الواقع والطموح:ـ
الواقع المشاهد في علاقة الأمَّة بالقرآن المجيد أنَّها علاقة وصل شكليٍّ، وهجر حقيقيٍّ وفعليٍّ. أمَّا الوصل الشكليُّ فتؤكد وجوده إذاعات القرآن الكريم، وطباعة القرآن، وتزيينه، والأحاديث التي تدور حوله، ومعاهد تحفيظه، والمسابقات والجوائز وما إلى ذلك، فهذا واقع يشي بوجود حالة وصل قد تُقْنِع العامَّة والبسطاء، ومن لا يعرفون من القرآن وعنه إلا تلك الأشكال.ـ
أمَّا الذين يعرفون أنَّ القرآن كتاب حياة واستخلاف وتوحيد وتزكية وعمران، فإنَّ لهم موقفًا آخر. لقد حمل القرآن الوحي الإلهيَّ الذي جاء به الأنبياء كافَّة، وجعل من الأنبياء «أمَّة واحدة»، ومن أتباعهم«أمَّة مسلمة» لله -تبارك وتعالى- يوحِّدها الإيمان ويجمع بينها الإسلام؛ ولذلك فإنَّ القرآن المجيد قد ضمَّ بين دفَّتيه عقيدة الأنبياء كافَّة وأصول وقواعد شرائعهم، وأهم تجاربهم مع البشريَّة عبر تاريخها الممتد، والدروس والعبر التي يمكن أن تُستقى منها، كما قدَّم دليلاً واضحًا لمجموعة السنن والقوانين الكونيَّة والاجتماعيَّة التي تحكم مسارات الحضارات الإنسانيَّة نشوءًا وارتقاءً، صعودًا وهبوطًا؛ وذلك لتمكين الإنسان من بناء عمران راسخ البنيان، متين الدعائم، معنويًّا وماديًّا، تُعَزِّز دعائمه وتشدَّ بنيانه وتُقَوِّيه قيم ثابتة، وغائيَّة صالحة، ومقاصد رائدة، تقود خطى الإنسان نحو «تحقيق غاية الحق من الخلق» بأهدى السبل، وأقوم الوسائل، وأثبت الطرق.
ولذلك كان القرآن المجيد في «جيل التلقي» مركز الدائرة في قلب وعقل ووجدان كل منهم، يستحيل أن يتجاوزوه إلى ما سواه، أو يقدِّموا عليه ما عداه، فضلاً عن أن يستغنوا عنه بما سواه، فكانوا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وبنهيه ينتهون، وبوصاياه وموعظته يتعظون.
ثم تعرَّضت الأمَّة -بعد رسولها الشاهد الأمين صلى الله عليه وآله وسلَّم- إلى تأثيرات سُنَّةِ طول الأمد وقسوة القلوب، فبدأت قبضتها تلين شيئًا فشيئًا عن التمسُّك بالقرآن والاعتصام به، وبذلك بدأت عرى ارتباطها بالقرآن المجيد تنتقض عروة عروة، فنقضت أول ما نقضت «عروة الحكم» فانفرط عقد«أولى الأمر منكم»، واختلفت القلوب، واقتتلت الأمَّة وسفكت الدم الحرام. وكان في كتاب الله -لو أحسنت الأطراف كلّها الرجوع إليه- مخرجًا من تلك الفتن.ـ
فالقرآن قد بيَّن بيانًا شافيًا أنَّ الأمم التي بنيت «بالوحي الإلهيِّ» إذا طال عليها الأمد قست منها القلوب؛ أولا: تغري بينها العداوة والبغضاء، ثانيًا: ثم تحكِّم السيف في رقاب بعضها بعضًا، ثالثًا: ولن ترفع أسيافها عن رقاب بنيها حتى تعود -وهي صادقة خالصة- إلى كتاب ربها، فتطَّرح بين يديه، وتحكِّمه تحكيمًا شاملا في شؤونها وشجونها، وتُعيد بناء علاقاتها به ومعه، وترى فيه -إضافة إلى رؤيتها له في عهد نبيِّها صلى الله عليه وآله وسلَّم- نبيًّا مقيمًا حيًّا دائمًا خالدًا بينها، ترجع إليه فيما جلَّ ودقَّ من شؤونها وشجونها، وتثوِّره لينطق بالحق في كل ما يعتمل في ساحاتها، فتُحِلُّ حلاله، وتُحَرِّم حرامه، وتعمل به، ولا تقطع أمرًا دونه، ولا تسبقه بالقول في أيِّ شيء من الأشياء، فله الاحتكام وبه الالتزام، وعلى هديه المعوَّل، توالي مَنْ يواليه، وتُعادي من يُعاديه، وتُجافي مَنْ يتنكَّب سبيله، تعمل بكل أحكامه، وتتعظ بكل قصصه وأمثاله، وتعتبر بها، وتهتدي بكل آياته، وتستشفي به من سائر انحرافاتها، حتى يكون نظام حياتها، ومنهاج حركتها، ونبراس وجودها. فلا تعشو عنه لحظة، ولا يغيب عنها ثانية، وإلا فإنَّ الله -تعالى- غنيٌّ عن الشركاء وغنيٌّ عن سائر أولئك الذين يجعلون القرآن عضين، أو يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أو يكونون من أولئك الذين قال -سبحانه- فيهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106).ـ
فكيف يمكن أن يتحقق هذا الهدف الذي نتمنَّاه؟ وما سبيل الوصول إليه بحيث يكون القرآن المجيد -من جديد- في مركز الدائرة من قلوبنا وعقولنا ووجداننا، ليأخذ بأيدينا إلى التي هي أقوم؟!
* * *
أ- الهدف الأساسي -إذن- هو إعادة القرآن المجيد إلى مركز الدائرة في عقول أبناء الأمَّة وقلوبهم ووجدانهم وحياتهم كلّها بكل جوانبها.
الوسائل المقترحة:
1- تخلية العقل المسلم من سائر الأفكار التي صرفته عن القرآن المجيد قديمها وحديثها، وباعدت بينه وبين الأمَّة، وجعلته في سلوكها كتابًا خاصًّا بالدار الآخرة بعيدًا عن الحياة الدنيا وشؤونها وشجونها.
2- وذلك يقتضي ما يلي:
أ- فحص ورصد مسيرة أمَّتنا مع القرآن الكريم وبه؛ لنتبيَّن سائر العوامل والمتغيِّرات التي حدثت حتى أوصلت علاقة أمتنا بالقرآن إلى حالة الهجر والفصام التي نبَّهنا إليها.ـ
ب- مراجعة تراثنا الإسلاميِّ -في معارفه المختلفة- مراجعة شاملة لمعرفة مدى اتصاله بالقرآن، ومدى انفراج الزاوية معه، والانفصال عنه؟ وما الذي يمكن رصده في التراث من مؤثِّرات في تلك العلاقة في الجانبين: الإيجابيِّ والسلبيِّ، مع عناية خاصَّة برصد ما اشتملت عليه «علوم القرآن» من تفسير وأسباب نزول وما إليها. وكذلك الحال بالنسبة لعلم «أصول الفقه» وأدلَّته وثماره.ـ
جـ- مراجعة المؤثِّرات من التراث المعاصر -الغربيِّ منه وسواه- وبخاصَّة تلك التي نزعت عن الوحي الصفة العلميَّة والمعرفيَّة فهمَّشت سائر الكتب الدينيَّة وأبعدتها، فلم تعد في الإطار المعرفيِّ القائم من مصادر المعرفة المعاصرة، وقد تعرَّض القرآن المجيد إلى نسبة أكبر من التهميش ليس من الصعب الكشف عنها.ـ
د- العمل على تقديم القرآن المجيد للعقل السليم -بل وللعالم كلِّه- تقديمًا يهيء الأمَّة والعالم لإدراك «حقيقة القرآن»، باعتباره كتابًا كونيًّا معادلاً للكون وحركته، ذا وحدة بنائيَّة، ومحددات منهاجيَّة كثيرة، كفيلة بأن تجعل منه مركز الدائرة من جديد في عقولنا وقلوبنا ووجداننا وحياتنا كلِّها، بل وحياة العالم كلِّه.ـ
هـ- بناء «نظريَّة كاملة للتدبُّر السليم»، قائمة على هديه -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- في «التدبُّر»، تجعل من التدبُّر أمرًا يمكن تعليمه للناس وتربيتهم عليه وتدريبهم على ممارسته، وقد تطوَّرت المعارف المتعلِّقة بالتدريب على التأمُّل في النصوص، وتحليلها، وكيفيَّة الوصول إلى مدلولاتها المتنوعة بمستوياتها المختلفة، فهناك نصوص تدرَّس ويُنظر فيها لتربية ملكات مختلفة لدى الإنسان، وهناك نصوص يقود تدبُّرُها والعناية بها إلى تأسيس وبناء حاسة أدبيَّة أو نقديَّة أو فنيَّة؛ والقرآن المجيد فيه من ذلك كلِّه، فهو يُوقظ ملكات متدبِّريه، ويُعطي لقوى وعيهم وحواسِّهم الإدراكيَّة مزيات لا تبلغها بأيِّ نصٍّ من النصوص عداه، فهو خطاب الله -تعالى- إلى فطرة الإنسان وعقله، وضميره ووجدانه، وهو بصائر لقوى وعيه كلِّها، يُربِّيها، ويزيل كل ألوان الصدأ والرين عنها، ويجعل منها حواسًّا قادرة على ممارسة هذا الذي يطلق عليه المربون اليوم Creative Thinking .ـ
و_ بناء «نظريَّة كاملة» لتفسير القرآن بالقرآن، وهو التفسير الذي أُثر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- فيما نقله أصحاب الصحاح من آيات قليلة فسَّرها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- تفسيرًا قوليًّا. أمّا «التفسير التأويليّ أو التطبيقي» فإنَّ السنَّة الصحيحة -بجملتها- تفسير للقرآن، وتأويل وتفعيل له في الواقع الذي عاشته الأمَّة في «جيل التلقي».ـ
د. طه جابر العلواني