِنَ القُرْآنِ بَعْدَهَـا أثْنَـاءَ الصَلَواتِ ، وَهِيَ السُورَةُ الوَحِـيدَةُ التي فَرَضَ اللّـهُ قِرَاءَتَهَـا [ 17 ] مَـرَّة عَلى الأقَلِّ في اليَوْمِ الواحِـدِ ، أثْنَـاءَ رَكَعَـاتِ الصَلاَةِ المَفْروضَةِ ، إذَا لَمْ نُضِفْ لَهَـا رَكَعاتِ صَلاَةِ السُـنَّةِ ، حَيْثُ يَجُوزُ قِراءَتِهَـا لِوَحْدِهَـا في لرَكَعَاتِ الأخِيرَةِ مِنَ الصَلَواتِ بَعْدَ الجُلُوسِ ، فَلاَ تَصِحُّ الصَلاَةُ بِقِراءَةِ أيِّ آيَـاتٍ مِنَ القَرْآنِ لِوَحْدِهَـا بِدُونِ قِرَاءَةِ الفَاتِحَـةِ ، وَ لَـوْ قَرَأنَـا كُلَّ القُـرْآنِ دُونَ الفَاتِحَـةِ .

( الـحَـمْـدُ لِلَّـهِ )[ الفاتحة 2 ] ، تَمَّ تَقْديـمُ كَلِمَةِ الحَمْدِ عَلى لَفْظِ الجَلاَلَةِ ( للّه ) ، وَ هِيَ قِمَّةُ فَـنٍّ بَـلاَغِيٍّ يُسَمَّى : [ فَنُّ التَحْميـدَاتِ ] ، وَ [ الحَمْـدُ ] فيهِ مُنْتَهى التَواضُعِ الأخْلاَقِيِّ لِلإنْسَانِ مَعَ الآخَرينَ بِشَكْلٍ عَامٍّ ، وَ مَعَ خَالِقِـهِ بِشَـكْلٍ خَاصٍّ ، لِذَلِكَ جاءت : ( الـحَـمْـدُ لِلَّـهِ ) بِصِيغَةِ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ التي تُفيدُ الثُبُوتَ وَالإطْـلاَق َ، فَهِيَ غَيْرُ مُرْتَبِطَـةٍ بِزَمَـانٍ أوْ مَكَانٍ أوْ مَادِحٍ مُعَيَّنٍ ، وَ هِيَ أوْلى مِنْ جُمْلَةِ [ حَمْدَاً ] بِصِيغَةِ النَكِرَةِ ذَاتِ الصِيغَةِ الفِعْلِيَّةِ ، وَ الحَمْدُ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِلحَيِّ ، أمَّا المَيِّتُ أوِ الجَمادُ فَيُمْدَحُ فَقَطْ ، فَنَحْنُ [ نَمْدَحُ ] مَعْدَنَ الذَهَبِ مَثَلاً وَ لاَ [ نَحْمَدُهُ ] ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : [ المَـدْحُ لِلَّهِ ] ، وَ الحَمْـدُ لاَ يَأْتي إلاَّ بَعْدَ الإحْسَانِ للمَادِحِ وَغَيْرِهِ ، أمَّا [ الشُكْرُ ] فَيَكُونُ بِالإنْعَامِ الوَاصِلِ للشَاكِرِ فَقَطْ ، وَ لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : [ الشُكْرُ لِلَّهِ ] .

وَاللَّهُ سبحانه [ حَميدٌ ] بِذَاتِهِ دُونَ الحَاجَةِ لِحَمْدِ المَخْلُوقَاتِ لهُ : ( وَ كَـفَروا وَ اسْـتَغْـنى اللّـهُ وَ اللّـهُ غَـنِيٌّ حَـمِـيدٌ )[ التغابن 6 ] ، وَ قَدْ ذَمَّ اللهُ طَالِبي الحَمْدِ : ( وَ يُحِـبُّونَ أنْ يُحْـمَـدوا بِمَا لَمْ يَفْعَـلُوا )[ آل عمران 188] .

(غَـيْرِ الـمَـغْـضُـوبِ عَـلَـيْهِـمْ )[ الفاتحة 7 ] ، وَ منَ المغضوب عليهم قاتلي الناس : ( وَمَـنْ يَقْتُلْ مُـؤْمِـنَاً مُـتَعَـمَّـدَاً فَجَـزَاؤُهُ جَـهَـنَّمُ وَغَـضِـبَ اللّـهُ عَـلَـيْهِ وَ لَـعَنَهُ )[ النساء 93 ]

وَ مِنْهُمْ الكافـرين : ( فبَاءوا بِغَـضَـبٍ عَـلـى غَـضَـبٍ وَ لِلْـكَـافِـريْنَ عَـذَابٌ مُـهِـيْنٌ ) [ البقرة 90 ] .

( وَلاَ الـضَـالّـينَ )[ الفاتحة 7 ] ، وَ مِنْهُمْ الكافِرونَ : ( وَ مَـنْ يَـكْـفُرْ باللّـهِ وَ مَـلاَئِـكَـتِهِ وَ كُــتُبِهِ وَ الـيَوْمِ الآخِـرِ فَقَـدْ ضَـلَّ ضَـلاَلاً بَعِـيدَاً )[ النساء 136 ] ، وَ مُتَّبِعي الهَـوى : ( قُلْ لاَ أتَّبِـعُ أهْـواءَكُـمْ قَـدْ ضَـلـَلَـتُ إذَاً وَ مَـا أنَا مِـنَ الـمُـهْـتَدينَ قُـلْ إنَّي عَـلـى بَيِّنَةٍ مِـنْ رَبَّي )[ الأنعام 56 ] ، و الذينَ يقنطون من رحمة الله هُـم أيْضاً ضـالّون : ( وَمَـنْ يَقْـنَطُ مِـنْ رحْـمَة ربّهِ إلاّ الـضـالّونَ )[ الحجر 56 ] .